قوله تعالى : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } . يعني التوراة ، يكفينا ذلك .
قوله تعالى : { ويكفرون بما وراءه } . أي بما سواه من الكتب كقوله عز وجل ( فمن ابتغى وراء ذلك ) أي سواه ، وقال أبو عبيدة : بما بعده .
قوله تعالى : { وهو الحق } . يعني القرآن .
قوله تعالى : { مصدقاً } . نصب على الحال .
قوله تعالى : { لما معهم } . من التوراة .
قوله تعالى : { قل } . لهم يا محمد .
قوله تعالى : { فلم تقتلون } . أي قتلتم .
قوله تعالى : { أنبياء الله من قبل } . ولم : أصله لما فحذفت الألف فرقاً بين الخبر والاستفهام كقولهم فيم وبم .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . بالتوراة ، وقد نهيتم فيها عن قتل الأنبياء عليهم السلام .
ثم حكى القرآن بعد ذلك بعض المعاذير الكاذبة التي كان اليهود يعتذرون بها عندما يدعون إلى الدخول في الإسلام ، فقد كانوا يقولون إننا مكلفون ألا نؤمن إلا بكتابنا التوراة ، فنحن نكتفي بالإِيمان به دون غيره ، استمع إلى القرآن - وهو يعرض دعاواهم الكاذبة ثم يقذفها بالحق فيدمغها - حيث يقول : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ . . . }
معنى الآيات الكريمة . أن اليهود المعاصرين للعهد النبوي كانوا إذا عرض عليهم الإِيمان بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم أجابوا بقولهم : نؤمن بما أنزل علينا وهو التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على موسى ، ويجحدون غيرها وهو القرآن الكريم المصدق لها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكذبهم في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم فقال : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } بالتوراة فإنها تنهاكم عن قتلهم
ثم كذبهم القرآن الكريم مرة أخرى فقال : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات } أي : بالآيات الواضحات الدالة على صدقه ، ولكنكم { اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد ذهابه لميقات ربه { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } لعبادتكم غير الله تعالى .
ثم كذبهم القرآن الكريم - في دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم - بصورة أخرى سوى ما سبقها فقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } وقلنا لكم : { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم - من التوراة - بِقُوَّةٍ } أي بجد حزم { واسمعوا } ما أمرتم به فيها سماع تدبر وطاعة . ولكن أسلافكم الذين أنتم على شاكلتهم قالوا لنبيهم : { سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك . وخالط حب العجل قلوبهم كما يخالط الماء أعماق البدن ، وكل هذه الأفاعيل منكم لا تناسب دعواكم الإِيمان بما أنزل إليكم ، وإذا فبئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون ، فالواقع أن التوراة بريئة من أعمالكم ، وأنتم بعيدون عن الإِيمان بها .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } تصوير لنوع آخر من قبائح اليهود ، وإخبار عن إعراضهم عن الحق بدعوى أنهنم مكلفون بعدم الإِيمان إلا بما أنزل الله على موسى وهو التوراة .
والمقصود { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } القرآن الكريم . ولم يذكر المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به أو للتنبيه على أن وجوب الإِيمان بالكتاب ، يكفى فيه العلم بأنه منزل من عند الله - تعالى - ومتى استقر في النفس أن القرآن الكريم من عند الله ، استتبع ذلك استحضاراً أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
وقولهم : { بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } معناه : نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله على نبينا موسى دون غيرها مما أنزله الله عليك - يا محمد- ، وجوابهم هذا يدل على غبائهم وعنادهم . لأن الداعي لهم إلى الإِيمان ، يطلب منهم أن يؤمنوا بكل ما أنزل الله من الكتب السماوية ، ولكنهم قيدوا أنفسهم بالإِيمان ببعض ما أنزل الله وهو ما أنزل عليهم ، فلم يكن إيمانهم مطابقاً لما أمر الله به وهو التصديق بجميع الكتب السماوية ، ولا شك أن من آمن ببعض الكتب السماوية وكفر ببعضها يكون كافراً بجميعها .
وقوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } قصد به بيان التصريح بكفرهم بالقرآن الكريم بعد أن لمحوا بذلك في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } والضمير في { وَرَآءَهُ } يعود على { بمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } المكنى به عن التوراة ، أي : قالوا نؤمن بما أنزل علينا والحال أنهم يكفرون بما سوى التوراة أو بما بعدها وهو القرآن الكريم .
