معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

قوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم } من بعدهم { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } أي : القرآن { أسفاً } أي حزناً ، وقيل غضباً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

ثم ساق - سبحانه - ما يسلى الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من حزن بسبب إعراض المشركين عن دعوة الحق ، فقال - تعالى - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } .

قال بعض العلماء ما ملخصه : اعلم - أولا - أن لفظة { لعل } تكون للترجى فى المحبوب ، وللإِشفاق فى المحذور . واستظهر أبو حيان أن { لعل } هنا للإِشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم .

وقال بعضهم إن { لعل } هنا للنهى . أى لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . . وهو الأظهر ، لكثرة ورود النهى صريحا عن ذلك ، قال - تعالى - : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ . . } وقوله { باخع } من البخع ، وأصله أن تبلغ بالذبح البخاع - بكسر الباء - وهو عرق يجرى فى الرقبة . وذلك أقصى حد الذبح . يقال : بخع فلان نفسه بخعا وبخوعا . أى : قتلها من شدة الغيظ والحزن ، وقوله : { على آثارهم } أى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك ، وقوله { أسفا } أى : هما وغما مع المبالغة فى ذلك ، وهو مفعول لأجله .

والمعنى : لا تهلك نفسك - أيها الرسول الكريم - هما وغما ، بسبب عدم إيمان هؤلاء المشركين . وبسبب إعراضهم عن دعوتك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } و { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } قال الزمخشرى : شبهه - سبحانه - وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم ، برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ؛ ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول [ ص ] الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى ، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم [ ص ] أنه مود بهم إلى الهلاك . . فيما يشبه الإنكار يقول للرسول [ ص ] :

( فلعلك باخع نفسك على آثارهم . إن لم يؤمنوا بهذا الحديث . أسفا ) !

أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم ، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن . وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

هذه الآية تسلية للنبي عليه السلام ، وقوله { فلعلك } تقرير وتوفيق بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك ، و «الباخع نفسه » هو مهلكها وجداً وحزناً على أمر ما ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه . . . لشيء نحته عن يديه المقادر{[7743]}

يريد نحته فخفف وقوله { على آثارهم } ، استعارة فصيحة ، من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان ، وإعراض عن الشرع فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في آثارهم يحزن عليهم ، وقوله { بهذا الحديث } أي بالقرآن الذي يحدثك به ، و { أسفاً } نصب على المصدر ، قال الزجاج : و «الأسف » المبالغة في حزن أو غضب .

قال القاضي أبو محمد : و «الأسف » في هذا الموضع الحزن ، لأنه على من لا يملكه ولا هو تحت يد الأسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه لكان غضباً ، كقوله تعالى : { فلما آسفونا }{[7744]} [ الزخرف : 55 ] أي أغضبونا وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد ، وذكره منذر بن سعيد وقال قتادة : هنا { أسفاً } غضباً ، قال مجاهد { أسفاً } جزعاً وقال قتادة أيضاً : حزناً ، ومن هذه اللفظة قول الأعشى : [ الطويل ]

أرى رجلاً منكم أسيفاً كأنما . . . يضم إلى كشحيه كفّاً مخضبا{[7745]}

يريد حزيناً كأنه مقطوع اليد .


[7743]:قائل هذا البيت هو ذو الرمة، وهو في اللسان والتاج والأساس (بخع)، وفي مجاز القرآن، والطبري، والراغب، والصحاح، وفتح الباري، والبحر المحيط، ونسبه فيه للفرزدق. والباخع: المهلك نفسه، ونحته: أبعدته وصرفته عن يديه، وهو بتشديد الحاء ولكن الشاعر خفف لضرورة الشعر.
[7744]:من الآية (55) من سورة (الزخرف).
[7745]:البيت من قصيدة قالها الأعشى يهجو عمرو بن المنذر، ويعاتب بني سعد بن قيس، ويقول في مطلعها: كفى بالذي تولينه لو تجنيا شفاء لسقم بعد ما عاد أشيبا والأسيف: الحزين، والكشحان: مثنى كشح، وهو ما بين الخاصرة والضلوع، والمخصب: المصبوغ بالدم، يصف الرجل بأنه حزين جدا كأنما قد تخضبت كفه بالدماء فهو يضمها إلى جنبه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

تفريع على جملة { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] باعتبارهم مكذبين كافرين بقرينة مقابلة المؤمنين بهم في قوله : { وبشر المؤمنين } [ الكهف : 2 ] ثم قوله : { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] .

