الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا} (6)

قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } : العامَّةُ على كسرِ " إنْ " على أنها شرطيةٌ ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه : " فَلَعَلَّكَ " ، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ . وقُرِئ : " أَنْ لم " بالفتح على حَذْفِ الجارِّ ، أي : لأَِنْ لم يؤمنوا " .

وقُرئ " باخِعُ نَفْسِكَ " بالإِضافة ، والأصل النصبُ . وقال الزمخشري : " وقُرئ " باخع نفسك " على الأصل ، وعلى الإِضافة . أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ " إنْ لم يُؤمنوا " ، وللمضيِّ فيمن قرأ " أن لم تُؤْمنوا " بمعنى : لأَِنْ لم يؤمنوا " . قلت : يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ " إنْ " فإنها شرطيةٌ ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها ، وذلك لا يجئُ إلا في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين . وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ " باخع " ، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف .

ولعلَّك " قيل : للإِشفاق على بابها . وقيل : للاستفهام ، وهو رأي الكوفيين . وقيل : للنهي أي : لا تَبْخَعْ .

والبَخْعُ : الإِهلاك . يقال : بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً ، أهلكها وَجْداً . قال ذو الرمة :

ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه *** لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ

يريد : نَحَّته بالتشديد ، فخفَّف . / قال الأصمعي : " كان يُنْشِده : " الوجدَ " بالنصب على المفعولِ له ، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية ب " الباخع " .

وقيل : البَخْعُ : أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة . قاله الكسائي : وقيل : هو جَهْدُ الأرضِ ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها ، عن عمر : " بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ " تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها ، وهذا استعارةٌ ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري : هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك . وقال في سورة الشعراء : " والبَخْعُ " . أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء ، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار ، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ " . انتهى . وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول : " تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً " . قلت : يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم .

وقال الراغب : " البَخْعُ : قَتْلُ النفسِ غَمَّاً " . ثم قال : " وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ ، وبما عليه من الحقِّ : إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه " .

وقوله : " على آثارِهم " متعلقٌ ب " باخعٌ " ، أي : مِنْ بعد هلاكِهم .

قوله : أَسَفَاً " يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه " باخعٌ " ، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في " باخعٌ " .