قال ابن جرير - رحمه الله - : " وتأويل وراء في هذا الموضع : سوى ، كما يقال للرجل المتلكم باحسن ما وراء هذا الكلام الحسن شيء . يراد به : ليس من عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام ، فكذلك معنى قوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } أي بما سوى التوراة ، وبما بعده من كتب الله التي أنزلها على رسله " .
والضمير " هو " في قوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } يعود إلى القرآن الكريم المكني عنه بقوله " بما وراءه " والحق : الحكم المطابق للواقع . ووصف به القرآن الكريم لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع .
ومعنى كون القرآن مصدقاً لما مع اليهود وهو التوراة ، أنه يدل على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا كان مؤيداً للتوراة التي بشرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له نعوتاً لا تنطبق إلا عليه ، وبذلك يكون اليهود الذين يدعون الإِيمان بما أنزل عليهم كاذبين في دعواهم ، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي بِشرت به توراتهم وأمرتهم بالإيمان به وأيدها القرآن الكريم في ذلك .
قال صاحب الكشاف : وفي قوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } رد لمقالتهم { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } لأنهم إذ كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها " .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ويبطل دعواهم الإِيمان بما أنزل عليهم بدليل إلزامي فقال تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين إذا دعوتهم إلى الإيمان بك قالوا . { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } قل لهم : إن كنتم حقاً مؤمنين بما أنزل عليكم وهو التوراة ، فلأي شيء تقتلون أنبياء الله مع أن التوراة تحرم عليكم قتلهم ، بل هي تأمركم باتباعهم وتصديقهم وطاعتهم لأنه أرسلهم لهدايتكم وسعادتكم .
إن قتلكم لهم أكبر دليل على أنكم لم تؤمنوا لا بما أنزل عليكم ، ولا بغيره وأنكم كاذبون في مدعاكم لأن جميع ما أنزل الله من وحي يحرم قتل الأنبياء ، ويأمر الناس باتباعهم وطاعتهم .
ويرجع معنى الآية إلى نفي فعل الشرط وهو كونهم مؤمنين ، إذ لا وجه لقتلهم الأنبياء إلا عدم إيمانهم بالتوراة ، وهذا كما تريد أن تنفي عن جرل العقل لفعله ما ليس من شأنه أن يصدر من عاقل ، فتقول له : إن كنت عاقلا فلم فعلت كذا ؟ أي أنت لست بعاقل .
والفاء في قوله تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } واقعة في جواب محذوف دل عليه ما بعده ، والتقديرر إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله - تعالى - .
والإِتيان بالمضارع في قوله - تعالى - : { تَقْتُلُونَ } مع أن القتل للأنبياء وعق من أسلافهم بقرينة قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } لقصد استحضار تلك الجناية الشنيعة ، وللتنبيه على أن ارتكابهم لتلك الجريمة البشعة يتجدد ويقع منهم المرة تلو الأخرى ، وللإِشعار بأن الخلف يمشون على عماية السلف ، في التعدي والعصيان ، فلقد حاول اليهود المعاصرون للعهد النبوي قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله - تعالى - عصمه منهم ، ونجاه من مكرهم .
وأضاف سبحانه - الأنبياء إليه فقال : { أَنْبِيَآءَ الله } للتنبيه على شرفهم العظيم ، وللدلالة على فظاعة عصيان اليهود واجتراحهم المنكر ، إذ قابلوا بالقتل من يجب عليهم أن يقابلوهم بالتصديق والتوقير والطاعة .
{ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } يعم الكتب المنزلة بأسرها . { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } أي بالتوراة { ويكفرون بما وراءه } حال من الضمير في قالوا ، ووراء في الأصل جعل ظرفا ، ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه ، وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو قدامه ، ولذلك عد من الأضداد . { وهو الحق } الضمير لما وراءه ، والمراد به القرآن { مصدقا لما معهم } حال مؤكدة تتضمن رد مقالهم ، فإنهم لما كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } اعتراض عليهم بقتل الأنبياء مع إدعاء الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغه ، وإنما أسنده إليهم لأنه فعل آبائهم ، وأنهم راضون به عازمون عليه . وقرأ نافع وحده أن " أنباء الله " مهموزا في جميع القرآن .
