قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } . نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من ذوي عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج ، يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها ، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها ، فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس ، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه ، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه ، فلا ينفق علي ، ولا يدخل بي ، ولا يخلي سبيلي ، فقال : اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله . فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } . قرأ حمزة والكسائي : كرهاً بضم الكاف ها هنا وفي التوبة . وقرأ الباقون بالفتح قال الكسائي : هما لغتان . قال الفراء : الكره بالفتح ما أكره عليه ، وبالضم ما كان من قبل نفسه من المشقة .
قوله تعالى : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } . أي : لا تمنعوهن من الأزواج ليضجرن فيفتدين ببعض مالهن ، قيل : هذا خطاب لأولياء الميت ، والصحيح أنه خطاب للأزواج . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر ، فنهى الله تعالى عن ذلك .
قوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم ، واختلفوا في الفاحشة ، قال ابن مسعود وقتادة : هي النشوز ، وقال بعضهم : وهو قول الحسن : هي الزنا . يعني : المرأة إذا نشزت ، أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع ، وقال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشةً أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحدود ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر ( مبينة ومبينات ) بفتح الياء ، ووافق أهل المدينة والبصرة في مبينات ، والباقون بكسرها .
قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } : قال الحسن : راجع إلى أول الكلام ، يعني { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } { وعاشروهن بالمعروف } والمعاشرة بالمعروف : هي الإجمال في القول ، والمبيت ، والنفقة ، وقيل : هي أن يتصنع لها كما تتصنع له .
قوله تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . قيل : هو ولد صالح ، أو يعطفه الله عليها .
ثم وجه القرآن نداء عاما إلى المؤمنين نهاهم فيه عما كان شائعا فى الجاهلية من ظلم للنساء ؛ وإهدار لكرامتهن ، وأمرهم بحسن معاشرتهن ، وبعدم أخذ شئ من حقوقهن فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . . مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( 19 ) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 )
قال القرطبى عند تفسيره للآية الأولى : اختلفت الروايات وأقوال المفسرين فى سبب نزولها ؛ فروى البخارى عن ابن عباس قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
وقال الزهرى وأبو مجلز : كان من دعاتهم إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبة ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت . وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها . فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } . الآية .
وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدى منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية .
ثم قال القرطبى : والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه فى جاهليتهم ، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال . .
وهناك روايات أخرى فى سبب نزول هذه الآية هذه الآية ساقها ابن جرير وابن كثير وغيرهما ، وهى قريبة فى معناها ، مما أورده القرطبى ، لذا اكتفينا بما ساقه القرطبى .
وكلمة { كَرْهاً } قرأها حمزة والكسائى بضم الكاف . وقرأها الباقون بفتحها قال الكسائى : وهما لغتان بمعنى واحد . وقال الفراء : الكره - بفتح الكاف - بمعنى الإِكراه . وبالضم بمعنى المشقة . فما أكره عليه الإِنسان فهو كره - بالفتح - وما كان من جهة نفسه فهو كره - بالضم - .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق الذى جاءهم من عند الله ، لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإِرث وهو كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، لأن هذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمها الإِسلام لما فيها من ظلم للمرأة وإهانة لكرامتا .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ، ويظلموهن بأنواع من الظلم ، فزجروا عن ذلك . فقيل : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } أى : أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكروهات .
وقد وجه - سبحانه - النداء إلى المؤمنين فقال : { أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } ليعم الخطاب جميع الأمة ، فيأخذ لك مكلف فيها بحظه منه سواء أكان هذا المكلف من أولياء المرأة أم من الأزواج أم من الحكام من غيرهم . وفى مخاطبتهم بصفة الإِيمان تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتحريض لهم على الاستجابة إلى ما يقتضيه الإِيمان من طاعة لشريعة الله - تعالى - .
وصيغة { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } صيغة تحريم صريح ؛ لأن الحل هو الإِباحة فى لسان العرب ولسان الشريعة . فنفيه يراجف معنى التحريم .
وليس النهى فى قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } منصبا على إرث أموالهن كما هو المعتاد ، وإنما النهى منصب على إرث المراة ذاتها كما كانوا يفعلون فى الجاهلية ؛ إذ كانوا يجعلون ذات المرأة كالمال فيرثونها من قريبهم كما يرثون ماله .
