قوله تعالى : { الذين يستحبون } يختارون ، { الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } ، أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ، { ويبغونها عوجاً } أي : يطلبونها زيغا وميلا ، يريد : يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد . وقيل : الهاء راجعة إلى الدنيا ، معناه : يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : لجهة الحرام . { أولئك في ضلال بعيد }
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء الكافرين بجملة من الصفات الذميمة ، التى أردتهم وأهلكتهم فقال - تعالى - : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً . . . }
ويستحبون : بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد ، أى : يختارون ويؤثرون ولذا عداه بعلى . أى : يختارون شهوت الحياة الدنيا ، ويؤثرون لذائذها ومتعها على الدار الآخرة وما فيها من نعيم وخيرات . .
" ويصدون " من الصد ، وهو صرف الغير عن الشئ ومنعه منه يقال : صد فلان فلانا عن فعل الشئ ، إذا منعه من فعله .
وسبيل الله : طريقه الموصلة إليه وهو ملة الإِسلام .
ويبغون من البغاء - بضم الباء - بمعنى الطلب . يقال : بغيت لفلان كذا ، إذا طلبته له ، وبغيت الشئ أبغيه بغاء وبغى وبغية إذا طلبته .
والعوج - بكسر العين وفتحها - مصدر عوج - كتعب . إلا أن بعضهم يرى أن مكسور العين يكون فيما ليس بمرئى كالآراء والأقوال والعقائد ، وأن مفتوحها يكون فى المرئيات كالأجساد والمحسوسات .
أى : أن هؤلاء الكافرين يؤثرون شهوات الدنيا على الآخرة ونعيمها ، ولا يكتفون بذلك بل يضعون العراقيل فى طريق دعوة الحق حتى يبتعد الناس عنها ، ويطلبون لها العوج والميل تبعا لزيغ نفوسهم ، مع أنها أقوم طريق ، وأعدل سبيل ، والضمير المنصوب فى قوله " يبغونها " يعود إلى سبيل الله ، أى يبغون لها العوج ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، كما فى قوله { وَإِذَا كَالُوهُمْ . . . } أى : كالوا لهم .
وبعضهم جعل الضمير المنصوب فى " يبغونها " وهو الهاء هو المفعول ، وجعل " عوجا " حال من سبيل الله أى : ويريدونها أن تكون فى حال اعوجاج واضطراب .
وقوله : { أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } بيان الحكم العادل الذى أصدره - سبحانه - عليهم .
أى : أولئك الموصوفون بما ذكر فى ضلال بعيد عن الحق .
والإِشارة بأولئك الدالة على البعد ، للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به بسبب تلبسهم بأقبح الخصال ، وأبشع الرذائل .
وعبر بفى الظرفية للدلالة على تمكن الضلال منهم ، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف .
قال الآلوسى : وفى الآية من المبالغة فى ضلالهم منهم ، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف .
قال الآلوسى : وفى الآية من المبالغة فى ضلالهم ما لا يخفى ، حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازا كجد جده . . .
ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به ، بناء على أن البعد فى الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده ، وسبب بعده ضلاله ، لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه ، فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه ، والإِسناد مجازى وفيه المبالغة المذكورة أيضا .
ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي : يقدمونها ويُؤثرونها عليها ، ويعملون للدنيا ونَسُوا الآخرة ، وتركوها وراء ظهورهم ، { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهي اتباع الرسل { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : ويحبون أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة عائلة{[15737]} وهي مستقيمة في نفسها ، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها ، فهم{[15738]} في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق ، لا يرجى لهم - والحالة هذه - صلاح .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا عَلَى الاَخِرَةِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلََئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : الّذِينَ يَسْتَحِبّونَ الحَياةَ الدّنْيا على الاَخرَةِ ، الذين يختارون الحياة الدنيا ومتاعهم ومعاصيَ الله فيها على طاعة الله وما يقربهم إلى رضاه من الأعمال النافعة في الاَخرة . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ويمنعون من أراد الإيمان بالله واتباع رسوله على ما جاء به من عند الله من الإيمان به واتباعه . وَيَبْغُونَها عِوَجا يقول : ويلتمسون سبيل الله ، وهي دينه الذي ابتعث به رسوله . عوجا : تحريفا وتبديلاً بالكذب والزور . «والعِوَج » بكسر العين وفتح الواو في الدين والأرض وكلّ ما لم يكن قائما ، فأما في كل ما كان قائما كالحائط والرمح والسنّ فإنه يقال بفتح العين والواو جميعا «عَوَج » يقول الله عزّ ذكره : أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني : هؤلاء الكافرين الذي يستحبون الحياة الدنيا على الاَخرة ، يقول : هم في ذهاب عن الحقّ بعيد ، وأخذ على غير هدى ، وجَوْر عن قصد السبيل .
وقد اختلف أهل العربية في وجه دخول «على » في قوله : على الاَخِرَةِ فكان بعض نحوييّ البصرة يقول : أوصل الفَعَل ب «على » ، كما قيل : ضربوه في السيف ، يريد بالسيف ، وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلها وتحذف ، نحو قول العرب : نزلت زيدا ، ومررت زيدا ، يريدون : مررت به ، ونزلت عليه . وقال بعضهم : إنما أدخل ذلك ، لأن الفعل يؤدّي عن معناه من الأفعال ، ففي قوله : يَسْتَحبّونَ الحَياةَ الدّنيْا على الاَخِرَةِ ولذلك أدخلت «على » . وقد بيّنت هذا ونظائره في غير موضع من الكتاب بما أغنى عن الإعادة .
{ يستحبون } بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر . وضمن { يستحبون } معنى يؤثرون ، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم ، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء ، فنشأ من هذا معنى الإيثار ، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف { على } في قوله : { على الآخرة } أي يؤثرونها عليها .
وقوله : { ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } تقدم نظيره في قوله : { أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } في سورة الأعراف ( 45 ) ، وعند قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء } في سورة آل عمران ( 99 ) ، فانظره هنالك .
والصدّ عن سبيل الله : منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه . شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق . وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه ، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن ، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ سورة الأنعام : 153 ] .
والإشارة في قوله : { أولئك في ضلال بعيد } [ سورة إبراهيم : 3 ] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل ، { فأولئك } في محل مبتدأ و { في ضلال بعيد } خبر عنه . ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه .
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي ، وإنما البعيد هم الضالّون ، أي ضلالاً بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه .
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها ، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه . ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله : { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } [ سورة الشورى : 18 ] وقوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سورة سبأ : 8 ] . وتقدم في قوله : { ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } في سورة النساء ( 116 ) .