معطوف على قوله : { ولما جاءهم كتاب من عند الله } [ البقرة : 89 ] المعطوف على قوله : { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفاً على { وقالوا قلوبنا غلف } على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا : قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسداً أن نزل على رجل من غيرهم ، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلاً من عند الله أعرضوا وقالوا : نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى ، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيداً لقوله الآتي : { ما ننسخ من آية } [ البقرة : 106 ] الآيات .
وقولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم { آمنوا بما أنزل الله } علموا أنهم إن امتنعوا امتناعاً مجرداً عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم { نؤمن بما أنزل علينا } أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه . وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع { نؤمن } أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم { آمنوا بما أنزل الله } وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضياً الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي { آمنوا بما أنزل الله } وجوابها بقولهم { نؤمن بما أنزل علينا } .
وقوله تعالى : { ويكفرون بما وراءه } جيء بالمضارع محاكاة لقولهم { نؤمن بما أنزل علينا } وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيراً في معنى التعجب والغرابة . وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله { وهو الحق مصدقاً لما معهم } .
والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدراً . جعل الوراء مجازاً أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضاً مجازاً عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة : * وليس وراء الله للمرء مطلب * واستعمل أيضاً بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] وقول لبيد :
أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تحني عليها الأصابع
فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في « الموازنة » كونه ضداً .
فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله : { وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله } ولتعقيبه بقوله : { وهو الحق مصدقاً } .
وجملة { وهو الحق } حالية واللام في { الحق } للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان :
وإن سنام المجد من آل هشام *** بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في « دلائل الإعجاز » . وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله { مصدقاً } أي هو المنحصر في كونه حقاً مع كونه مصدقاً فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقاً لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصراً على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق . ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم .
وقوله : { مصدقاً } حال مؤكدة لقوله : { وهو الحق } وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله { مصدقاً لما معهم } مشعر بوصف زائد على مضمون { وهو الحق } إذ قد يكون الكتاب حقاً ولا يصدق كتاباً آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شؤونهم وهيئاتهم .
وقوله : { قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبئاء دأب لهم وأن قولهم : { نؤمن بما أنزل علينا } كذب إذ لو كان حقاً لما قتل أسلافهم الأنبئاء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم . وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبئاء .
والإتيان بالمضارع في قوله : { تقتلون } مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله : { من قبل } فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مراداً به الاستقبال في قوله :
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** أن الوليد أحق بالعذر
والمراد بأنبئاء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى : { ويقتلون النبيئين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قيل لهم}، يعني: اليهود... {آمنوا}، يعني صدقوا {بما أنزل الله} من القرآن على محمد. {قالوا نؤمن بما أنزل علينا}، يعني: التوراة. {ويكفرون بما وراءه}، يعني:بما بعد التوراة؛ الإنجيل والفرقان. {وهو الحق}، يعني: قرآن محمد. {مصدقا لما معهم}، يقول تصديقا لمحمد بما أنزل الله عليه من القرآن مكتوبا عندهم في التوراة.
{قل} لهم يا محمد: {فلم تقتلون أنبياء الله}، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإيمان، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجيئ بها إلى قومهم، يقول الله سبحانه: فقد كانت الأنبياء تجئ إلى آبائهم، فكانوا يقتلونهم، فقال الله عز وجل: قل يا محمد فلم تقتلون أنبياء الله من قبل، يقول: فلم قتلتم أنبياء الله {من قبل}، يعني: آباءهم، وقد جاءوا بالآيات والقربان.
{إن كنتم مؤمنين}، يعني: إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم في التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، فقد جاءوا بالقربان، فلم قتلتموهم؟ يعني أباءهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ}: وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمِنُوا" أي صدّقوا، "بِمَا أنْزَلَ اللّهُ "يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. "قالُوا نُؤْمِنُ" أي نصدّق، "بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا" يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى.
{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}: ويجحدون بما وراءه، يعني بما وراء التوراة. وتأويل «وراءه» في هذا الموضع «سوى» كما يقال للرجل المتكلم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شيء، يراد به ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام فكذلك معنى قوله: "وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ" أي بما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله التي أنزلها إلى رسله...