وقوله { كَرْهاً } مصدر منصوب على أنه حال من النساء . أى حال كونهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه .
والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفى ما عداه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } وقوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } نهى آخر عن بعض الأعمال السيئة التى كان أهل الجاهلية يعاملون بها المرأة . وهو معطوف على قوله : { أَن تَرِثُواْ . . . } . وأعيد حرف " لا " للتوكيد .
أى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا يحل لكم أن تعضلوهن .
وأصل العضل : التضييق والحبس والمنع . يقال : عضلت الناقة بولدها ، إذا نشب فى بطنها وتعسر عليه الخروج . وهو : أعضل به الأمر ، إذا اشتد وتعسر .
والمراد به هنا : منع المرأة من الزواج والتضييق عليها فى ذلك ، سواء أكان هذا المنع والتضييق من الزوج أم من غيره .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
يقول : ولا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آيتموهن ، يعنى الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيؤذيها لتفتدى - أى : لتفتدى نفسها منه بأن تترك له مالها عليه من مهر أو مال - .
وقيل : كان أولياء الميت يمنعون زوجته من التزوج بمن شاءت ، ويتركونها على ذلك حتى تدفع لهم ما أخذت من ميراث الميت ، أو حتى تموت فيرثوها .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن ترثوا النساء كرها ، ولا أن تمنعوهن من الزواج { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } من الصداق أو غيره ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن ، فإن هذا الفعل يبغضه الله - تعالى - .
ويبدو لنا من سياق الآية أن النهى عن عضل المرأة هنا - وإن كان يتناول جميع المكلفين - ، إلا أن المعنى به الأزواج ابتداء ، لأنهم - فى الغالب - هم الذين كانوا يفعلون ذلك .
ولذا قال ابن جرير - بعد أن ذكر الأقوال فى المعنى بالخطاب فى قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
وأولى الأقوال التى ذكرناها بالصحة فى تأويل قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قول من قال : " نهى الله زوج المرأة عن التضييق عليها ، والإِضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب ، لتفتدى منه ببعض ما آتاها من الصداق " .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل المرأة إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها . . ليأخذ منها ما آتاها . . . أو لوليها الذى إليه إنكاحها . ولما كان الولى معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا . كان معلوما أن الذى عنى الله - تعالى - بنهييه عن عضلها هو زوجها الذى له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدى منه .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } متصل من أعم العلل والأسباب ، أى لا تعضلوهن لعلة من العلل أو لسبب من الأسباب إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . لسوء أخلاقهن ، وكاشفة عن أحوالهن . كالزنا والنشوز ، وسوء الخلق ، وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء وفحش القول ونحوه ، فلكم العذر فى هذه الأحوال فى طلب الخلع منهن ، وأخذ ما أتيتموهن من المهر لوجود السبب من جهتهن لا من جهتكم .
والأصل فى هذا الحكم قوله - تعالى - { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا منقطع فيكون المعنى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل لكم أخذ المهر الذى آتيتموهن إياه أو أخذ بعضه .
ثم أمر الله - تعالى - الرجال - وخصوصا الأزواج - بحسن معاشرة النساء فقال : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } .
والمعاشرة : مفاعلة من العشرة وهى المخالطة والمصاحبة .
أى : وصاحبوهن وعاملوهن بالمعروف ، أى بما حض عليه الشرع وارتضاه العقل من الأفعال الحميدة ، والأقوال الحسنة .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أى : طيبوا أقوالاكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم . كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت مثله . كما قال - تعالى - { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويضاحك نساءه . حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضى الله عنها - يتودد إليها بذلك . قالت : سابقنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته . وذلك قبل أن أحمل اللحم . ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقنى . فقال : هذه بتلك . وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة فى بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء فى بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه فى شعار واحد . يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإِزار .
وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام .
يؤانس بذلك صلى الله عليه وسلم . وقد قال - تعالى - { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } هذا ، وللإِمام الغزالى كلام حسن فى كتابه الإِحياء عند حديثه عن آداب معاشرة النساء ، فقد قال ما ملخصه : ومن آداب المعاشرة حسن الخلق معهن ، واحتمال الأذى منهن ، ترحما عليهن ، لقصور عقلهن . قال - تعالى - : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } وقال فى تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
ثم قال : واعلم أنه حسن الخلق معها كف الأذى عنها ، بل احتمال الأذى منها ، والحلم عن طيشها وغضبها ، اقتداء برسولا لله صلى الله عليه وسلم . فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام . ومن آداب المعاشرة - أيضا - أن يزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهى التى تطيب قلوب النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن فى الأعمال .
وقال عمر - رضى الله عنه - ينبغى للرجل أن يكون فى أهله مثل الصبى . فإذا التمسوا ما معنده وجدوه رجلا .
وكان ابن عباس - رضى الله عنه - يقول : " إنى - لأتزين لامرأتى كما تتزين لى " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أنه لا يصح للرجال أن يسترسلوا فى كراهية النساء إن عرضت لهم أسباب الكراهية ، بل عليهم أن يغلبوا النظر إلى المحاسن ، ويتغاضوا عن المكاره فقال : - تعالى - : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
أى : فإن كرهتم صحبتهن وإمساكهن فلا تتعجلوا فى مفارقتهن ، فإنه عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم فى الصبر عليه وعدم إنفاذه خيراً كثيراً فى الدنيا والآخرة .
فالآية الكريمة ترشد إلى حكم عظيمة منها أن على العاقل أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها ، لا من ناحية واحدة منها وهى ناحية البغض والحب . . وأن ينظر فى العلاقة التى بينه وبين زوجه بعين العقل والمصلحة المشتركة ، لا بعين الهوى . . وأن يحكم دينه وضميره قبل أن يحكم عاطفته ووجدانه . فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأحمد وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ، وربما يكون الشئ الذى كرهته اليوم ولكنها لم تسترسل فى كراهيته سيجعل الله فيه خيراً كثيراً فى المستقبل . قال - تعالى - { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } قال القرطبى : روى الإِمام مسلم فى صحيح عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضى منها آخر " أى : لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها .
أى لا ينبغى له ذلك ، بل يغفر سيئتها لحسنتها ، ويتغاضى عما يكره لما يجب - والفرك البغض الكلى الذى تنسى مع كل المحاسن - .
وقال مكحول : سمعت ابن عمر رضى الله عنهما - يقول : إن الرجل ليستخير الله - تعالى - فيخار له ، فيسخط على ربه - عز وجل - فلا يلبث أن ينظر فى العاقبة فإذا هو قد خير له .
والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة . .
ولقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية ، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا ، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية ، وتطلقها فتنة للنفوس ، وإغراء للغرائز ، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : ( الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . . ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل ؛ وليوثق الروابط والوشائج ، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى ، وعند الانفعال الأول :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته ، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات ! إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات ! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج ، حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه ، فمنعها من الناس ، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة ! فإن كانت جميلة تزوجها ؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي نفسها منه بمال ! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه ، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه !
وكان بعضهم يطلق المرأة ، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد ؛ حتى تفتدي نفسها منه ، بما كان أعطاها . . كله أو بعضه !
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها !
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ، ويأخذ مالها !
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة ؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار ، أو علاقة بهائم !
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم ، اللائق بكرامة بني آدم ، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع ، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة ، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ، ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة ، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافا . بكرا أم ثيبا مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول ، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيرا فيما يكره ، هو لا يدريه . خيرا مخبوءا كامنا ، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجة سيلاقيه :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية ، تعلق النفس بالله ، وتهدىء من فورة الغضب ، وتفثأ من حدة الكره ، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء ؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه ، وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما ، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا ، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق ، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر ، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة ، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة ، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك . .
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه " لأنه لا يحبها " . . " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية وأين التذمم ؟ " . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم " الحب " وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها ! أليست لا تحبه ؟ ! وخيانة الزوج لزوجته ! أليس أنه لا يحبها ؟ !
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة ، ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوقة ! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس ، وترفع الاهتمامات ، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة ، وطمع التاجر ، وتفاهة الفارغ !
قال البخاري : حدثنا محمد بن مُقَاتل ، حدثنا أسْبَاط بن محمد ، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السَّوَائي ، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضُهم تزوجها ، وإن شاءوا زَوَّجُوها ، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك .
هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مَرْدُويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم{[6827]} .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي ، حدثني علي بن حُسَين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وذلك أن الرجل كان{[6828]} يرث امرأة ذي قرابته ، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها ، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
تفرد به أبو داود{[6829]} وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو{[6830]} ذلك ، فقال وَكِيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا ، كان أحق بها ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }{[6831]} .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى{[6832]} عليها حميمه{[6833]} ثوبه ، فمنعها من الناس . فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها .
وروى{[6834]} العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال زيد بن أسلم في الآية{[6835]} [ { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } ]{[6836]} كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضُلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة{[6837]} المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى{[6838]} بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به . ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت ، فجنَحَ عليها ابنُه ، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح ، فنزلت هذه الآية .
وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب{[6839]} أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ ، فأنزل الله : [ تعالى ]{[6840]} { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه . رواه ابن أبي حاتم . ثم قال : ورُوِيَ عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مِجْلَز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك .
قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي : لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك ، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } يقول : ولا تقهروهن { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } يعني : الرجل تكون له امرأة{[6841]} وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها{[6842]} لتفتدي .
وكذا قال الضحاك ، وقتادة [ وغير واحد ]{[6843]} واختاره ابن جرير .
وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرٌ قال : أخبرني سِمَاك بن الفضل ، عن ابن البَيْلمَاني{[6844]} قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمرالإسلام . قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } في الجاهلية { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } في الإسلام .
وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشَّعْبِيُّ ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومجاهد ، وعِكْرَمَة ، وعَطاء الخراسانيّ ، والضَّحَّاك ، وأبو قِلابةَ ، وأبو صالح ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ]{[6845]} } الآية[ البقرة : 229 ] .
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النُّشوز والعِصْيان .
واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبَذاء اللسان ، وغير ذلك .
يعني : أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[6846]} في قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
قال{[6847]} عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام .
قال عبد الرحمن بن زيد : كان العَضْل في قريش بمكة ، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن{[6848]} لا تُزوّج{[6849]} إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن{[6850]} لها ، وإلا عَضلها . قال : فهذا قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } الآية .
وقال مجاهد في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } هو كالعضل في سورة البقرة .
وقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : طيِّبُوا أقوالكم لهن ، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي " {[6851]} وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ ، يُداعِبُ أهلَه ، ويَتَلَطَّفُ بهم ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته ، ويُضاحِك نساءَه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك . قالت : سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني ، فقال : " هذِهِ بتلْك " {[6852]} ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل{[6853]} منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد .
وقوله تعالى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [ وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ]{[6854]} } أي : فعَسَى أن يكون صبركم مع{[6855]} إمساككم لهن وكراهتهن فيه ، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة . كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يَعْطف عليها ، فيرزقَ منها ولدًا . ويكون في ذلك الولد خير كثير{[6856]} وفي الحديث الصحيح : " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة ، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر " {[6857]} .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
استئناف تشريع في أحكام النساء التي كان سياق السورة لبيانها وهي التي لم تزل آيها مبيّنة لأحكامها تأسيساً واستطراداً ، وبدءا وعودا ، وهذا حكم تابع لإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من جعل زوج الميّت موروثة عنه وافتتح بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } للتنويه بما خوطبوا به .
وخوطب الذين آمنوا ليعمّ الخطاب جميع الأمّة ، فيأخذ كلّ منهم بحظّه منه ، فمريد الاختصاص بامرأة الميّت يعلم ما يختصّ به منه ، والوليّ كذلك ، وولاة الأمور كذلك .
وصيغة { لا يحل } صيغة نهي صريح لأنّ الحلّ هو الإباحة في لسان العرب ولسان الشريعة ، فنفيه يرادف معنى التحريم .
والإرث حقيقته مصير الكسب إلى شخص عقب شخص آخر ، وأكثر ما يستعمل في مصير الأموال ، ويطلق الإرث مجازاً على تمحّض الملك لأحد بعد المشارك فيه ، أو في حالة ادّعاء المشارك فيه ، ومنه { يرث الأرض ومَن عليها } ، وهو فعل متعدّ إلى واحد يتعدّى إلى المتاع الموروث ، فتقول : ورثت مال فلان ، وقد يتعدى إلى ذات الشخص الموروث ، يقال : ورث فلان أباه ، قال تعالى : { فهب لي من لدنك وليا يرثني } [ مريم : 6 ] وهذا هو الغالب فيه إذا تعدّى إلى ما ليس بمال .
فتعدية فعل { أن ترثوا } إلى { النساء } من استعماله الأوّل : بتنزيل النساء منزلة الأموال الموروثة ، لإفادة تبشيع الحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . أخرج البخاري ، عن ابن عباس ، قال : « كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوّجها ، وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوّها ، فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت هذه الآية » وعن مجاهد ، والسدّي ، والزهري كان الابن الأكبر أحقّ بزوج أبيه إذا لم تكن أمّه ، فإن لم يكن أبناء فوليّ الميّت إذا سبق فألقى على امرأة الميّت ثوبه فهو أحقّ بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحقّ بنفسها . وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنّه لمّا مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته ولها أولاد منه : العيص ، وأبو العيص ، والعاص ، وأبو العاص ، وله أولاد من غيرها منهم أبو عمرو بن أمية فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه ، فولدت له : مُسافراً ، وأبا معيط ، فكان الأعياص أعماماً لمسافر وأبي معيط وأخوتهما من الأمّ » .
وقد قيل : نزلت الآية لمّا توفّي أبو قيس بن الأسلت رام ابنه أن يتزوّج امرأته كبشة بنت معن الأنصارية ، فنزلت هذه الآية . قال ابن عطية : وكانت هذه السيرة لازمة في الأنصار ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي . وعلى هذا التفسير يكون قوله { كرهاً } حالا من النساء ، أي كارهات غير راضيات ، حتّى يرضين بأن يكنّ أزواجاً لمن يرضينه ، مع مراعاة شروط النكاح ، والخطاب على هذا الوجه لورثة الميّت .
وقد تكرّر هذا الإكراه بعوائدهم التي تمالؤوا عليها ، بحيث لو رامت المرأة المحيد عنها ، لأصبحت سبّة لها ، ولما وجدت من ينصرها ، وعلى هذا فالمراد بالنساء الأزواج ، أي أزواج الأموات .
ويجوز أن يكون فعل ( ترثوا ) مستعملا في حقيقته ومتعدّيا إلى الموروث فيفيد النهي عن أحوال كانت في الجاهلية : منها أنّ الأولياء يعضلون النساء ذوات المال من التزوّج خشية أنّهنّ إذا تزوّجن يلدن فيرثهنّ أزواجهنّ وأولادهنّ ولم يكن للوليّ العاصب شيء من أموالهنّ ، وهنّ يرغبن أن يتزوّجن ؛ ومنها أنّ الأزواج كانوا يكرهون أزواجهم ويأبَون أن يطلّقوهنّ رغبة في أن يمتن عندهم فيرثوهنّ ، فذلك إكراه لهنّ على البقاء على حالة الكراهية ، إذ لا ترضى المرأة بذلك مختارة ، وعلى هذا فالنساء مراد به جمع امرأة ، وقرأ الجمهور : كرها بفتح الكاف وقرأه حمزة ، والكسائي وخلف بضم الكاف وهما لغتان .
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما ءاتيتموهن }
عطف النهي عن العضل على النهي عن إرث النساء كرها لمناسبة التماثل في الإكراه وفي أنّ متعلّقه سوء معاملة المرأة ، وفي أنّ العضل لأجل أخذ مال منهنّ .
والعضل : منع وليّ المرأة إيّاها أن تتزوّج ، وقد تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } في سورة البقرة [ 232 ] .
فإن كان المنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } هو المعنى المتبادر من فعل ( ترثوا ) ، وهو أخذ مال المرأة كرها عليها ، فعطف { ولا تعضلوهن } إمّا عطف خاصّ على عامّ ، إن أريد خصوص منع الأزواج نساءهم من الطلاق مع الكراهية ، رغبة في بقاء المرأة عنده حتّى تموت فيرث منها مالها ، أو عطف مباين إن أريد النهي عن منعها من الطلاق حتّى يلجئها إلى الافتداء منه ببعض ما آتاها ، وأيّامّا كان فإطلاق العضل على هذا الإمساك مجاز باعتبار المشابهة لأنّها كالتي لا زوج لها ولم تتمكّن من التزوّج .
