وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم } الآية ، قال ابن عباس نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر ، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه ، فيسمع ما يقول ، فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم ، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد ، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً يجلس فيه قام قائماً كما هو ، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبينه وبينه رجل ، فقال للرجل : تفسح ، فقال له : قد أصبت مجلساً فاجلس ، فجلس ثابت خلفه مغضباً ، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل ، فقال : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، فقال له ثابت : ابن فلان ؟ وذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه واستحيا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين ذكرناهم ، كانوا يستهزؤون بفقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخباب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فأنزل الله تعالى في الذين آمنوا منهم : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } أي : رجال من رجال . والقوم : اسم يجمع الرجال والنساء ، وقد يختص بجمع الرجال ، { عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن } . روي عن أنس أنها نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عيرن أم سلمة بالقصر . وعن عكرمة عن ابن عباس : أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب ، قال لها النساء : يهودية بنت يهوديين . { ولا تلمزوا أنفسكم } أي : لا يعب بعضكم بعضاً ، ولا يطعن بعضكم على بعض ، { ولا تنابزوا بالألقاب } التنابز : التفاعل من النبز ، وهو اللقب ، وهو أن يدعى الإنسان بغير ما سمي به . قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق يا كافر . وقال الحسن : كان اليهودي والنصراني يسلم ، فيقال : بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني ، فنهوا عن ذلك . قال عطاء : هو أن تقول لأخيك : يا كلب يا حمار يا خنزير .
وروي عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي : بئس الاسم أن يقول : يا يهودي أو يا فاسق بعدما آمن وتاب ، وقيل معناه : إن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق ، بئس الاسم الفسوق بعد الاسم الإيمان ، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق ، { ومن لم يتب } من ذلك ، { فأولئك هم الظالمون } .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء رابعا ، نهاهم فيه عن أن يسخر بعضهم من بعض ، أو أن يعيب بعضهم بعضا فقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ . . . } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى قوم من بنى تميم ، سخروا من بلال ، وسلمان ، وعمار ، وخباب . . لما رأوا من رثاثة حالهم ، وقلة ذات يدهم .
ومن المعروف بين العلماء ، أن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
وقوله : { يَسْخَرْ } من السخرية ، وهى احتقار الشخص لغيره بالقول أو بالفعل ، يقال : سخر فلان من فلان ، إذا استهزأ به ، وجعله مثار الضحك ، ومنه قوله - تعالى - حكاية من نوح مع قومه : { . . قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } قال صاحب الكشاف : والقوم : الرجال خاصة ، لأنهم القوام بأمور النساء . . واختصاص القوم بالرجال صريح فى الآية ، وفى قوله الشاعر : أقوم آل حصن أم نساء .
وأما قولهم فى قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإِناث ، فليس لفظ القوم بمتعاطف للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور ، وترك ذكر الإِناث لأنهن توابع لرجالهن .
أى : يا من آمنتم بالله حق الإِيمان ، لا يحترق بعضكم بعضا ولا يستهزئ بعضكم من بعض .
وقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } تعليل للنهى عن السخرية . أى : عسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله - تعالى - من الساخر ، إذ أقدار الناس عنده - تعالى - ليست على حسب المظاهر والأحساب . . وإنما هى على حسب قوة الإِيمان ، وحسن العمل .
وقوله : { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } معطوف على النهى السابق ، فى ذكر النساء بعد القوم قرينة على أن المراد بالقوم الرجال خاصة .
أى : عليكم يا معشر الرجال أن تبتعدوا عن احتقار غيركم من الرجال ، وعليكن يا جماعة النساء أن تقلعن إقلاعا تاما من السخرية من غيركن .
ونكر - سبحانه - لفظ { قَوْمٌ } و { نِسَآءٌ } للإِشعار بأن هذا النهى موجه إلى جميع الرجال والنساء ، لأن هذه السخرية منهى عنها بالنسبة للجميع .
وقد جاء النهى عن السخرية موجها إلى جماعة والنساء ، جريا على ما كان جاريا فى الغالب ، من أن السخرية كانت تقع فى المجامع والمحافل ، وكان الكثيرون يشتركون فيها على سبيل التلهى والتلذذ .
ثم قال - تعالى - { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } أى : ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة سواء أكان على وجه يضحك أم لا ، وسواء كان بحضرة الملموز أم لا ، فهو أعم من السخرية التى هى احتقار الغير بحضرته ، فالجملة الكريمة من باب عطف العام على الخاص .
يقال : لمز فلان فلانا ، إذا عابه وانتقصه ، وفعله من باب ضرب ونصر .
ومنهم من يرى أن اللمز ما كان سخرية ولكن على وجه الخفية ، وعليه يكون العطف من باب عطف الخاص على العام ، مبالغة فى النهى عنه حتى لكأنه جنس آخر .
أى : ولا يعب بعضكم بعضا بأى وجه من وجوه العيب . سواء أكان ذلك فى حضور الشخص أم فى غير حضوره .
وقال - سبحانه - { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } مع أن اللامز يلمز غيره ، للإِشارة إلى أن من عاب أخاه المسلم ، فكأنما عاب نفسه ، كما قال - تعالى : { . . . فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وقوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } أى : ولا يخاطب أحدكم غيره بالألفاظ التى يكرهها ، بأن يقول له أحمق ، أو يا أعرج ، أو يا منافق . . أو ما يشبه ذلك من الألقاب السيئة التى يكرهها الشخص .
فالتنابر : التعاير والتداعى بالألقاب المكروهة ، يقال : نبزه ينبزه - كضربه يضربه - إذا ناداه بلقب يكرهه ، سواء أكان هذا اللقب للشخص أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما .
وقوله - تعالى - : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } تعليل للنهى عن هذه الرذائل والمراد بالاسم : ما سبق ذكره من السخرية واللمز التنابر بالألقاب ، والمخصوص بالذم محذوف . أى : بئس الفعل فعلكم أن تذكروا إخوانكم فى العقيدة بما يكرهونه وبما يخرجهم عن صفات المؤمنين الصادقين ، بعد أن هداهم الله - تعالى - وهداكم إلى الإِيمان .
وعلى هذا فالمراد من الآية نهى المؤمنين أن ينسبوا إخوانهم فى الدين إلى الفسوق بعد اتصافهم بالإِيمان .
قال صاحب الكشاف : الاسم ههنا بمعنى الذِّكْر ، من قولهم : فلان طار اسمه فى الناس بالكرم أو باللؤم ، كما يقال : طار ثناؤه وَصِيتُه . . كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين . . أن يذكروا بالفسق .
ويصح أن يكون المراد من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن ارتكابهم لهذه الرذائل ، لأن ارتكابهم لهذه الراذائل ، يؤدى بهم إلى الفسوق والخروج عن طاعة الله - تعالى - بعد أن اتصفوا بصفة الإِيمان .
وقد أشار إلى هذا المعنى الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه : وقوله { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } . يقول - تعالى - ومن فعل ما نهينا عنه ، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه ، فسخر من المؤمنين ، ولمز أخاه المؤمن ونبره بالألقاب ، فهو فاسق ، بئس الاسم الفوق بعد الإِيما ، ، يقول : فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه . أن تسموا فساقا - بعد أن وصفهم بصفة الإِيمان .
وقال الإِمام الفخر الرازى ما ملخصه : هذا أى قوله - تعالى - { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } من تام الزجر كأنه - تعالى - يقول : يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ، ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا فإن من يفعل ذلك يفسق بعد إيمانه ، والمؤمن يقبح منه أن يأتى بعد إيمانه بفسوق . . ويصير التقدير : بئس الفسوق بعد الإِيمان .
ويبدو لنا أن هذا الرأى أنسب للسياق ، إذ المقصود من الآية الكريمة نهى المؤمنين عن السخرية أو اللمز أو التنابز بالألقاب ، لأن تعودهم على ذلك يؤدى بهم إلى الفسوق عن طاعة الله - تعالى - والخروج عن آدابه ، وبئس الوصف وصفهم بذلك أى : بالفسق بعد الإِيمان .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } أى : ومن لم يتب عن ارتكاب هذه الرذائل ، فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث وضعوا العصيان موضع الطاعة ، والفسوق فى موضع الإِيمان .
هذا ، ومن الإِحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية : وجوب الابتعاد عن أن يعيب المسلم أخاه المسلم ، أو يحتقره ، أو يناديه بلقب سيئ .
قال الآلوسى : انفق العلماء على تحريم تلقيب الإِنسان بما يكره ، سواء كان صفة له أم لأبيه أم لأمه أم لغيرهما .
ويستثنى من ذلك نداء الرجل قبيح فى نفسه ، لا على قصد الاستخفاف به ، كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته ، كقول المحدثين : سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب
ينهى تعالى عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس " ويروى : " وغمط الناس " {[27097]} والمراد من ذلك : احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } ، فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء .
وقوله : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تلمزوا الناس . والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون ، كما قال [ تعالى ] :{[27098]} { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، فالهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] أي : يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم ، ويمشي بينهم بالنميمة وهي : اللمز بالمقال ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } ، كما قال : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] أي : لا يقتل بعضكم بعضا{[27099]} .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان : { وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يطعن بعضكم على بعض .
وقوله : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } أي : لا تتداعوا بالألقاب ، وهي التي يسوء الشخص سماعها .
قال{[27100]} الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : حدثني أبو جَبِيرة {[27101]} بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ } قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا . فنزلت : { وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ }
ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، عن وُهَيْب ، عن داود ، به{[27102]} .
وقوله : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ } أي : بئس الصفة والاسم الفسوق وهو : التنابز بالألقاب ، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون ، بعدما دخلتم{[27103]} في الإسلام وعقلتموه ، { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ } أي : من هذا { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
{ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } أي لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر ، والقوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر وزور ، والقيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال الله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } وحيث فسر بالقبيلين كقوم عاد وفرعون ، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع ، واختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و { عسى } باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي ولا خبر لها لإغناء الاسم عنه . وقرئ " عسوا أن يكونا " و " عسين أن يكن " فهي على هذا ذات خبر . { ولا تلمزوا أنفسكم } أي ولا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة ، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه . واللمز الطعن باللسان . وقرأ يعقوب بالضم . { ولا تنابزوا بالألقاب } ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا . { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد به إما تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي الله عنها ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها " هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد عليهم السلام " . أو للدلالة على أن التنابز فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح . { ومن لم يتب } عما نهى عنه . { فأولئك هم الظالمون } بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين" عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ "يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين "وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ" يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهنّ أن يكنْ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية؛ فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير، نُهِي أن يُسخر من الفقير لفقره...
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم... قال ابن زيد، في قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسَى أنْ يَكُنّ خَيْرا مِنْهُنّ" قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم، وإن كان ظهر على عثرته هذه، وسترت أنت على عثرتك، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك، ما يدريك لعله ما يغفر لك قال: فنُهي الرجل عن ذلك، فقال: "لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْرا مِنْهُمْ" وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
وقوله: "وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ" يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض وقال: "لا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ" فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمّى والسّهَر». وهذا نظير قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوَالِكُمْ بَيْنَكُمُ بالباطِلِ إلاّ أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ" بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا... قوله: "وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب" يقول: ولا تداعوا بالألقاب، والنبز واللقب بمعنى واحد...
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية؛ فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقّب، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية... وقال آخرون: بل ذلك قول الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق، يا زاني... عن حصين، قال: سألت عكرِمة، عن قول الله "وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ" قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق، يا كافر..
عن مجاهد، قوله: "وَلا تَنابَزُوا بالألْقابِ" قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم...
وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة... عن ابن عباس "وَلا تَنابَزُوا بالألْقاب بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ"... الآية، قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يُعيّر بما سلف من عمله...
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهيه ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحّت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.
وقوله: "بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ" يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق، "بِئْسَ الاِسْمْ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ" يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله: "بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ" عليه...
وقوله: "وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ" يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخرتيه منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة، لأن السخرية إنما تقع، وتكون في الأغلب بين قوم وقوم، وقلَّ ما تقع بين الأفراد والآحاد. فعلى ذلك جرى النهي. ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعا، والله أعلم.
ثم تحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين:
أحدهما: في الأفعال؛ يقول: {لا يسخر قوم من قوم} في الأفعال {عسى أن يكونوا خيرا منهم} في النية في تلك الأفعال، أو {خيرا منهم} أي أفعالهم أخلص عند الله من أفعال أولئك أو أقرب إلى القبول.
والثاني: السخرية في الخِلقة، وذلك راجع إلى مُنشئها لا إليهم، وهم قد رضوا بالخلقة التي أُنشئوا عليها، وعسى أن يكونوا هم في تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم...
وقوله تعالى: {ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن} ذكر سخرية نساء من نساء لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم، وإنما الاختلاط في الغالب بين أفراد الجنس يكون. فعلى ذلك جرى النهي عن السخرية، والله أعلم...
وقوله تعالى: {ولا تلمِزوا أنفسكم} واللّمز هو الطّعن. ثم منهم من يقول: هو الطعن باللسان، ومنهم من يقول: بالشِّدق والشّفة، ومنهم من يقول بالعين. وحاصله هو الطعن فيه...
وقوله تعالى: {ولا تنابَزُوا بالألقاب} أي لا تدعوا بالألقاب، والنّبز اللقب؛ يقال: نبزت فلانا، أي لقّبته... ولو قال: {ولا تنابزوا} لكان كافيا، لكن كأنه قال: ولا تُظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللّقب، والله أعلم...
ثم قال الله تعالى: {ومن لم يتُب فأولئك هم الظالمون} أي واضعون الشيء في غير موضعه، والله أعلم...
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، نهى الله بهذه الآية عن عَيْب من لا يستحق أن يُعاب على وجه الاحتقار له؛ لأن ذلك هو معنى السخرية، وأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيراً عند الله...
وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق وليس بمَعِيبٍ، فإن من كان معيباً فاجراً فعيبه بما فيه جائز...
وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَابِ}... وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ذمّاً للموصوف به؛ لأنه بمنزلة السباب والشتيمة، فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي؛ لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال...
تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجب تلقيبه بما يحب؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين؛ في أشباه ذلك...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
معنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء...
وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض وهي السخرية واللمز والنبز، فالسخرية: هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب، وهذا كما قال بعض الناس تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون هو دون أن يذكر، وأقل من أن يلتفت إليه، فقال لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم...
(الثاني) هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول، لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه.
(الثالث) هو النبز وهو دون الثاني، لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفا ثابتا فيه يوجب بغضه وحط منزلته، وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجودا فإن من يسمى سعدا وسعيدا قد لا يكون كذلك، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة وزينة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا} أي أوقعوا الإقرار بالتصديق {لا يسخر} أي يهزأ ويستذل. ولما كانت السخرية تكون بحضرة ناس، قال معبراً بما يفهم أن من شارك أو رضي أو سكت وهو قادر فهو ساخر مشارك للقائل: {قوم} أي ناس فيهم قوة المحاولة... {من قوم} فإن ذلك يوجب الشر لأن أضعف الناس إذا حرك للانتقاص قوي بما يثور عنده من حظ النفس...
{عسى} أي لأنه جدير وخليق لهم {أن يكونوا} أي المستهزئ بهم {خيراً منهم} فينقلب الأمر عليهم ويكون لهم سوء العاقبة، قال ابن- مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول ولو- سخرت من كلب خشيت أن- أحول كلباً...
{ولا نساء من نساء} ثم علل النهي بقوله: {عسى} أي ينبغي أن يخفن من {أن يكن} المسخور بهن {خيراً منهن} أي الساخرات...
{ولا تلمزوا} أي تعيبوا على وجه الخفية {أنفسكم} بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها، فكيف إذا كان على وجه الظهور، فإنكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة، أو يعمل الإنسان ما يعاب به، فيكون قد لمز نفسه أو يلمز غيره...
{ولا تنابزوا} أي ينبز بعضكم بعضاً، أي يدعو على وجه التغير والتسفل {بالألقاب} بأن يدعو المرء صاحبه بلقب يسوءه سواء كان هو المخترع له أولاً...
{بئس الاسم الفسوق} أي الخروج من ربقة الدين {بعد الإيمان} ترك الجارّ إيذاناً بأن من وقع في ذلك أوشك أن يلازمه فيستغرق زمانه فيه...
فمن فعل ذلك فقد رضي لنفسه أو يوسم بالفسق بعد أن كان موصوفاً بالإيمان. ولما كان التقدير: فمن تاب فأولئك هم الراشدون، وكان المقام بالتحذير أليق، عطف عليه قوله: {ومن لم يتب} أي يرجع عما نهى الله عنه، فخفف عن نفسه ما كان شدد عليها {فأولئك} أي البعداء من الله {هم} أي خاصة {الظالمون} أي العريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية، لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة. والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا. وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله. وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية، التي يوزن بها الناس. فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، يعلمها الله، ويزن بها العباد ....
... (ولا تلمزوا أنفسكم).. واللمز: العيب. ولكن للفظة جرسا وظلا؛ فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية! ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به. ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم...
(بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان). فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون).. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما اقتضت الأخوة أن تَحْسُن المعاملة بين الأخوين كان ما تقرر من إيجاب معاملة الإخوة بين المسلمين يقتضي حسن المعاملة بين آحادهم، فجاءت هذه الآيات منبهة على أمور من حسن المعاملة قد تقع الغفلة عن مراعاتها لكثرة تفشّيها في الجاهلية لهذه المناسبة، وهذا نداء رابع أريد بما بَعده أمرُ المسلمين بواجب بعض المجاملة بين أفرادهم.