وقوله تعالى : { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً } ، أي : أردفوا لعنه تلحقهم وتنصرف معهم ، واللعنة : هي الإبعاد والطرد عن الرحمة ، { ويوم القيامة } ، أي : وفي يوم القيامة أيضا لعنوا كما لعنوا في الدنيا والآخرة ، { ألا إن عاداً كفروا ربهم } ، أي : بربهم ، يقال : كفرته وكفرت به ، كما يقال : شكرته وشكرت له ونصحته ونصحت له .
{ ألا بعداً لعاد قوم هود } ، قيل : بعدا من رحمة الله . وقيل : هلاكا . وللبعد معنيان : أحدهما ضد القرب ، يقال منه : بعد يبعد بعدا ، والآخر : بمعنى الهلاك ، يقال : منه بعد يبعد بعدا وبعدا .
ثم ختم - سبحانه - قصتهم مع نبيهم فى هذه السورة بقوله : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } .
والإِتباع : اقتفاء أثر الشئ بحيث لا يفوته . يقال : أتبع فلان فلانا إذا اقتفى أثره لكى يدركه أو يسير على نهجه .
واللعنة : الطرد بإهانة وتحقير .
أى : أنهم هلكوا مشيعين ومتبوعين باللعن والطرد من رحمة الله فى الدنيا والآخرة .
وقوله : { ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } تسجيل لحقيقة حالهم ، ودعاء عليهم بدوام الهلاك ، وتأكيد لسخط الله عليهم .
أى : ألا إن يوم عاد كفروا بنعم ربهم عليهم ، ألا سحقا وبعدا لهم عن رحمة الله ، جزاء جحودهم للحق ، وإصرارهم على الكفر ، واتسحبابهم العمى على الهدى .
وتكرير حرف التنبيه " ألا " وإعادة لفظ " عاد " للمبالغة فى تهويل حالهم وللحض على الاعتبار والاتعاظ بمآلهم .
هذا ، ومن العبر البارزة فى هذه القصة :
1 - أن الداعى إلى الله ، عليه أن يذكر المدعوين بما يستثير مشاعرهم ، ويحقق اطمئنانهم إليه ، ويرغبهم فى اتباع الحق ، ببيان أن اتباعهم لهذا الحق سيؤدى إلى زيادة غناهم وقوتهم وأمنهم وسعادتهم .
وأن الانحراف عنه سيؤدى إلى فقرهم وضعفهم وهلاكهم .
انظر إلى قول هود - عليه السلام - : { وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ }
2 - وأن الداعى إلى الله - عندما يخلص لله دعوته ، ويعتمد عليه - سبحانه - فى تبليغ رسالته ، ويغار عليها كما يغار على عرضه أو أشد .
فإنه فى هذه الحالة سيقف فى وجه الطغاة المناوئين للحق ، كالطود الأشم ، دون مبالاة بتهديدهم ووعيدهم . . لأنه قد آوى إلى ركن شديد .
وهذه العبرة من أبرز العبر فى قصة هود عليه السلام .
ألا تراه وهو رجل فرد يواجه قوما غلاظا شدادا طغاة ، إذا بطشوا بطشوا جبارين ، يدلون بقوتهم ويقولون فى زهو وغرور : من أشد منا قوة .
ومع كل ذلك عندما يتطاولن على عقيدته ؛ ويراهم قد أصروا على عصيانه .
يواجههم بقوله : { إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . . }
أرأيت كيف واجه هود - عليه السلام - هؤلاء الغلاظ الشداد بالحق الذى يؤمن به دون مبالاة بوعيدهم أو تهديدهم . . ؟
وهكذا الإِيمان بالحق عندما يختلط بالقلب . . يجعل الإِنسان يجهر به دون أن يخشى أحداً إلا الله - تعالى - .
{ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } تركوا اتباع رسولهم الرشيد ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد . فلهذا أتبعوا في هذه الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد{[14705]} ، { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ [ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ] } {[14706]} .
وقوله { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } الآية ، حكم عليهم بهذا الحكم لكفرهم وإصرارهم حتى حل العذاب بهم ، و «اللعنة » : الإبعاد والخزي ، وقد تيقن أن هؤلاء وافوا على الكفر فيلعن الكافر الموافي على كفره ولا يلعن معين حي ، لا من كافر ، ولا من فاسق ، ولا من بهيمة ، كل ذلك مكروه بالأحاديث . و { يوم } ظرف معناه أن اللعنة عليهم في الدنيا وفي يوم القيامة . ثم ذكرت العلة الموجبة لذلك وهي كفرهم بربهم ؛ وتعدى «كفر » بغير الحرف إذ هو بمعنى { جحدوا } كما تقول شكرت لك وشكرتك ، وكفر نعمته وكفر بنعمته ، و { بعداً } منصوب بفعل مقدر وهو مقام ذلك الفعل{[6397]} .
بني فعل { أتبعوا } للمجهول إذْ لاَ غرض في بيان الفاعل ، ولم يسند الفعل إلى اللعنة مع استيفائه ذلك على وجه المجاز ليدل على أنّ إتْبَاعها لهم كان بأمر فاعل للإشعار بأنّها تبعتهم عقاباً من الله لا مجرّد مصادفة .
واللّعنة : الطرد بإهانة وتحقير .
وقرن الدنيا باسم الإشارة لقصد تهوين أمرها بالنّسبة إلى لعنة الآخرة ، كما في قول قيس بن الخطيم :
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسي إلاّ قدْ قضيت قضاءها
أومأ إلى أنّه لا يكترث بالموت ولا يهابه .
وجملة { ألاَ إنّ عاداً كفروا ربّهم } مستأنفة ابتدائية افتتحت بحرف التنبيه لِتهويل الخبر ومؤكدة بحرف { إنّ } لإفادة التعليل بجملة { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } تعريضاً بالمشركين ليعتبروا بما أصاب عاداً .
وعدّيَ { كفروا ربّهم } بدون حرف الجر لتضمينه معنى عَصَوْا في مقابلة { واتّبعوا أمر كلّ جبّارٍ عنيدٍ } ، أو لأنّ المراد تقدير مضاف ، أي نعمة ربّهم لأنّ مادّة الكفر لا تتعدّى إلى الذات وإنما تتعدى إلى أمر معنوي .
وجملة { ألا بعداً لعاد } ابتدائية لإنشاء ذمّ لهم . وتقدّم الكلام على { بعْداً } عند قوله في قصّة نوح عليه السّلام { وقيل بعداً للقوم الظالمين } [ هود : 44 ] .
و { قوم هود } بيان ل ( عاد ) أو وصف ل ( عاد ) باعتبار ما في لفظ { قوم } من معنى الوصفية . وفائدة ذكره الإيماء إلى أنّ له أثراً في الذمّ بإعراضهم عن طاعة رسولهم ، فيكون تعريضاً بالمشركين من العرب ، وليس ذكره للاحتراز عن عاد أخرى وهم إرَم كما جوّزه صاحب « الكشاف » لأنّه لا يعرف في العرببِ عاد غير قوم هود وهم إرم ، قال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بِعادٍ إرَم ذات العماد } [ الفجر : 6 ، 7 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.