الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

قوله تعالى : { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } : يجوزُ في هذه الجملةِ وجهانِ ، أحدُهما : أَنْ تكونَ استئنافيةً استؤنِفَتْ للإِخبارِ بأنَّهم يكفرُون بما عدا التوراةَ فلا محلَّ لها من الإِعراب . والثاني أن تكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يكفرون ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، والعاملُ فيها " قالوا " أي قالوا : نؤمنُ حالَ كونِهم كافرين بكذا ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيها " نؤمن " ، قال أبو البقاء : " إذ لو كان كذلك لكان لفظُ الحال ونكفر أو ونحن نكفر " يعني فكان يجبُ المطابَقةُ . ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لِما تقدَّم من أن المضارعَ المُثْبَتَ لا يقترن بالواوِ وهو نظيرُ قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . نَجَوْتُ وأَرْهَنُهُمْ مالِكا

وحُذِفَ الفاعلُ من قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ } وأُقيم المفعولُ مُقامَه للعلم به ، إذ لا يُنَزِّلُ الكتبَ السماويةَ إلا اللهُ ، أو لتقدُّمِ ذكره في قولِه : { بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } .

قوله : { بِمَا وَرَآءَهُ } متعلَّق بيَكْفرون ، وما موصولةٌ ، والظرفُ صلتُها ، فمتعلَّقه فعلٌ ليس إلا . والهاءُ في " وراءه " تعودُ على " ما " في قوله : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ } . ووراءَ من الظروف المتوسطةِ التصرُّفِ ، وهو ظرفُ مكانٍ ، والمشهورُ أنه بمعنى خَلْف وقد يكونُ بمعنى أَمام ، فهو من الأَضْداد ، وفَسَّره الفراء هنا بمعنى " سِوَى " التي بمعنى " غَيْر " ، وفَسَّره أبو عبيدة وقتادة بمعنى " بعد " . وفي همزه قولان ، أحدُهما : أنه أصلٌ بنفسِه وإليه ذهبَ ابن جني مُسْتَدِلاًّ بثُبوتِها في التصغيرِ في قولهم : وُرَيْئَة . والثاني : أنها من ياء لقولهم : تَوَارَيْتَ قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ . ولا يجوز أن تكونَ الهمزةُ بدلاً من واو لأنَّ ما فاؤُه واوٌ لا تكونُ لامُه واواً إلا ندوراً نحو " واو " اسمِ حَرْفِ الهجاء ، وحكمُه حكمُ قبلُ وبعدُ في كونِه إذا أُضيف أُعْرِبَ ، وإذا قُطِعَ بُني على الضم وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر :

إذا أنا لم أُومِنْ عليكَ ولم يَكُنْ *** لقاؤُك إلا مِنْ وراءُ وراءُ وراءُ

وفي الحديثِ عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم : " كنتُ خليلاً مِنْ وراءُ وراءُ " ، وثبوتُ الهاء في مصغَّرِها شاذٌ ، لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تَثْبُتُ الهاءُ في مصغَّره إلا في لفظتين شَذَّتا وهما : وُرَيْئَة وقُدَيْدِيمة : تصغير : وراء وقُدَّام . قال ابن عصفور : " لأنَّهما لم يتصرَّفا فلو لم يُؤَنَّثا في التصغير لَتُوُهِّمَ تذكيرهُما " .

قوله : { وَهُوَ الْحَقُّ } مبتدأٌ وخبر ، والجُملةُ في محلِّ نصب على الحال والعاملُ فيها قولُه : " ويَكفرون " وصاحبُها فاعلُ يكفرون . وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ العاملُ الاستقرارَ الذي في قولِه { بِمَا وَرَآءَهُ } أي : بالذي استقر وراءَه وهو الحقُّ .

قوله : { مُصَدِّقاً } حالٌ مؤكِّدة لأنَّ قولَه { وَهُوَ الْحَقُّ } قد تضمَّن معناها والحالُ المؤكِّدةُ : إمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ عاملها نحو : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] ، وإمَّا أَنْ تُؤَكِّدَ مضمونَ جملةٍ . فإن كانَ الثاني التُزِم إضمارُ عاملِها وتأخيرها عن الجملة ، ومثلُه ما أنشدَ/ سيبويه :

أنا ابنُ دارةُ مَعْروفاً بها نَسَبي *** وهَلْ بدارةَ لَلنَّاسِ مِنْ عَارِ

والتقديرُ : وهو الحقُّ أَحُقُّه مصدقاً ، وابنُ دارَة أُعْرَفُ معروفاً ، هذا تقديرُ كلامِ النحويين . وأمّا أبو البقاء فإنه قال : " مصدقاً حالٌ مركِّدةٌ ، والعاملُ فيها ما في " الحقّ " من معنى الفعل إذ المعنى : وهو ثابِتٌ مصدِّقاً ، وصاحب الحالِ الضميرُ المستترُ في " الحقّ " عند قومٍ ، وعند آخرين صاحبُ الحالِ ضميرٌ دَلَّ عليه الكلامُ ، و " الحقّ " مصدرٌ لا يتحَمَّلُ الضميرَ على حَسَبِ تحمُّلِ اسمِ الفاعلِ له عندهم ، فقولُه " عند آخرين " هذا هو الذي قَدَّمْتُه أوَّلاً وهو الصواب .

قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } الفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : إنْ كنتم آمنتم بما أُنزِلَ عليكم فَلِمَ قَتَلتم الأنبياءَ ؟ وهذا تكذيبٌ لهم ، لأن الإِيمانَ بالتوراةِ منافٍ لقتلِ أَشْرَفِ خَلْقِه . و " لِمَ " جارٌّ ومجرورٌ ، اللامُ حرفٌ جرِ وما استفهاميةٌ في محلِّ جَرٍّ أي : لأي شيء ؟ ولكنْ حُذِفَتْ ألِفُها فَرْقَاً بينَها وبين " ما " الخبريةِ . وقد تُحْمَلُ الاستفهاميةُ على الخبريةِ فَتَثْبُتُ أَلفُها ، قالَ الشاعر :

على ما قامَ يَشْتِمُني لئيمٌ *** كخنزيرٍ تمرَّغَ في رَمادِ

وهذا ينبغي أَنْ يُخَصَّ بالضرورةِ كما نصَّ عليه بعضُهم ، والزمخشري يُجيز ذلك ، ويُخَرِّج عليه بعضَ آي القرآن ، كما قد تُحْمَلُ الخبريةُ على الاستفهاميةِ في الحذفِ في قولِهم : اصنعْ بِمَ شِئْتَ ، وهذا لمجردِ الشَّبَهِ اللفظيِّ . وإذا وُقف على " ما " الاستفهاميةِ المجرورة : فإنْ كانَتْ مجرورةً باسمٍ وَجَبَ لَحاقُ هاءِ السكتِ نحو : مَجيء مَهْ ، وإن كانَتْ مجرورةً بحرْفٍ فالاختيارُ اللَّحاقُ . والفرقُ أنَّ الحرفَ يمتزجُ بما يَدْخُلُ عليه فَتَقْوَى به الاستفهاميةُ بخِلافِ الاسمِ المضافِ إليها فإنه في نيةِ الانفصالِ ، وهذا الوقفُ إنما يجوز ابتلاءً أو لقَطْعِ نفسٍ ، ولا جَرمَ أنَّ بعضَهم مَنَع الوقفَ على هذا النحوِ ، قال : " لأنه إنْ وُقف بغيرِ هاءٍ كان خطأً لنقصانِ الحَرْفِ ، وإنْ وُقِفَ بهاءٍ خالفَ السوادَ " ، لكن البزي قد وقف بالهاء ، ومثلُ ذلك لا يُعَدُّ مخالفةً للسواد ، ألا ترى إلى إثباتِهم بعضَ ياءاتِ الزوائدِ . والجارُّ متعلقٌ بقولِهِ : " تقتلون " ، ولكنه قُدِّمَ عليه وجوباً لأنَّ مجرورَه له صدُر الكلامِ ، والفاءُ وما بعدها من " تَقْتُلون " في محلِّ جزم ، وتَقتلون وإن كان بصيغةِ المضارعِ فهو في معنى الماضي لفَهْمِ المعنى ، وأيضاً فمعه قولُه " من قبل " ، وجاز إسنادُ القتلِ إليهم وإنْ لم يَتَعاطَوْه لأنهم لَمَّا كانوا راضِينَ بفعلِ أسلافِهم جُعِلوا كأنَّهم فَعَلوا هم أنفسهم .

قوله : { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } في " إنْ " قولان أحدهما : أنها شرطية وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : إنْ كنتُمْ مؤمنينَ فلِمَ فَعَلْتُم ذلك ، ويكونُ الشرط وجوابُه قد كُرِّر مرتين ، فَحُذِفَ الشرطُ من الجملةِ الأولى وبقي جوابُه وهو : فَلِمَ تقتلون ، وحُذِفَ الجوابُ من الثانيةِ وبقي شرطُه ، فقد حُذِفَ مِنْ كلِّ واحدةٍ ما أُثْبت في الأخرى . وقال ابن عطية : " جوابُها متقدِّمٌ ، وهو قوله : فَلِمَ " وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الكوفيين وأبي زيد . والثاني : أَنَّ " إنْ " نافيةٌ بمعنى ما ، أي : ما كنتم مؤمنين لمنافاةِ ما صَدَر منكم الإِيمانَ .