ثم وصفهم فقال قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } اختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : هذا استثناء صحيح ، واللمم من الكبائر والفواحش ، ومعنى الآية ، إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ، ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد ، والحسن ، ورواية عطاء عن ابن عباس . قال عبد الله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك . وقال السدي قال أبو صالح : سئلت عن قول الله تعالى : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك ملك كريم . وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله : إلا اللمم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما " . وأصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ، ولا يكون له إعادة ، ولا إقامة . وقال آخرون : هذا استثناء منقطع ، مجازه : من الكبائر والفواحش ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به ، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا ؟ فأنزل الله هذه الآية . وهذا قول زيد بن أسلم ، وقال بعضهم : هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي هريرة ، ومسروق ، والشعبي ، ورواية طاوس عن ابن عباس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمود بن غيلان ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه ( باللمم ) مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أويكذبه " . ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزاد : " والعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطأ " .
وقال الكلبي : اللمم على وجهين : كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة ، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش ، والوجه الآخر هو : الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه . وقال سعيد بن المسيب : هو ما لم على القلب يعني خطر . وقال الحسين بن الفضل : اللمم النظر من غير تعمد ، فهو مغفور ، فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب . { إن ربك واسع المغفرة } قال ابن عباس : لمن فعل ذلك وتاب ، تم الكلام ها هنا ، ثم قال : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } يعني خلق أباكم آدم من التراب ، { وإذ أنتم أجنة } جمع جنين ، سمي جنيناً لاجتنانه في البطن ، { في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم } قال ابن عباس : لا تمدحوها . قال الحسن : علم الله من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة ، فلا تزكوا أنفسكم ، لا تبرئوها عن الآثام ، ولا تمدحوها بحسن أعمالها . قال الكلبي ومقاتل : كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجنا ، وجهادنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية { هو أعلم بمن اتقى } أي : بر وأطاع وأخلص العمل لله تعالى .
وقوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم . . } صفة لقوله : { الذين أَحْسَنُواْ } أو بدل منه .
والمراد بكبائر الإثم : الآثام الكبيرة ، والجرائم الشديدة ، التى يعظم العقاب عليها . كقتل النفس بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل .
والفواحش : جمع فاحشة ، وهى ما قبح من الأقوال والأفعال كالزنا ، وشرب الخمر . .
وعطفها على كبائر الإثم من باب عطف الخاص على العام ، لأنها أخص من الكبائر ، وأشد إثما .
واللم : ما صغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره من كل شىء : يقال : ألم فلان بالمكان ، إذا قل مكثه فيه . وألم بالطعام : إذا قل أكله منه . . . وقيل : اللمم ، مقاربة الذنب دون الوقوع فيه ، من قولهم : ألم فلان بالشىء ، إذا قاربه ولم يخالطه .
وجمهور العلماء على أن الاستثناء هنا منقطع ، وأن اللمم هو الذنوب الصغيرة ، كالنظرة الخائنة ولكن بدون مداومة ، والإكثار من الممازحة .
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : " واللمم " : صغائر الذنوب ، ومحقرات الأعمال ، وهذا استثناء منقطع .
قال الإمام أحمد : عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم ، مما قال أبو هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .
وعن مجاهد أنه قال فى هذه الآية { إِلاَّ اللمم } الذى يلم بالذنب ثم يدعه ، كما قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفر جما . . . وأى عبد لك ما ألما
ومن العلماء من يرى أن الاستثناء هنا متصل ، وأن المراد باللمم ارتكاب شىء من الفواحش ، ثم التوبة منها توبة صادقة نصوحا . .
فعن الحسن أنه قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن العلماء قسموا الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وأن اللمم من النوع الثانى الذى لا يدخل تحت كبائر الإثم والفواحش .
قال صاحب الكشاف : واللمم : ما قل وصغر . . . والمراد به الصغائر من الذنوب ، ولا يخلو قوله - تعالى - { إِلاَّ اللمم } فتح الباب لارتكاب صغائر الذنوب ، وإنما المقصود فتح باب التوبة ، والحض على المبادرة بها ، حتى لا ييأس مرتكب الصغائر من رحمة الله - تعالى - وحتى لا يمضى قدما في ارتكاب هذه الصغائر ، إذ من المعروف أن ارتكاب الصغائر ، قد يجر إلى ارتكاب الكبائر .
كذلك من المقصود بهذا الاستثناء أن لا يعامل مرتكب الصغائر ، معاملة مرتكب الكبائر .
هذا ، وقد أفاض الإمام الألوسى فى الحديث عن الكبائر والصغائر ، فقال : والاية عند الأكثرين دليل على أن المعاصى منها الكبائر ، ومنها الصغائر . . .
وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام ، وقالوا : سائر المعاصى كبائر .
ثم قال : واختلف القائلون بالفرق بين الكبائر والصغائر فى حد الكبيرة فقيل : هى كل ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد ، بنص كتاب أو سنة . . .
وقيل : كل جرمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، ورقة الديانة .
واعتمد الواحدى أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به ، وقد أخفى الله - تعالى - أمرها ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة . . } تعليل لاستثناء اللمم ، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ، ليس لخلوه عن الذنب فى ذاته ، بل لسعة رحمة الله ومغفرته .