{وهُوَ الحَقّ مُصدّقا}: أي ما وراء الكتاب الذي أنزل عليهم من الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه الحق. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم... وإنما قال جل ثناؤه: {مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ} لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا، ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام، فلذلك قال جل ثناؤه لليهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه: إنّهُ الحَقّ مُصَدّقا للكتاب الذي معهم، يعني أنه له موافق فيما اليهود به مكذّبون.
قال: وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادا لله وخلافا لأمره وبغيا على رسله صلوات الله عليهم.
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّه} ِ: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل الذين إذا قلت لهم: "آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا"، لِمَ تَقْتُلُونَ إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم أنْبِياءهُ، وقد حرّم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم. وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم: "نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا" وتعيير لهم...
فإن قال قائل: وكيف قيل لهم: "فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياء اللّهِ مِنْ قَبْلُ" فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثم أخبر أنه قد مضى؟ قيل: إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك، فقال بعض البصريين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء الله من قبل؟ كما قال جل ثناؤه: "وَاتّبعُوا ما تَتْلُو الشّياطِين" أي ما تلت... وزعم أن «فعل ويفعل» قد تشترك في معنى واحد...
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما قيل: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ} فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي، كما يعنف الرجلُ الرجل على ما سلف منه من فعل، فيقول له: ويحك لم تكذب ولم تبغّض نفسك إلى الناس؟
قال: ومثله في الكلام: إذا نظرت في سيرة عمر لم تجده يسيء، المعنى: لم تجده أساء، فلما كان أمر عمر لا يشكّ في مضيه، لم يقع في الوهم أنه مستقبل، فلذلك صلحت من قبل مع قوله: "فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ".
قال: وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتلَ الأنبياءَ أسلافُهم الذين مضوا، فتلوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم.
والصواب فيه من القول عندنا؛ أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به نظير قول العرب بعضها لبعض: فعلنا بكم يوم كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا وكذا، على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: "فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ"، وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم على نحو الذي بينا، جاز أن يقال من قبل إذْ كان معناه: قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل؟ وكان معلوما بأن قوله: "فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ" إنما هو خبر عن فعل سلفهم.
"مِنْ قَبْلُ" أي من قبل اليوم.
{إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإنه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما زعمتم. وإنما عَنَى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم، إن كانوا وكنتم كما تزعمون أيها اليهود مؤمنين. وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم: "آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا" لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبياء الله مع قيلهم: "نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنا" متولّين، وبفعلهم راضين، فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولون قتلة أنبياء الله؟ أي ترضون أفعالهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا نؤمن بما أنزل علينا} يعني التوراة، وهم لم يكونوا آمنوا بها... لأنهم لو كانوا آمنوا بها لكان في الإيمان بها إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم السلام وبجميع ما انزل عليهم لأن فيها الأمر بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل وكتبهم، لأنه قال: {مصدقا لما معهم} أي موافقا له. فالإيمان بواحد منهم إيمان بجميع الكتب، إذ بعضهم موافق لبعض...
{ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم}... ويحتمل: {ويكفرون بما وراءه}، يعني وراء موسى بعيسى وبمحمد صلوات الله عليهم وسلامه كأنه قال: من وراءه صلى الله عليه وسلم...
{قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} فإن قالوا: إنا لم نقتل الأنبياء، ونحن مؤمنون، قيل لهم: إنكم وإن لم تتولوا القتل، فقد رضيتم بصنيع أولئك، واتبعتم لهم مع ما قد هموا بقتل محمد صلى الله عليه وسلم مرارا، ولذلك أضيف إليهم، وقيل: أخبر عز وجل نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم غاية سفههم وعتوهم ومكابرتهم في تكذيبه؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإيمان به وبما أنزل عليه، فقالوا: ائتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء من قبل يأتون بها قومهم...
يقول الله عز وجل: قد كانت الأنبياء من قبل تجيء بما تقولون إلى آبائكم من الآيات والقربان، فكانوا يقتلونهم، فيقول الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم {قل} لهم {فلم تقتلون}؛ يقول: لم قتل آباؤكم أنبياء الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم؟ وقد جاؤوا بالآيات والقربان إن كنتم صادقين بأن الله تعالى {عهد إلينا} في التوراة {ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار} [آل عمران: 183] وقد جاؤوا به، فلم قتلوهم؟
فهم، والله أعلم، أخذوا هذه المحاجة من أوائلهم، وقد علموا بما ظهرت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث، وأنتم تقلدونهم، فقلدوهم بما أنبئتم لو أوتيتم، كما قلدتموهم، وقد علمتم بما عاينتم أن لا حجة لكم، والله أعلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع. وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر، ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء...
اعلم أن هذا النوع أيضا من قبائح أفعالهم {آمنوا بما أنزل الله} أي بكل ما أنزل الله لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم، وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلا من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلا من عند الله وجب الإيمان به، فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض.
{وهو الحق مصدقا لما معهم} فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيانه من وجهين:
(الأول): ما دل عليه قوله تعالى: {وهو الحق} أنه لما ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات التي ظهرت عليه، إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجبا لا محالة، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال.
(الثاني): ما دل عليه قوله: {مصدقا لما معهم} وتقريره من وجهين،
الأول: أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علما ولا استفاد من أستاذ، فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلا علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل.
الثاني: أن القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته، وإلا لم يكن القرآن مصدقا للتوراة بل مكذبا لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر، وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفرا فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلاً آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال:
{وإذا قيل لهم} أي هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم.
{آمنوا بما أنزل الله} أي الملك الذي له الأمر كله مطلقاً. وعلى جهة العموم من الكتب والصحف. ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم، {قالوا} تسفيلاً لأنفسهم: {نؤمن بما أنزل علينا} فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه وخصوا بعض ما أنزله.
ثم عجب من دعواهم هذه بقوله: {ويكفرون} أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون
{بما وراءه} أي وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها...
قال الحرالي: وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث إنه لا يعلم ويكون أماماً في المكان...
{وهو} أي والحال أن ذلك الذي وراءه هو {الحق} الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه "أل". قال الحرالي: فأنهاه لغاية الحق بكلمة "أل "لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو {الحق} وما ثبت وقتاً ما ثم يتعقبه تكملة أو يقبل زيادة فإنما هو" حق "منكر اللفظ، فإن بين المعروف بكلمة" أل "وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى...
{مصدقاً لما معهم} فصح أنهم كافرون بما عندهم، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء...
ثم كشف ستر مقالتهم هذه بأبين نقض فقال {قل فلم} أي تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم: لم {تقتلون أنبياء الله} الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء! ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتاً الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية {من قبل}. وفي صيغة المضارع تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم، لأن التقدير: وتُصرّون على قتلهم من بعد؛ وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً منهم، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة، وسمّه أهل خيبر.
ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال {إن كنتم مؤمنين} إشعاراً بأن مثل ذلك لا يصدر من متلبس بالإيمان...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
صيغة الدعوة تشعر بوجوب الإيمان بما أنزل الله تعالى لأنه هو الذي أنزله لا لأن المنزل عليه فلان. ولذلك لم يقل: آمنوا بما أنزل على محمد. فإن ما أنزل عليه لو أنزل على غيره لوجب الإيمان به. فإن الوحي هو المقصود بالذات والأنبياء إنما هم مبلغون، فتقييد الخضوع لوحي الله بكونه لابد أن يكون منزلا على شخص من شعب كذا بعينه تحكم على الله تعالى وقضاء عليه بأن تكون رحمته مقيدة بأهواء فريق من خلقه. فإيراد الدعوة بما ذكر من الإطلاق مع إيراد الجواب {نؤمن بما أنزل علينا} يشعر بقوة حجة الدعوة، ووهن ما بني عليه الجواب من الشبهة.
ثم صرح بالحقيقة وهي أنهم إنما يدعون هذا الإيمان بألسنتهم {ويكفرون بما وراءه} من مدلول ولازم لا ينفك عنه كالبشارة برسول من بني إخوتهم أي ولد إسماعيل، وكون ما تثبت به نبوة محمد بمساواته لما تثبت به نبوة موسى يستلزم وجوب اتباع محمد كما اتبع موسى، لأن المدلول يتبع دليله في كل زمن وكل موضوع...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأما التفريق بين الرسل والكتب، وزعم الإيمان ببعضها دون بعض، فهذا ليس بإيمان، بل هو الكفر بعينه... ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا، وألزمهم إلزاما لا محيد لهم عنه، فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين
فقال: {وَهُوَ الْحَقُّ} فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات، والأوامر والنواهي، وهو من عند ربهم، فالكفر به بعد ذلك كفر بالله، وكفر بالحق الذي أنزله...