وإن كان المَنهي عنه في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء } المعنى المجازي لترثوا وهو كون المرأة ميراثاً ، وهو ما كان يفعله أهل الجاهلية في معاملة أزواج أقاربهم وهو الأظهر فعطف { ولا تعضلوهن } عطف حكم آخر من أحوال المعاملة ، وهو النهي عن أن يعضل الوليّ المرأة من أن تتزوّج لتبقى عنده فإذا ماتت ورثها ، ويتعيّن على هذا الاحتمال أن يكون ضمير الجمع في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } راجعاً إلى من يتوقّع منه ذلك من المؤمنين وهم الأزواج خاصّة ، وهذا ليس بعزيز أن يطلق ضمير صالح للجمع ويراد منه بعض ذلك الجمع بالقرينة ، كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] أي لا يقتل بعضكم أخاه ، إذ قد يعرف أنّ أحداً لا يقتل نفسه ، وكذلك { فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي يسلم الداخل على الجالس . فالمعنى : ليذهب بعضكم ببعض ما آتاهنّ بعضكم ، كأن يريد الوليّ أن يذهب في ميراثه ببعض مال مولاته الذي ورثته من أمّها أو قريبها أو من زوجها ، فيكون في الضمير توزيع .
وإطلاق العضل على هذا المعنى حقيقة . والذهاب في قوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } مجاز في الأخذ ، كقوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، أي أزاله .
ليس إتيانهنّ بفاحشة مبيّنة بعضاً ممّا قبل الاستثناء لا من العضل ولا من الإذهاب ببعض المهر . فيحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا استثناءً من عموم أحوال الفعل الواقع في تعليل النهي ، وهو إرادة الإذهاب ببعض ما آتَوْهُنّ ، لأنّ عموم الأفراد يستلزم عموم الأحوال ، أي إلاّ حال الإتيان بفاحشة فيجوز إذهابكم ببعض ما آتيتموهنّ . ويحتمل أن يكون استثناء منقطعاً في معنى الاستدراك ، أي لكن إتيانهنّ بفاحشة يُحِلّ لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ ، فقيل : هذا كان حكم الزوجة التي تأتي بفاحشة وأنّه نسخ بالحدّ . وهو قول عطاء .
والفاحشة هنا عند جمهور العلماء هي الزنا ، أي أنّ الرجل إذا تحقّق زنى زوجه فله أن يعضلها ، فإذا طلبت الطلاق فله أن لا يطلّقها حتّى تفتدي منه ببعض صداقها ، لأنّها تسبّبت في بَعْثَرة حال بيت الزوج ، وأحوجته إلى تجديد زوجة أخرى ، وذلك موكول لدينه وأمانة الإيمان . فإنْ حاد عن ذلك فللقضاة حمله على الحقّ . وإنّما لم يَجْعل المفاداةَ بجميع المهر لئلا تصير مدّةُ العصمة عريَّة عن عوض مقابل ، هذا ما يؤخذ من كلام الحَسن . وأبي قلابة ، وابن سيرين وعطاء ؛ لكن قال عطاء : هذا الحكم نسخ بحدّ الزنا وباللعان ، فحرّم الإضرار والافتداء .
وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، والضحّاك ، وقتادة : الفاحشة هنا البغض والنشوز ، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ منها . قال ابن عطيّة : وظاهر قول مالك بإجازة أخذ الخلع عن الناشز يناسب هذا إلاّ أني لا أحفظ لمالك نصّا في الفاحشة في هذه الآية .
وقرأ الجمهور : مبيِّنة بكسر التحتية اسم فاعل من بيَّن اللازم بمعنى تبيَّن ، كما في قولهم في المثل « بَيَّنَ الصبحُ لذي عَيْنَيْن » . وقرأه ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بفتح التحتية اسم مفعول من بيَّن المتعدي أي بيَّنها وأظْهَرَها بحيث أشْهَدَ عَليهنّ بها .
{ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا }
أعقب النهي عن إكراه النساء والإضرارِ بهنّ بالأمر بحسن المعاشرة معهنّ ، فهذا اعتراض فيه معنى التذييل لما تقدّم من النهي ، لأنّ حسن المعاشرة جامع لنفي الإضرار والإكراه ، وزائد بمعاني إحسان الصحبة .