أى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - واسع المغفرة والرحمة ، لعباده الذين وقعوا فيما نهاهم عنه - سبحانه - ثم تابوا إليه توبة صادقة نصوحا .
ثم بين - سبحانه - أن هذه الرحمة الواسعة ، صادرة عن علم شامل للظواهر والبواطن ، فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . } .
والظرف " إذ " متعلق بقوله { أَعْلَمُ } والأجنة : جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها .
وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا فى داخل الرحم ، كما قال - تعالى - : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ . . . } أى : هو - سبحانه - أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة فى بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها .
وقال - سبحانه - { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } مع أن الجنين لا يكون إلى فى بطن أمه ، للتذكير برعايته - تعالى - لهم ، وهم فى تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته .
وقوله - تعالى - : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم . أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتى ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكرونى على سعة رحمتى ومغفرتى ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء .
قالوا : والآية نزلت فى قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ . . } أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، وزيادة الخير . وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصى ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكى منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم .
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده . ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله - تعالى - .
وقال الآلوسى : والمراد النهى عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو التزكية على سبيل القطع ، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه - كالإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة فهى جائزة .
وقال هاهنا : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } . وهذا استثناء منقطع ؛ لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر{[27679]} عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمَم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فَزِنَا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تَمنَّى وتَشْتَهِي ، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكَذِّبه " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، به{[27680]} .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن{[27681]} ثور حدثنا مَعْمَر ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ؛ أن ابن مسعود قال : " زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويُصدّق ذلك الفرج أو يُكَذِّبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا ، وإلا فهو اللَّمَم " {[27682]} . وكذا قال مسروق ، والشعبي .
وقال عبد الرحمن بن نافع - الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي - قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : القُبلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل ، وهو الزنا .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن مجاهد أنه قال : في هذه الآية : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الذي يلم بالذنب ثم يَدَعه ، قال الشاعر :
إنْ تَغْفِر اللهُمّ تغفر جَمّا *** وَأيّ عَبْد لَكَ مَا أَلَمَّا? !
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قول الله : { إِلا اللَّمَمَ } قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه ، قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا {[27683]} .
قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك ما ألما? !
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي{[27684]} عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار : لا نعلمه يُروى متصلا إلا من هذا الوجه . وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة " تنزيل " وفي صحته مرفوعا نظر {[27685]} .
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه - : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود " ، قال : " ذلك{[27686]} الإلمام " {[27687]} .
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَديّ ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود .
وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أبي رَجاء ، عن الحسن في قول الله : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ } قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا ، واللمة من شرب الخمر ، فيجتنبها ويتوب منها .
وقال ابن جرير{[27688]} ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِلا اللَّمَمَ } يلم بها في الحين . قلت : الزنا ؟ قال : الزنا ثم يتوب .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { اللَّمَمَ } الذي يلم المرَّةَ .
وقال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن { اللَّمَمَ } فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب . وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها مَلَك كريم . حكاه البغوي .
وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح - وهو ضعيف - عن عمرو بن شعيب ؛ أن عبد الله بن عمرو قال : { اللَّمَمَ } : ما دون الشرك .
وقال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعفي ، عن عطاء ، عن ابن الزبير : { إِلا اللَّمَمَ } قال : ما بين الحدين : حد الدنيا {[27689]} وعذاب الآخرة . وكذا رواه شعبة ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، مثله سواء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا اللَّمَمَ } كل شيء بين {[27690]} الحدين : حد الدنيا {[27691]} وحد الآخرة ، تكفره الصلوات ، وهو {[27692]} اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار ، وأخَّر عقوبته إلى الآخرة . وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } أي : رحمته وَسِعَت كل شيء ، ومغفرته تَسَع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .
وقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْض } أي : هو بصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر{[27693]} عنكم وتقع منكم ، حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذَّر ، ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير{[27694]} . وكذا قوله : { وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يُوَكَّل به رزقَه وأجَلَه وعمله ، وشقي أم سعيد .
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا ، فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا يَفَعَةً ، فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابًا فهلك منا من هلك . وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا - لا أبا لك - فماذا بعد هذا ننتظر ؟{[27695]} رواه ابن أبي حاتم عنه .
وقوله : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } أي : تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ، كما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 49 ] .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عَمْرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي بَرّةَ ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت بَرَّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزكوا أنفسكم ، إن الله أعلم بأهل البر منكم " . فقالوا : بم نسميها ؟ قال : " سموها زينب " {[27696]} .
وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكْرَة ، عن أبيه قال : مدح رَجُلٌ رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ! قطعت عُنُقَ صاحبك - مرارًا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا - والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحدا - أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " {[27697]} .
ثم رواه عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن خالد الحذاء ، به . وكذا رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من طرق ، عن خالد الحذاء ، به{[27698]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب .
ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري ، عن منصور ، به {[27699]} .
{ الذين يجتنبون كبائر الإثم } ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه . وقيل ما أوجب الحد . وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك . { والفواحش } ما فحش من الكبائر خصوصا . { إلا اللمم } إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل { الذين } النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف . { إن ربك واسع المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى . { هو أعلم بكم } أعلم بأحوالكم منكم . { إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام . { فلا تزكوا أنفسكم } فلا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل . { هو أعلم بمن اتقى } فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام .