جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ نُؤۡمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَيَكۡفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُۥ وَهُوَ ٱلۡحَقُّ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَهُمۡۗ قُلۡ فَلِمَ تَقۡتُلُونَ أَنۢبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبۡلُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (91)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنبياء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ }

يعني بقوله جل ثناؤه : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ } وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل للذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم : آمِنُوا أي صدّقوا ، بِمَا أنْزَلَ اللّهُ يعني بما أنزل الله من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم . قالُوا نُؤْمِنُ أي نصدّق ، بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا يعني بالتوراة التي أنزلها الله على موسى .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } .

يعني جل ثناؤه بقوله : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } ويجحدون بما وراءه ، يعني بما وراء التوراة .

قال أبو جعفر : وتأويل «وراءه » في هذا الموضع «سوى » كما يقال للرجل المتكلم بالحسن : ما وراء هذا الكلام شيء ، يراد به ليس عند المتكلم به شيء سوى ذلك الكلام فكذلك معنى قوله : وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ أي بما سوى التوراة وبما بعده من كتب الله التي أنزلها إلى رسله . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَيَكُفُرُونَ بِمَا وراءَهُ } يقول : بما بعده .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي بما بعده ، يعني بما بعد التوراة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } يقول : بما بعده .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ } .

يعني بقوله جل ثناؤه : { وهُوَ الحَقّ مُصدّقا } أي ما وراء الكتاب الذي أنزل عليهم من الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه الحق . وإنما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الذي أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أنْزَلَ اللّهُ ، قالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } وهو القرآن . يقول الله جل ثناؤه : وَهُوَ الحَقّ مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ . وإنما قال جل ثناؤه : { مُصَدّقا لِمَا مَعَهُمْ } لأن كتب الله يصدّق بعضها بعضا ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به ، مثل الذي من ذلك في توراة موسى عليه السلام فلذلك قال جل ثناؤه لليهود إذ خبرهم عما وراء كتابهم الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه من الكتب التي أنزلها إلى أنبيائه : إنّهُ الحَقّ مُصَدّقا للكتاب الذي معهم ، يعني أنه له موافق فيما اليهود به مكذّبون .

قال : وذلك خبر من الله أنهم من التكذيب بالتوراة على مثل الذي هم عليه من التكذيب بالإنجيل والفرقان ، عنادا لله وخلافا لأمره وبغيا على رسله صلوات الله عليهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ لمَ تَقْتُلُونَ أنبياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .

يعني جل ذكره بقوله : { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللّه } ِ : قل يا محمد ليهود بني إسرائيل الذين إذا قلت لهم : آمِنُوا بِما أنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ، لِمَ تَقْتُلُونَ إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل الله عليكم ، أنْبِياءهُ وقد حرّم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم فيه باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم . وذلك من الله جل ثناؤه تكذيب لهم في قولهم : نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وتعيير لهم . كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : قال الله تعالى ذكره وهو يعيرهم ، يعني اليهود : { فلم تَقْتُلُون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين } .

فآن قال قائل : وكيف قيل لهم : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياء اللّهِ مِنْ قَبْلُ فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل ، ثم أخبر أنه قد مضى ؟ قيل : إن أهل العربية مختلفون في تأويل ذلك ، فقال بعض البصريين : معنى ذلك : فلم قتلتم أنبياء الله من قبل ؟ كما قال جل ثناؤه : وَاتّبعُوا ما تَتْلُو الشّياطِين أي ما تلت ، وكما قال الشاعر :

ولقَدْ أمُرّ على اللّئِيمِ يسُبّنِي فمَضَيْتُ عَنْهُ وقُلْتُ لا يَعْنِينِي

يريد بقوله : «ولقد أمرّ » : ولقد مررت . واستدلّ على أن ذلك كذلك بقوله : «فمضيت عنه » ، ولم يقل : «فأمضي عنه » . وزعم أن «فعل ويفعل » قد تشترك في معنى واحد ، واستشهد على ذلك بقول الشاعر :

وإنّي لاَتِيكُمْ تَشَكّرَ ما مَضَى *** مِنَ الأمرِ واسْتِيجابَ ما كانَ فِي غَدِ

يعني بذلك : ما يكون في غد . وبقول الحطيئة :

شَهِدَ الحطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبّهُ *** أنّ الوَلِيدَ أحَقّ بالعُذْرِ

يعني : يشهد . وكما قال الاَخر :

فَمَا أُضْحي وَلا أمْسَيْتُ إلاّ *** أرَانِي مِنْكُمُ في كَوّفانٍ

فقال : أضحي ، ثم قال : ولا أمسيت .

وقال بعض نحويي الكوفيين : إنما قيل : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ } فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي ، كما يعنف الرجلُ الرجل على ما سلف منه من فعل ، فيقول له : ويحك لم تكذب ولم تبغّض نفسك إلى الناس ؟ كما قال الشاعر :

إذَا ما انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدنِي لَئِيمَةٌ *** ولَمْ تَجْدِي مِنْ أَنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا

فالجزاء للمستقبل ، والولادة كلها قد مضت وذلك أن المعنى معروف ، فجاز ذلك .

قال : ومثله في الكلام إذا نظرت في سيرة عمر لم تجده يسيء ، المعنى : لم تجده أساء ، فلما كان أمر عمر لا يشكّ في مضيه لم يقع في الوهم أنه مستقبل ، فلذلك صلحت من قبل مع قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِيَاءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ .

قال : وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة ، إنما قتلَ الأنبياءَ أسلافُهم الذين مضوا ، فتلوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم .

والصواب فيه من القول عندنا أن الله خاطب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ، بما خاطبهم في سورة البقرة وغيرها من سائر السور ، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم ، وبما سلف من كفران أسلافهم نعمه ، وارتكابهم معاصيه ، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه ، وأضاف ذلك إلى المخاطبين به نظير قول العرب بعضها لبعض : فعلنا بكم يوم كذا وكذا ، وفعلتم بنا يوم كذا كذا وكذا ، على نحو ما قد بيناه في غير موضع من كتابنا هذا ، يعنون بذلك أن أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأن أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم . فكذلك ذلك في قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ ، وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرا من الله تعالى ذكره عن فعل السالفين منهم على نحو الذي بينا ، جاز أن يقال من قبل إذْ كان معناه : قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء الله من قبل ؟ وكان معلوما بأن قوله : فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِياءَ اللّهِ مِنْ قَبْلُ إنما هو خبر عن فعل سلفهم . وتأويل قوله : مِنْ قَبْلُ أي من قبل اليوم .

أما قوله : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإنه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم كما زعمتم . وإنما عَنَى بذلك اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم ، إن كانوا وكنتم كما تزعمون أيها اليهود مؤمنين . وإنما عيرهم جل ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم : آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا نُؤمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا لأنهم كانوا لأوائلهم الذين تولوا قتل أنبياء الله مع قيلهم : نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنا متولّين ، وبفعلهم راضين ، فقال لهم : إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم ، فلم تتولون قتلة أنبياء الله ؟ أي ترضون أفعالهم .