قوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم } يعني : أعمال الذين كفروا بربهم - كقوله تعالى : { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } [ الزمر-60 ] أي : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة ، { كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف } ، وصف اليوم بالعصوف ، والعصوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، لأن الحر والبرد فيه . وقيل : معناه : في يوم عاصف الريح ، فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل . وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار ، يريد : أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذرته الريح لا ينتفع به ، فذلك قوله تعالى : { لا يقدرون } ، يعني : الكفار { مما كسبوا } ، في الدنيا ، { على شيء } ، في الآخرة ، { ذلك هو الضلال البعيد } .
ثم ضرب - سبحانه - مثلاً لأعمال الكافرين فى حبوطها وذهابها يوم القيامة ، وساق الأدلة الدالة على قدرته القاهرة ، وصور أحوال الكافرين يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وحكى ما يقوله الضعفاء للمستكبرين وما يقوله الشيطان لأتباعه فى هذا اليوم العصيب ، وما أعده الله للمؤمنين الصادقين فى هذا اليوم فقال - تعالى - :
{ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ . . . } .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر أنواع عذابهم فى الآية المتقدمة ، بين فى هذه الآية وهى قوله - تعالى - { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ . . . } أن أعمالهم بأسرها ضائعة باطلة ، لا ينتفعون بشئ منها . وعند هذا يظهر كمال خسرانهم ، لأنهم لا يجدون فى القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه فى الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً " .
والمثل : النظير والشبيه . ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه بمورده ، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة ، ثم استعير للصفة ، أو الحال ، أو القصة إذا كان لها شأن عجيب ، وفيها غرابة .
والمراد بأعمال الذين كفروا فى الآية الكريمة : ما كانوا يقومون به فى الدنيا من أعمال حسنة كإطعام الطعام ، ومساعدة المحتاجين ، وإكرام الضيف ، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة .
والرماد : ما يتبقى من الشئ بعد احتراق أصله ، كالمتبقى من الخشب أو الحطب بعد احتراقهما .
والعاصف : من العصف وهو اشتداد الريح ، وقوة هبوبها .
قال الجمل : " وقوله : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ . . . } فيه أوجه للإِعراب : أحدها وهو مذهب سيبويه : أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ . . . } مستأنفة جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم . . ؟ فقيل : كيت وكيت .
والثانى : أن يكون " مثل " مبتدأ و " أعمالهم " مبتدأ ثان ، و " كرماد " خبر المبتدأ الثانى ، والمبتدأ الثانى وخبره خبر المبتدأ الأول . . . "
والمعنى : حال أعمال الذين كفروا فى حبوطها وذهابها وعدم انتفاعهم بشئ منها فى الآخرة ، كحال الرماد المكدس الذي أتت عليه الرياح العاصفة ، فمحقته وبددته ، ومزقته تمزيقاً لا يجرى معه اجتماع .
فالآية الكريمة تشبيه بليغ لما يعمله الكافرون فى الدنيا من أعمال البر والخير .
ووجه الشبه : الضياع والتفرق وعدم الانتفاع فى كل ، فكما أن الريح العاصف تجعل الرماد هباء منثورا ، فكذلك أعمال الكافرين فى الآخرة تصير هباء منثوراً ، لأنها أعمال بنيت على غير أساس من الإِيمان وإخلاص العبادة لله - تعالى - .
ووصف - سبحانه - اليوم بأنه عاصف - مع أن العصف شدة الريح - للمبالغة فى وصف زمانها - وهو اليوم - بذلك : ما يقال : يوم حار ويوم بارد ، مع أن الحر والبرد فيهما وليس منهما .
وقوله - سبحانه - { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ } بيان للمقصود من التشبيه ، وهو أن هؤلاء الكافرين ، لا يقدرون يوم القيامة ، على الانتفاع بشئ مما فعلوه فى الدنيا من أفعال البر والخير ، لأن كفرهم أحبطها فذهب سدى دون أن يستفيدوا منها ثواباً ، أو تخفف عنهم عذاباً .
قال الآلوسى : " وفى الصحيح عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت :
" يا رسول الله . إن ابن جدعان فى الجاهلية كان يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، هل ذلك نافعة ؟ قال : " لا ينفعه ؛ لأنه لم يقل رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " " .
وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : " هذا مثل ضربة الله - تعالى - لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها وهم أحوج ما كانوا إليها . . .
كما قال - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وكما قال تعالى - { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } واسم الإِشارة فى قوله { ذلك هُوَ الضلال البعيد } يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها .
أى : ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشئ منها ، هو الضلال البعيد .
أى : البالغ أقصى نهايته ، والذى ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين .
ووصف - سبحانه - الضلال بالبعد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، بعض مظاهر قدرته التى لا يعجزها شئ فقال - تعالى - : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } .
واسم الإِشارة فى قوله { ذلك هُوَ الضلال البعيد } يعود إلى ما دل عليه التمثيل من بطلان أعمالهم ، وذهاب أثرها .
أى : ذلك الحبوط لأعمالهم ، وعدم انتفاعهم بشئ منها ، هو الضلال البعيد .
أى : البالغ أقصى نهايته ، والذى ينتهى بصاحبه إلى الهلاك والعذاب المهين .
ووصف - سبحانه - الضلال البعيد ، لأنه يؤدى إلى خسران لا يمكن تداركه ، ولا يرجى الخلاص منه .
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلا مصورا في مشهد يضرب الذين كفروا ، ولفتة إلى قدرة الله على أن يذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد . . ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى ، وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض ، مخايلا بالساحة الأخرى :
( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء . ذلك هو الضلال البعيد ) . .
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود ، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى ، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ، ولا الانتفاع به أصلا . يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك ، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا .
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار . فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث ، وتصل الباعث بالله . . مفككة كالهباء والرماد ، لا قوام لها ولا نظام . فليس المعول عليه هو العمل ، ولكن باعث العمل . فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية .
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة ، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر . ويلتقي معها التعقيب :
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف . . إلى بعيد ! !
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ؛ فانهارت وعَدِمُوها أحوج ما كانوا إليها ، فقال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ } أي : مثل أعمال الذين كفروا يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء ، فلم يجدوا شيئًا ، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصَّل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } أي : ذي ريح عاصفة قوية ، فلا [ يقدرون على شيء من أعمالهم التي كسبوها في الدنيا إلا كما ]{[15796]} يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [ آل عمران : 117 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] .
وقال في هذه الآية : { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } أي : سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما هم إليه ، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } {[15797]} .
اختلف في الشيء الذي ارتفع به قوله : { مثل } ، فمذهب سيبويه رحمه الله أن التقدير : فيما يتلى عليكم أو يقص : { مثل الذين كفروا } . ومذهب الكسائي والفراء : أنه ابتداء خبره { كرماد } والتقدير عندهم : مثل أعمال الذين كفروا كرماد ، وقد حكي عن الفراء : أنه يرى إلغاء { مثل } وأن المعنى : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، وقيل : هو ابتداء و { أعمالهم } ابتداء ثان ، و { كرماد } خبر الثاني ، والجملة خبر الأول ، وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت : المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة ، وهي : { أعمالهم كرماد } . وهذا يطرد عندي في قوله تعالى : { مثل الجنة } [ الرعد : 35 ، محمد : 15 ] . وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح ، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر ، ولا يجتمع منه شيء ، ووصف «اليوم » ب «العصوف » - وهي من صفة الريح بالحقيقة - لما كانت في اليوم ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ جرير ] :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى . . . ونمت وما ليل المطي بنائم{[7039]}
يومين غيمين ويوماً شمساً{[7040]} . . . فأعمال الكفرة لتلاشيها لا يقدرون منها على شيء .
وقرأ نافع وحده وأبو جعفر «الرياح » والباقون «الريح » بالإفراد وقد تقدم هذا ومعناه مستوفى بحمد الله .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى كونهم بهذه الحال ، وعلى مثل هذا الغرور ، و { الضلال البعيد } الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة .
وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن أبي بكر{[7041]} «في يوم عاصف » بإضافة يوم إلى عاصف ، وهذا بين .
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة . وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم ، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء ، ومن عتق رقاب ، وقِرى ضيوف ، وحمالة ديات ، وفداء أسارى ، واعتمار ، ورفادة الحجيج ، فهل يجدون ثواب ذلك ؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه ، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع حتمالات .
والمثل : الحالة العجيبة ، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ . فالمعنى : حال أعمالهم ، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مَثَل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام ، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام .
فقوله : { أعمالهم } مبتدأ ثاننٍ ، و { كرماد } خبر عنه ، والجملة خبر عن المبتدإ الأول .
ولما جعل الخبر عن { مثل الذين كفروا } ، { أعمالهم } آل الكلام إلى أن مَثَل أعمال الذين كفروا كرماد .
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقاً لا يُرجى معه اجتماعُه . ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه ، والهيئة المشبهة معقولة .
ووصف اليوم بالعاطف مجاز عقلي ، أي عاصف ريحُه ، كما يقال : يوم ماطر ، أي سحابه .
والرماد : ما يبقى من احتراق الحطب والفحم . والعاصف تقدم في قوله : { جاءتها ريح عاصف } في سورة يونس ( 22 ) .
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع ، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم .
وقرأ نافع وأبو جعفر اشتدت به الرياح } . وقرأه البقية { اشتدت به الريح } بالإفراد ، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس .
وجملة { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } بيان لجملة التشبيه ، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها .
وجملة { ذلك هو الضلال البعيد } تذييل جامع لخلاصة حالهم ، وهي أنها ضلال بعيد .
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه ، أي بعيد في مسافات الضلال ، فهو كقولك : أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } في سورة النساء ( 116 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{مثل الذين كفروا بربهم}... مثل {أعمالهم} الخبيثة في غير إيمان، {كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} في يوم شديد الريح، فلم ير منه شيء، فكذلك أعمال الكفار. {لا يقدرون مما كسبوا على شيء}، يقول: لا يقدرون على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا، ولا تنفعهم أعمالهم؛ لأنها لم تكن في إيمان.
ثم قال: {ذلك} الكفر، {هو الضلال البعيد}، يعني الطويل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومعنى الكلام: مَثَلُ أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، كما قيل:"وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ" [سورة الزمر: 60]، ومعنى الكلام: ويوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة...
وهذا مثلٌ ضربه الله لأعمال الكفّار فقال: مَثَلُ أعمال الذين كفروا يوم القيامة، التي كانوا يعملونها في الدنيا يزعمُون أنهم يريدون الله بها، مَثَلُ رمادٍ عصفت الريح عليه في يومِ ريح عاصفٍ، فنسفته وذهبت به، فكذلك أعمال أهل الكفر به يوم القيامة، لا يجدون منها شيئًا ينفعهم عند الله فينجيهم من عذابه، لأنهم لم يكونوا يعملونها لله خالصًا، بل كانوا يشركون فيها الأوثان والأصنام...
يقول الله عز وجل: "ذلك هو الضلال البعيد"، يعني أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا، التي يشركون فيها مع الله شركاء، هي أعمالٌ عُملت على غير هُدًى واستقامة، بل على جَوْر عن الهُدَى بعيد، وأخذٍ على غير استقامة شديد.
وقيل: "في يوم عاصف"، فوصف بالعُصوف اليومَ، وهو من صفة الريح، لأن الريح تكون فيه، كما يقال: "يوم بارد، ويوم حارّ"، لأن البردَ والحرارة يكونان فيه... وقوله: (ذلك هو الضَّلال البعيد)، أي الخطأ البينُ، البعيدُ عن طريق الحق.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تحتمل {أعمالهم}... محاسنهم التي كانت لهم في حال الكفر، طمعوا أن ينتفعوا بتلك المحاسن في الآخرة، فما انتفعوا بها، فصارت كالرماد الذي تذروه الريح الشديدة، لم ينتفع صاحب ذلك الرماد به بعد ما عملت به الريح ما عملت... وما يشبه بالرماد فهي الأعمال الصالحة في أنفسها، لكن الكفر أبطلها...
{ذلك هو الضلال البعيد} يحتمل {ذلك} {هو الضلال البعيد} لا نجاة فيه أبدا، أو ذلك الذي أتوا به بعيد عن الحق، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{مثل الذين كفروا بربّهم أعمالُهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف} وهذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكافر في أنه لا يحصل على شيء منها، بالرماد الذي هو بقية النار الذاهبة لا ينفعه، فإذا اشتدت به الريح العاصف: وهي الشديدة: فأطارته لم يقدر على جمعه، كذلك الكافر في عمله...
{لا يقدرون مما كسَبَوا على شيءٍ} يحتمل وجهين:
أحدهما: لا يقدرون في الآخرة على شيء من ثواب ما عملوا من البر في الدنيا لإحباطه بالكفر.
الثاني: لا يقدرون على شيء مما كسبوه من عروض الدنيا، بالمعاصي التي اقترفوها، أن ينتفعوا به في الآخرة.
{ذلك هو الضلال البعيد} وإنما جعله بعيداً لفوات استدراكه بالموت...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي وفيما يُتْلَى عليكَ -يا محمد- مَثَل لأعمال الكفار في تلاشيها، وكيف أنه لا يُقبَلُ شيءٌ منها كَرَمَادٍ في يوم عاصف، فإنه لا يَبْقَى منه شيء- كذلك أعمالُهم. ومَنْ كان كذلك فقد خاب في الدارين، وحلَّ عليه الويل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تقديره: وفيما يقص عليك {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة، وقوله: {أعمالهم كَرَمَادٍ} جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. ويجوز أن يكون المعنى: مثل أعمال الذين كفروا بربهم. أو هذه الجملة خبراً للمبتدأ، أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك صفة زيد عرضه مصون وما له مبذول، أو يكون أعمالهم بدلاً من {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ} على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد: الخبر... {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} جعل العصف لليوم، وهو لما فيه، وهو الريح أو الرياح، كقولك: يوم ماطر وليلة ساكرة. وإنما السكور لريحها... وأعمال الكفرة: المكارم التي كانت لهم، من صلة الأرحام وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجارة، وغير ذلك من صنائعهم، شبهها في حبوطها وذهابها هباء منثوراً لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه: برماد طيرته الريح العاصف {لاَّ يَقْدِرُونَ} يوم القيامة {مِمَّا كَسَبُواْ} من أعمالهم {على شيء} أي لا يرون له أثراً من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء. {ذلك هُوَ الضلال البعيد} إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
كأنك قلت: المتحصل مثالاً في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة، وهي: {أعمالهم كرماد}... وشبهت أعمال الكفرة ومساعيهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها بالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى أثر، ولا يجتمع منه شيء... وقوله: {ذلك} إشارة إلى كونهم بهذه الحال، وعلى مثل هذا الغرور، و {الضلال البعيد} الذي قد تعمق فيه صاحبه وأبعد عن لاحب النجاة...
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعا باطلا، وذلك هو الخسران الشديد...
[ثم إن] وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال، هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر، فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر، ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه:
الوجه الأول: أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع، وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم، ولولا كفرهم لانتفعوا بها.
والوجه الثاني: أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيمانا وطريقا إلى الخلاص، والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم.
والوجه الثالث: أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين، لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت، والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضا وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد}...
{لا يقدرون مما كسبوا على شيء} أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
شبه الله تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف.
فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور، لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكونها لغير الله -عز وجل- وعلى غير أمره: برماد طيرته الريح العاصف، فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه. فلذلك قال: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء فلا يرون له أثرا من ثواب، ولا فائدة نافعة. فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، موافقا لشرعه... وفي تشبيهها بالرماد سر بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد، في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده: طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا. فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال: {مثل} وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة {الذين كفروا} مستهينين {بربهم} مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً. ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: {أعمالهم} أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء... {كرماد} وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار {اشتدت به الريح} أي أسرعت بالحركة على عظم القوة... {في يوم عاصف} أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث {لا يقدرون} أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله: {مما كسبوا} في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم {على شيء} بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل {ذلك} أي الأمر الشديد الشناعة {هو} أي خاصة {الضلال البعيد} الذي لا يقدر صاحبه على تداركه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن أعمال الكفار التي عملوها: إما أن المراد بها الأعمال التي عملوها لله، بأنها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد، الذي هو أدق الأشياء وأخفها، إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فإنه لا يبقى منه شيئا، ولا يقدر منه على شيء يذهب ويضمحل، فكذلك أعمال الكفار {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} ولا على مثقال ذرة منه لأنه مبني على الكفر والتكذيب. {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم، وإما أن المراد بذلك أعمال الكفار التي عملوها ليكيدوا بها الحق، فإنهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
مشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا. هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار. فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله.. مفككة كالهباء والرماد، لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية...
(ذلك هو الضلال البعيد)... هو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف.. إلى بعيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة. وقد أثار هذا التمثيل ما دلّ عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالاً من الصلة والمعروف من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقِرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك؟ وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجهَ الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضُرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات. والمثل: الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ.. شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدّس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقاً لا يُرجى معه اجتماعُه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة...
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المتجمع، لأن الرماد أثرٌ لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعِها بينهم وهو قِرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم...
وجملة {ذلك هو الضلال البعيد} تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد. والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيتُه، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك: أقصى الضلال أو جِدَّ ضَلال...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وقد تضمنت كما هو واضح تلقينا جليلا متصلا بالدعوة الإسلامية وهو أن كل عمل لا يكون صاحبه مؤمنا بالله متجها إليه وحده لا فائدة منه عند الله؛ لأنه لا يكون صادرا عن قلب طاهر سليم...