والمعاشرة مفاعلة من العِشْرة وهي المخالطة ، قال ابن عطية : وأرى اللفظة من أعشار الجزور لأنّها مقاسمة ومخالطة ، أي فأصل الاشتقاق من الاسم الجامد وهو عدد العشرة . وأنَا أراها مشتقّة من العشِيرة أي الأهل ، فعاشَره جَعَلَه من عشيرته ، كما يقال : آخاه إذا جعله أخاً . أمّا العشيرة فلا يعرف أصل اشتقاقها . وقد قيل : إنها من العشرة أي اسم العدد وفيه نظر .
والمعروف ضدّ المنكر وسمّي الأمر المكروه منكراً لأنّ النفوس لا تأنس به ، فكأنّه مجهول عندها نَكِرة ، إذ الشأن أنّ المجهول يكون مكروهاً ثمّ أطلقوا اسم المنكر على المكروه ، وأطلقوا ضدّه على المحبوب لأنّه تألفه النفوس . والمعروف هنا ما حدّده الشرع ووصفه العرف .
والتفريع في قوله : { فإن كرهتموهن } على لازم الأمر الذي في قوله : { وعاشروهن } وهو النهي عن سوء المعاشرة ، أي فإن وجد سبب سوء المعاشرة وهو الكراهية . وجملة { فعسى أن تكرهوا } نائبه مناب جواب الشرط ، وهي عليه له فعلم الجواب منها . وتقديره : فتثبتوا ولا تعجلوا بالطلاق ، لأن قوله { فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً } يفيد إمكان أن تكون المرأة المكروهة سببَ خيرات فيقتضي أن لا يتعجّل في الفراق .
و { عَسَى } هنا للمقاربة المجازية أو الترجّي . و{ أن تكرهوا } سادَ مسدّ معموليها ، { وَيَجْعَلَ } معطوف على { تكرهوا } ، ومناط المقاربةِ والرجاءِ هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه ، بدلالة القرينة على ذلك .
وهذه حكمة عظيمة ، إذ قد تكره النفوس ما في عاقبته خير فبعضه يمكن التوصّل إلى معرفة ما فيه من الخير عند غوص الرأي . وبعضه قد علم الله أنّ فيه خيراً لكنّه لم يظهر للناس . قال سهل بن حنيف ، حين مرجعه من صفّين « اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتُنا يَوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله أمْره لردَدْنا . واللَّه ورسولُه أعلم » . وقد قال تعالى ، في سورة البقرة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] .
والمقصود من هذا : الإرشادُ إلى إعماق النظر وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء ، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة . ولا بميل الشهوات إلى ما في الأفعال من ملائم ، حتّى يسبره بمسبار الرأي ، فيتحقّق سلامة حسن الظاهر من سُوء خفايا الباطن .
واقتصر هنا على مقاربة حصول الكراهية لشيء فيه خير كثير ، دون مقابلة ، كما في آية البقرة ( 216 ) { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } لأنّ المقام في سورة البقرة مقام بيان الحقيقة بطَرفيها إذ المخاطبون فيها كَرِهوا القتال ، وأحبّوا السلم ، فكان حالهم مقتضيا بيان أنّ القتال قد يكون هو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم ، وخضد شوكة العدوّ ، وأنّ السلم قد تكون شرّا لما يحصل معها من استخفاف الأعداء بهم ، وطمعهم فيهم ، وذهاب عزّهم المفضي إلى استعبادهم ، أمّا المقام في هذه السورة فهو لبيان حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كَرّهه فيها ، ورام فراقها ، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها ، فكان حاله مقتضياً بيان ما في كثير من المكروهات من الخيرات ، ولا يناسب أن يبيّن له أنّ في بعض الأمور المحبوبة شروراً لكونه فتحا لباب التعلّل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هواهم . وأُسند جعل الخير في المكروه هُنا للَّه بقوله : { ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } المقتضى أنه جَعْل عارض لمكروه خاصّ ، وفي سورة البقرة ( 216 ) قَال : { وهو خير لكم } لأنّ تلك بيان لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذات الحقيقة ، ليكون رجاء الخير من القتال مطّردا في جميع الأحوال غير حاصل بجَعْل عارض ، بخلاف هذه الآية ، فإنّ الصبْر على الزوجة الموذية أو المكروهة إذا كان لأجل امتثال أمر الله بحسن معاشرتها ، يكون جعل الخير في ذلك جزاءً من الله على الامتثال .