اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يعظم حزنك وأسفك{[20805]} ؛ بسبب كفرهم ، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً ، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم ، فلا قدرة لك عليه ، والغرض منه تسلية الرَّسُول صلى الله عليه وسلم .

ومعنى : " بَاخعٌ نَفْسكَ " أي : قاتلٌ نفسك .

قال الليثُ : بخع الرَّجلُ نفسه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده ، والفاء في قوله : ( فَلعلَّكَ ) قيل : جواب الشرط ، وهو قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } قدم عليه ، ومعناه التأخير .

وقال الجمهور : جواب الشرط محذوف لدلالة قوله : " فَلعلَّكَ " .

و " لَعلَّكَ " قيل : للإشفاق على بابها . وقيل : للاستفهام ، وهو رأيُ الكوفيِّين . وقيل : للنَّهي ، أي : لا تَبْخَعْ .

والبَخْعُ : الإهلاك ، يقال : بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً ، أهلكها وجداً . قال ذو الرمة : [ الطويل ]

ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ *** لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ{[20806]}

يريد : نحَّته بالتشديد ، فخفف ، قال الأصمعي : كان ينشده : " الوَجْدَ " بالنصب على المفعول له ، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية ب " البَاخِع " .

وقيل : البَخْعُ : أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ ، قاله الكسائي ، وقيل : هو جهدُ الأرض وعلى هذا معنى " بَاخعٌ نَفْسكَ " أي ناهكها وجاهدها ؛ حتَّى تهلكها ، وقيل : هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي اله عنها - عن عمر : " بَخَعَ{[20807]} الأرض " تعني جهدها ؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها ، وهذا استعارة ، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك ، وقال في سورة الشعراء : " البَخْع " : أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار ، وذلك أقصى حدِّ الذابح . قال شهاب الدين : وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول : " تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح ، فلم أجد لهذا أصلا " .

فصل

يحتمل أنه لما ذكروه ، سمَّوه باسم آخر ؛ لكونه أشهر فيما بينهم .

وقال الرَّاغب{[20808]} : " البَخْعُ : قتلُ النفس غمًّا " ثم قال : " وبَخعَ فلانٌ بالطاعة ، وبما عليه من الحق : إذا أقرَّ به ، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته " .

قوله : " عَلى آثَارِهمْ " متعلقٌ ب " بَاخِعٌ " أي : من بعد هلاكهم .

يقال : مات فلانٌ على أثر فلانٍ ، أي بعده ، وأصل هذا أنَّ الإنسان ، إذا مات ، بقيت علاماتهُ ، وآثارهُ بعد موته مدَّة ، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة ، فإذا كان موته قريباً من [ موت ]{[20809]} الأول ، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول ، فصحَّ أن يقال : مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ .

قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } يعني القرآن .

قال القاضي{[20810]} : وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول : إنه قديمٌ .

وأجيب بأنه محمول على الألفاظ ، وهي حادثة .

قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } : قرأ العامة بكسر " إنْ " على أنها شرطية ، والجواب محذوفٌ عند الجمهور ؛ لدلالة قوله : " فَلعلَّكَ " ، وعند غيرهم هو جوابٌ متقدِّم ، وقرئ{[20811]} : " أنْ لَمْ " بالفتح ؛ على حذف الجارِّ ، أي : لأنْ لم يؤمنوا .

وقُرئ{[20812]} " بَاخِعُ نَفْسِكَ " بالإضافة ، والأصل النصبُ ، وقال الزمخشري{[20813]} " وقرئ " بَاخعُ نَفْسكَ " على الأصل ، وعلى الإضافة . أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمن قرأ " إنْ لمْ يُؤمِنُوا " ، وللمضيِّ فيمن قرأ " إنْ لم تُؤمنوا " بمعنى : لأن لم تُؤمِنُوا " يعني أنَّ باخعاً للاستقبال في قراءة كسر " إنْ " فإنها شرطية ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها ، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة ؛ إذ لا يتصوَّر المضيُّ مع النصب عند البصريين ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يقرأ بالفتح ، إلا من قرأ بإضافة " بَاخِع " ، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف .

قوله : " أسفاً " يجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، والعامل فيه " بَاخعٌ " وأن يكون مصدراً في موضع الحال من الضمير في " بَاخعٌ " .

والأسف : الحزن ، وقيل : الغضب ، وقد تقدَّم في الأعراف عند قوله : { غَضْبَانَ أَسِفاً } [ الأعراف : 150 ] وفي يوسف عند قوله : { يا أسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت } [ يوسف : 84 ]


[20805]:في أ: إساءتك.
[20806]:ينظر: ديوانه (251)، المقتضب 4/259، شرح المفصل لابن يعيش 2/7، مجاز القرآن 1/393، التاج واللسان "بخع"، الدر المصون 4/334، الراغب [بخع].
[20807]:ينظر : تفسير الرازي (21/67).
[20808]:ينظر: المفردات 48.
[20809]:سقط من ب.
[20810]:ينظر: الفخر الرازي 21/67.
[20811]:ذكره الفراء للأعشى عن أبي بكر عن عاصم ينظر: الشواذ ص 81.
[20812]:نسبها في الشواذ 82، إلى قتادة، ينظر: البحر 6/96، والدر المصون 4/434.
[20813]:ينظر: الكشاف 2/704.