نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

ولما أقام سبحانه الدليل على استحقاقهم للخلود في النار بكفرهم بالكتاب الذي كانوا يستفتحون بالآتي به أقام دليلاً آخر على ذلك أبين منه وذلك بكفرهم بكتابهم نفسه فقال : { وإذا قيل لهم{[3712]} } {[3713]}أي هؤلاء الذين نقضوا عهود كتابهم{[3714]} { آمنوا بما أنزل الله } أي{[3715]} الملك الذي له{[3716]} {[3717]}الأمر كله مطلقاً . وعلى جهة العموم{[3718]} من الكتب والصحف{[3719]} . ولما رفع مقدارهم بالدعاء إلى الإيمان بما أسند إلى هذا الاسم الأعظم { قالوا } تسفيلاً لأنفسهم { نؤمن بما أنزل علينا{[3720]} } فأسقطوا اسم من يتشرف بذكره ويتبرك باسمه{[3721]} وخصوا بعض ما أنزله{[3722]} . ثم عجب من دعواهم هذه بقوله{[3723]} : { ويكفرون } أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون { بما وراءه } {[3724]}أي وراء ما أنزل عليهم مما أنزل الله على رسله ، وهو يشمل ما قبل التوراة وما بعدها ، لأن وراء يراد بها تارة خلف وتارة قدام ، فإذا قلت : زيد ورائي ، صح أن يراد في المكان الذي{[3725]} أواريه أنا بالنسبة إلى من{[3726]} خلفي فيكون أمامي ، وأن يراد في المكان الذي هو متوار عني فيكون خلفي . وقال الحرالي : وراء ما لا يناله الحس ولا العلم حيث ما كان من المكان ، فربما اجتمع أن يكون الشيء وراء من حيث إنه لا يعلم ويكون أماماً في المكان - انتهى . { وهو } أي والحال أن ذلك الذي وراءه هو { الحق } الواصل إلى أقصى غاياته بما دلت عليه " أل{[3727]} " قال الحرالي : فأنهاه لغاية الحق بكلمة " أل " لأن ما ثبت ولا زوال له لانتهائه هو { الحق } وما ثبت وقتاً ما ثم يتعقبه{[3728]} تكملة{[3729]} أو يقبل{[3730]} زيادة فإنما هو " حق " منكر اللفظ ، فإن بين المعروف بكلمة " أل " وبين المنكر أشد التفاوت في المعنى - انتهى . { مصدقاً لما{[3731]} معهم } فصح أنهم كافرون بما عندهم ، لأن المكذب بالمصدق لشيء مكذب بذلك الشيء .

ثم كشف ستر{[3732]} مقالتهم{[3733]} هذه{[3734]} بأبين{[3735]} نقض فقال { قل فلم } أي تسبب عن دعواكم هذه أن يقال لكم : لم { تقتلون أنبياء الله } الملك الأعظم مع أن كتابكم محرم لمطلق القتل فكيف بقتل الأنبياء ! ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم{[3736]} بقوله مثبتاً الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان{[3737]} الماضية { من قبل } وفي صيغة المضارع{[3738]} تصوير لشناعة هذا القتل بتلك الحال الفظيعة{[3739]} ورمز إلى أنهم لو قدروا الآن فعلوا فعلهم ، لأن التقدير : وتُصرّون على قتلهم من بعد ؛ وفيه إيماء إلى حرصهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً منهم ، ولقد صدق هذا الإيماء الواقع ، فقد عزم بنو النضير على أن يلقوا عليه صخرة ، وسمّه أهل خيبر .

ثم أورد مضمون دعواهم بأداة الشك فقال { إن كنتم مؤمنين } إشعاراً{[3740]} بأن مثل ذلك لا يصدر من متلبس بالإيمان{[3741]} .


[3712]:قال أبو حيان: الإخبار عمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، وسياق الآية يدل على أن المراد آباؤهم، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله، وأنهم جنس واحد وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك وأنهم يتولونهم فهم منهم
[3713]:ليست في ظ
[3714]:يست في ظ
[3715]:يست في ظ
[3716]:ليست في ظ
[3717]:ليست في ظ
[3718]:ليست في ظ
[3719]:الجمهور أنه القرآن، وقال الزمخشري: مطلق فيما أنزل الله من كل كتاب
[3720]:يريدون التوراة وما جاءهم من الرسالات على لسان موسى ومن بعده من أنبيائهم، وحذف الفاعل هنا للعلم به لأنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله؛ وذموا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله، فأجابوا بأن آمنوا بمقيد، والمأمور به عام فلم يطابق إيمانهم الأمر –قاله أبو حيان في البحر المحيط 1/ 307.
[3721]:ليست في ظ
[3722]:لست في ظ
[3723]:في مد: بقولهم
[3724]:وفي السراج المنير 1/ 73 {بما وراءه} أي بما سواه من الكتب كقوله تعالى {فمن ابتغى وراء ذلك} أي سواه، قال أبو عبيدة: بما بعده أي من القرآن، وقوله تعالى {وهو} أي ما رواءه -انتهى
[3725]:العبارة من هنا إلى "هو متوار عني" ليست في م.
[3726]:العبارة من هنا إلى "هو متوار عني" ليست في م.
[3727]:في مد: إلى - كذا
[3728]:في ظ: تتعقبه، وفي مد تعقبه، وفي م: تعقبه - كذا
[3729]:في مد: بكلمة
[3730]:في مد: تقبل
[3731]:في السراج المنير 1/ 73: أي من التوراة، حال ثانية مؤكدة تتضمن رد مقالهم، فإنهم كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها، ثم اعترض الله تعالى عليهم بقتل الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة بقوله تعالى {قل} يا محمد {فلم تقتلون}. وفي تبصير الرحمن للمهائمي 1/ 53 {لما معهم} من الكتاب الذي يؤمنون به {قل} إن صح إيمانكم بالتوراة وقد تضمنت ميثاق الإيمان بكل نبي فما لكم لا تؤمنون بالأنبياء، وإن منعكم المتمسك بالتوراة من الإيمان بنبي لنسخه بعض أحكامه {فلم تقتلون} الآية. وفي البحر المحيط 1/ 307 {مصدقا} حال مؤكدة، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل {لما معهم} هو التوراة، أو التوراة والإنجيل لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن، وفيه رد عليهم لأن من لم يصدق ما وافق التوراة لم يصدق بها، وإذ دل الدليل على كون ذلك منزلا من عند الله وجب الإيمان به، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض –انتهى.
[3732]:في ظ: سترة
[3733]:في مد: مقالهم
[3734]:ليس في م
[3735]:في م: بما بين
[3736]:في مد: أسدوفهم -كذا
[3737]:ليس في ظ
[3738]:وفي البحر المحيط 1/ 307 (قال ابن عطية) وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر، ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشرف عظيم لهم وإنه كان ينبغي من جاء من عند الله أن يعظم أجل تعظيم وأن ينصر لا أن يقتل -انتهى
[3739]:في م: القطيعة
[3740]:في م: إشعار.
[3741]:قال علي المهائمي (1/ 50) أي إن صح دعواكم فعلم أنكم لا تؤمنون بها أيضا، ثم أشار إلى أن كفرهم لم يتأخر إلى عصر الأنبياء الذين قتلوهم بل كفروا في عصر موسى بما هو أسد منه –انتهى. وقال أبو حيان: قيل "إن" نافية أي ما كنتم مؤمنين، لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمنا، فأخبر تعالى أن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته، قيل والأظهر أن "أن" شرطية والجواب محذوف، التقدير: فلم فعلتم ذلك. وقال ابن عطية و {إن كنتم} شرط والجواب متقدم