وقد يأتي في أذهان البعض ما يشوّه عقائد الإيمان فيقول: كيف يدخل فلان النار وهو من أهدى البشرية تلك المخترعات الهائلة التي غيّرت مسارات الحضارة، وأسعدت الناس؟ كيف يعذّب الله هؤلاء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون، أيعذبهم لمجرد أنهم كفار؟ وأقول: نعم، يعذبهم الله على الرغم من أنه سبحانه لا يضيع عنده أجر من أحسن عملا؛ وهو قادر على أن يجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك...
وهذه الأعمال التي صنعوها في الدنيا، وظنوا أنها أعمال إنسانية وأعمال بِرّ تأتي يوم القيامة وهي رماد تهبّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذروه بعيدا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أعمال الكفار لا قيمة لها عند الله إن قيمة العمل الذي يستحق ثواب الله، لا تتحدد في طبيعته الذاتية لجهة الكمّ والنوع، بل تتحدد على ضوء خلفياته داخل وعي الإنسان، وانطلاقه من الإخلاص لله حباً له والتزاماً بأوامره. فإذا كان وراء العمل غاية ذاتية أو تجارية، فإنه يفقد قيمته عند الله... فالإسلام يريد أن يؤكد في وجدان الإنسان وفي حياته، على العمل المنطلق من قاعدةٍ ثابتةٍ في النفس، تضمن استمرار دوافعه الخيّرة ونهجه القويم، وتحمي الحياة من الأطماع والأهواء التي تتحكم بالإنسان. وقد يندرج في إطار العمل لله، ما ينطلق من الذات دون خلفية تجارية تتطلب ربحاً مادياً أو معنوياً وامتيازات دنيوية، فإن الظاهر في مثل هذه الحال أنه متأتٍّ عن إيمان راسب في داخل النفس وعمق الضمير، تحت ضغط مشاكل الحياة أو أمور أخرى تعيق الإحساس بامتداده الروحي في الأعماق. {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} لجهة نتائج أعمالهم التي قاموا بها، على أساس خط الكفر حيث لا ينطلق الإنسان من قاعدةٍ أخلاقيةٍ أو روحيةٍ ترتبط بالله، {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} فلم تُبق منه شيئاً، {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ}، لأن الريح التي عصفت به حوّلته إلى ذراتٍ ضائعةٍ في الفراغ {ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ}. وأي ضلال أعظم وأبعد مما يقوم به الإنسان ويجهد نفسه فيه، من أعمال شاقةٍ ومتعبةٍ دون أن يحصد منها أيّة نتيجة إيجابية في مصيره النهائي، حيث يحتاج الإنسان إلى كل جهد قام به مهما كان صغيراً. إنه الضياع الذي يمثل الخسارة على كل صعيد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ضربت هذه الآية مثالا واضحاً وبليغاً لأعمال الكفّار، وبذلك تكمل بحث الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم...
لماذا شبّهت أعمالهم كرماد اشتدت به الريح؟
التشبيه بالرماد (مع إمكان الاستفادة من التراب والغبار في ذلك) لأنّه عبارة عن بقايا الاحتراق، والآية توضّح أنّ أعمالهم ظاهرية فقط وليس لها أي محتوى، فيمكن أن تنمو وردة جميلة في حفنة من التراب، ولكن لا يمكن أن ينمو في الرماد حتّى العلف الرّديء.
إن ذرّات الرماد غير متلاصقة، وحتّى بمساعدة الماء لا يمكن ترابطها فالذرّات تنفصل عن بعضها البعض بسرعة، وكأنّ ذلك يشير إلى أنّ أعمال الكفّار غير منسجمة ولا موحّدة، على العكس من أعمال المؤمنين حيث نراها منسجمة وموحّدة ومترابطة وكلّ عمل يكمل العمل الآخر، فروح التوحيد والوحدة لا تقتصر على توحيد الجماعة المؤمنة في ما بينهم بل تنعكس حتّى في أعمال الفرد المسلم.
بالرغم من تناثر الرماد في اشتداد الريح، إلاّ أنّه يؤكّده في يوم عاصف، لأنّ الرياح إذا كانت محدودة وآنيّة فمن الممكن أن ينتقل الرماد من مكان إلى مكان ليس بالبعيد، ولكن إذا كان يوم عاصف فمن البديهي أن يتناثر الرماد بشكل واسع، وتنتشر ذرّاته ولا يمكن لأيّة قدرة جمعها.
إذا كانت العاصفة تهبّ على التبن وأوراق الشجر وتنتثرها في أماكن بعيدة إلاّ أنّه يمكن تشخيصها، ولكن ذرّات الرماد من الصغر بحيث لو انتثرت لا يبقى لها أي أثر وكأنّ ليس لها وجود سابق...