البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

بخع يبخع بخعاً وبخوعاً أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد قاله الأخفش والفراء . وفي حديث عائشة ذكرت عمر فقالت : بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك . وقال الكسائي : بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة . وقال الليث : بخع الرجل نفسه قتلها من شدة وجده . وأنشد قول الفرزدق :

ألا أيهذا الباخغ الوجد نفسه *** لشيء نحته عن يديه المقادير

أي نحّته بشد الحاء فخفف . قال أبو عبيدة : كان ذو الرمّة ينشد الوجد بالرفع . وقال الأصمعي : إنما هو الوجد بالفتح انتهى . فيكون نصبه على أنه مفعول من أجله .

{ فلعلك باخع } لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور .

وقال العسكري : فيها هنا هي موضوعة موضع النهي يعني أن المعنى لا تبخع نفسك .

وقيل : وضعت موضع الاستفهام تقديره هل أنت { باخع نفسك } ؟ وقال ابن عطية : تقرير وتوقيف بمعنى الإنكار عليه أي لا تكن كذلك .

وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم برجل فارقته أحبته وأعزته ، فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفاً على فراقهم انتهى .

وتكون لعل للاستفهام قول كوفي ، والذي يظهر أنها للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لكونهم لم يؤمنوا .

وقوله { على آثارهم } استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع ، فكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو في إدبارهم يحزن عليهم ، ومعنى { على آثارهم } من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر .

ويقال : مات فلان على أثر فلان أي بعده ، وقرئ { باخع نفسك } بالإضافة .

وقرأ الجمهور : { باخع } بالتنوين { نفسك } بالنصب .

قال الزمخشري : على الأصل يعني إن اسم الفاعل إذا استوفى شروط العلم فالأصل أن يعمل ، وقد أشار إلى ذلك سيبويه في كتابه .

وقال الكسائي : العمل والإضافة سواء ، وقد ذهبنا إلى أن الإضافة أحسن من العمل بما قررناه في ما وضعنا في علم النحو .

وقرئ : { إن لم يؤمنوا } بكسر الميم وفتحها فمن كسر .

فقال الزمخشري : هو يعني اسم الفاعل للاستقبال ، ومن فتح فللمضي يعني حالة الإضافة ، أي لأن { لم يؤمنوا } والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن .

قال تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } و { أسفاً } قال مجاهد : جزعاً .

وقال قتادة : غضباً وعنه أيضاً حزناً .

وقال السدّي : ندماً وتحسراً .

وقال الزجاج : الأسف المبالغة في الحزن والغضب .

وقال منذر بن سعيد : الأسف هنا الحزن لأنه على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف ، ولو كان الأسف من مقتدر على من هو في قبضته وملكه كان غضباً كقوله تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم } أي أغضبونا .

قال ابن عطية : وإذا تأملت هذا في كلام العرب اطرد انتهى .

وانتصاب { أسفاً } على أنه مفعول من أجله أو على أنه مصدر في موضع الحال ،