و ( لعل ) حقيقتها إنشاء الرجاء والتوقع ، وتستعمل في الإنكار والتحذير على طريقة المجاز المرسل لأنهما لا زمان لتوقع الأمر المكروه .

وهي هنا مستعملة في تحذير الرسول عليه الصلاة والسلام من الاغتمام والحزن على عدم إيمان من لم يؤمنوا من قومه . وذلك في معنى التسلية لقلة الاكتراث بهم .

والباخع : قاتل نفسه ، كذا فسره ابن عباس ومجاهد والسدّي وابن جبير . وفسره البخاري بمهلك . وتفسيره يرجع إلى أبي عبيدة .

وفي اشتقاقه خلاف ، فقيل مشتق من البِخاع بالباء الموحدة ( بوزن كتاب ) وهو عرق مستبطن في القفا فإذا بلغ الذابحُ البخاع فذلك أعمق الذبح ، قاله الزمخشري في قوله تعالى : لعلك باخع نفسك في سورة الشعراء ( 3 ) وانفرد الزمخشري بذكر هذا الاشتقاق في الكشاف } و « الفائق » و « الأساس » . قال ابن الأثير في « النهاية » : « بحثت في كتب اللغة والطب فلم أجد البِخاع بالموحدة » يعني أن الزمخشري انفرد بهذا الاشتقاق وبإثبات البخاع اسماً لهذا العرق . قلت : كفى بالزمخشري حجة فيما أثبته . وقد تبعه عليه المطرزي في « المُغرب » وصاحب « القاموس » . فالبخع : أصله أن يبلغ الذابح بالذبح إلى القفا ثم أطلق على القتل المشوب بغيظ .

والآثار : جمع أثر وهو ما يؤثره ، أي يُبقيه الماشي أو الراكب في الرمل أو الأرض من مواطىء أقدامه وأخفاف راحلته . والأثر أيضاً ما يبقيه أهل الدار إذا ترحلوا عنها من تافه آلاتهم التي كانوا يعالجون بها شؤونهم كالأوتاد والرماد .

وحرف ( على ) للاستعلاء المجازي فيجوز أن يكون المعنى : لعلك مهلك نفسك لأجل إعراضهم عنك كما يُعرض السائر عن المكان الذي كان فيه ، فتكون ( على ) للتعليل .

ويجوز أن يكون المعنى تمثيل حال الرسول صلى الله عليه وسلم في شدة حرصه على اتباع قومه له وفي غمه من إعراضهم . وتمثيل حالهم في النفور والإعراض بحال من فارقه أهله وأحبتُه فهو يرى آثار ديارهم ويحزن لفراقهم . ويكون حرف ( على ) ظرفاً مستقراً في موضع الحال من ضمير الخطاب ، ومعنى ( على ) الاستعلاء المجازي وهو شدة الاتصال بالمكان .

وكأن هذا الكلام سيق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر أوقات رجائه في إيمانهم إيماء إلى أنهم غير صائرين إلى الإيمان ، وتهيئة نفسه أن تتحمل ما سيلقاه من عنادهم رأفة من ربه به ، ولذلك قال : { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث } بصيغة الفعل المضارع المقتضية الحصول في المستقبل ، أي إن استمر عدم إيمانهم .

واسم الإشارة وبيانُه مراد به القرآن ، لأنه لحضوره في الأذهان كأنه حاضر في مقام نزول الآية فأشير إليه بذلك الاعتبار . وبُيّن بأنه الحديث .

والحديث : الخبر . وإطلاق اسم الحديث على القرآن باعتبار أنه إخبار من الله لرسوله ، إذ الحديث هو الكلام الطويل المتضمن أخباراً وقصصاً . سمي الحديث حديثاً باعتبار اشتماله على الأمر الحديث ، أي الذي حدث وجَد ، أي الأخبار المستجدة التي لا يعلمها المخاطب ، فالحديث فعيل بمعنى مفعول . وانظر ما يأتي عند قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } في سورة الزمر ( 23 ) .

وأسفاً } مفعول له من { باخع نفسك } أي قاتلها لأجل شدة الحزن ، والشرط معترض بين المفعولين ، ولا جواب له للاستغناء عن الجواب بما قَبْل الشرط .