ثم قال: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} أي: موافقا له في كل ما دل عليه من الحق ومهيمنا عليه. فلم تؤمنون بما أنزل عليكم، وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضا، فإن كون القرآن مصدقا لما معهم، يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب، قلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه، صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته، ثم يأتي هو لبينته وحجته، فيقدح فيها ويكذب بها، أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن، كفرا بما في أيديهم ونقضا له...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام. [ف] كانوا يقولون (نؤمن بما أنزل علينا). ففيه الكفاية، وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه. سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين. والقرآن يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم (وهو الحق مصدقا لما معهم)...
وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم! ما داموا لم يستأثروا هم به؟ إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعبدون لعصبيتهم. لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به...
ويلقن الله نبيه [ص] أن يجبههم بهذه الحقيقة، كشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم: (قل: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين؟).. لم تقتلون أنبياء الله من قبل، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذي جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به؟...
والقرآن يأتينا بالحجة البالغة التي تخرس أفواه الكافرين وتؤكد أنهم عاجزون غير قادرين على الحجة في المناقشة...
وهنا لابد أن نتنبه إلى قوله تعالى: {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل}...
[و] قوله تعالى: {من قبل} طمأنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قتلهم الأنبياء انتهى، وفي الوقت نفسه قضاء على آمال اليهود في أن يقتلوا محمدا عليه الصلاة والسلام...
والله يريد نزع الخوف من قلوب المؤمنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما جرى للرسل السابقين من بني إسرائيل لن يجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم... وبذلك قطع القرآن خط الرجعة على كل من يريد أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم... لأن ذلك كان عهدا وانتهى... وأنهم لو تآمروا على قتله عليه الصلاة والسلام فلن يفلحوا ولن يصلوا إلى هدفهم.
واليهود بعد نزول هذه الآية الكريمة لم يتراجعوا عن تآمرهم ولن يكفوا عن بغيهم في قتل الرسل والأنبياء... فحاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة... مرة وهو في حيهم ألقوا فوقه حجرا ولكن جبريل عليه السلام أنذره فتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانه قبل إلقاء الحجر... ومرة دسوا له السم، ومحاولات أخرى فشلت كلها... إذن فقوله تعالى: {من قبل} معناها إن كنتم تفكرون في التخلص من محمد صلى الله عليه وسلم بقتله كما فعلتم في أنبيائكم نقل لكم: إنكم لن تستطيعوا أن تقتلوه... {إن كنتم مؤمنين}... أي بما أنزل إليكم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يشير القرآن مرّة أخرى إلى عصبية اليهود القومية ويقول: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ الله قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}. فهم لم يؤمنوا بالإنجيل ولا بالقرآن، بل إنهم يدورون حول محور العنصرية والمصلحية، فيجرؤون على رفض الدعوة التي جاءت تصديقاً لما معهم في التوراة {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}.
ويكشف القرآن زيف ادعائهم مرة أخرى حين يقول لهم: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْلُ إن كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} هؤلاء يدّعون أنهم يؤمنون بما أنزل عليهم، فهل التوراة تبيح لهم قتل الأنبياء؟! وهذا الذي يقوله بنو إسرائيل: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} ينطلق من روح ذاتية فردية أو فئوية، وهي تخالف روح التوحيد. فالتوحيد يستهدف القضاءَ على كل المحاور الذاتية في حركة الإنسان ومواقفه، و [جعل] نشاطات الفرد [تدور] حول محور العبودية لله لا غير. بعبارة أخرى، لو كان الانصياع للأوامر الإلهية متوقفاً على نزولها عليهم، فهو الشرك لا الإيمان، وهو الكفر لا الإسلام، ومثل هذا الانصياع ليس بدليل على الإيمان قط.
وعبارة (مَا أَنْزَلَ الله) تحمل مفهوم نفي كل ذاتية بشرية في الرسالة، بما في ذلك ذات النّبي المرسل، فلم تتضمن العبارة اسم محمّد وعيسى وموسى عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل التأكيد على الإيمان بما أنزل الله تعالى...