قوله عز وجل :{ إليه يرد علم الساعة } أي : عملها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره ، { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } قرأ أهل المدينة والشام وحفص : { ثمرات } على الجمع ، وقرأ الآخرون { ثمرة } على التوحيد ، { من أكمامها } أوعيتها ، واحدها : كم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الكفرى قبل أن تنشق . { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } إلا بإذنه ، يقول : يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج . { ويوم يناديهم } ينادي الله المشركين ، { أين شركائي } الذين كنتم تزعمون أنها آلهة ، { قالوا } يعني المشركين ، { آذناك } أعلمناك ، { ما منا من شهيد } أي : من شاهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام .
ثم بين - سبحانه - فى أواخر هذه السورة الكريمة ، أن علم قيام الساعة إليه - تعالى - وحده ، وأن الإِنسان لا يسأم من طلب المزيد من الخير فإذا مسه الشر يئس وقنط . وأن حكمته - تعالى - قد اقتضت أن يقيم للناس الأدلة على قدرته ووحدانيته من أنفسهم وعن طريق هذا الكون الذى يعيشون فيه فقال - تعالى - :
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ . . . } .
قوله - تعالى - : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ . . } بيان لانفراد الخالق - عز وجل - بوقت قيام الساعة ، وبإحاطة علمه - تعالى - بكل شئ ، وإرشاد للمؤمنين إلى ما يقولونه إذا ما سئلوا عن ذلك .
والأكمام : جمع كم - بكسر الكاف - وهو الوعاء الذى تكون الثمرة بداخله .
أى : إلى الله - تعالى - وحده مرجع علم قيام الساعة ، وما تخرج ثمرات من أوعيتها الكائنة بداخلها ، وما تحمل من أنثى حملا ولا تضعه إلا بعلمه وإرادته - عز وجل - و " من " فى قوله { مِن ثَمَرَاتٍ } وفى قوله { مِنْ أنثى } مزيد لتأكيد الاستغراق . وفى قوله { مِّنْ أَكْمَامِهَا } ابتدائية .
قال الجمل : " فإن قلت : قد يقول الرجل الصالح قولا فيصيب فيه ، وكذلك الكهان والمنجمون .
قلت : أما قول الرجل الصالح فهو من إلهام الله ، فكان من عمله - تعالى - الذى يرد إليه ، وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم فى شئ ما يقولونه ألبتة ، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد لا يصيب . وعلم الله - تعالى - هو العلم اليقين المقطوع به الذى لا يشركه فيه أحد .
ثم بين - سبحانه - تبرُّأ المشركين من آلهتهم يوم القيامة فقالك { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ . وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } .
والظرف " يوم " منصوب بفعل مقدر ، ومعنى " آذناك " أعلمناك وأخبرناك ، آذان فلان غيره يؤذنه ، إذا أعلمه بما يريد إعلامه به .
والنداء والسؤال إنما لتوبيخهم والتهكم بهم فى هذا الموقف العظيم .
أى : واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ يوم ينادى الله - تعالى - المشركين فيقول لهم يوم القيامة : أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى ليقربوكم إلى أو ليشفعوا لكم عندى ؟
{ قالوا } على سبيل التحسر والتذلل : يا ربنا لقد { آذَنَّاكَ } أى : لقد أعلمناك بأنه مامنا أحد يشهد بأن لك شريكا ، فقد انكشفت عنا الحجب ، واعترفنا بأنك أنت الواحد القهار .
وبمناسبة الإشارة إلى الأجل المسمى ، وتقرير عدل الله فيه ، يقرر أن أمر الساعة وعلمها إلى الله وحده ، ويصور علم الله في بعض مجالاته صورة موحية تمس أعماق القلوب . وذلك في الطريق إلى عرض مشهد من مشاهد القيامة يسأل فيه المشركون ويجيبون :
( إليه يرد علم الساعة ، وما تخرج من ثمرات من أكمامها ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . ويوم يناديهم : أين شركائي ? قالوا : آذناك ما منا من شهيد . وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ، وظنوا ما لهم من محيص ) . .
والساعة غيب غائر في ضمير المجهول . والثمرات في أكمامها سر غير منظور ، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور . وكلها في علم الله ، وعلم الله بها محيط . ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها ، والأجنة في أرحامها . يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى ؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال ! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود .
ويتصور القطيع الضال من البشر ، واقفاً أمام هذا العلم الذي لا يند عنه خاف ولا مستور :
( ويوم يناديهم : أين شركائي ? ) . .
هنا في هذا اليوم الذي لا يجدي فيه جدال ، ولا تحريف للكلم ولا محال . فماذا هم قائلون ?
ثم قال : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } أي : لا يعلم ذلك أحد سواه ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد البشر لجبريل وهو من سادات الملائكة - حين سأله عن الساعة ، فقال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ، وكما{[25751]} قال تعالى : { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } [ النازعات : 44 ] ، وقال { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [ الأعراف : 187 ] .
وقوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } أي : الجميع بعلمه ، لا يعزب عن علمه{[25752]} مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . وقد قال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } [ الأنعام : 59 ] ، وقال جلت عظمته : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] ، وقال { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [ فاطر : 11 ] .
وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي } أي : يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق : أين شركائي الذين عبدتموهم معي ؟ { قَالُوا آذَنَّاكَ } أي : أعلمناك ، { مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ } أي : ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا .
المعنى : أن وقت علم الساعة ومجيئها يرده كل مؤمن متكلم فيه إلى الله عز وجل . وذكر تعالى الثمار وخروجها من الأكمام وحمل الإناث مثالاً لجميع الأشياء ، إذ كل شيء خفي فهو في حكم هذين .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش : «من ثمرة » بالإفراد على أنه اسم جنس . وقرأ نافع وابن عامر : «ثمرات » بالجمع ، واختلف عن عاصم وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج والحسن بخلاف ، وفي مصحف عبد الله : «في ثمرة من أكمامها » . والأكمام : جمع كم{[10092]} ، وهو غلاف التمر قبل ظهوره .
وقوله تعالى : { ويوم يناديهم } تقديره : واذكر يوم يناديهم والضمير في : { يناديهم } ظاهره والأسبق فيه أنه يريد به الكفار عبدة الأوثان . ويحتمل أن يريد به كل من عبد من دون الله من إنسان وغيره ، وفي هذا ضعف ، وإنما الضمير في قوله : { وضل عنهم } فلا احتمال لعودته إلا على الكفار . و : { آنذاك } قال ابن عباس وغيره معناه : أعلمناك { ما منا من شهيد } ولا من يشهد بأن لك شريكاً .
كانوا إذا أُنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها ، وكان ذلك مما يتكرّر منهم ، قال تعالى : { يسألونك عن السّاعة أيّان مُرساها } [ الأعراف : 187 ] فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيداً للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر ، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ ، فهو قصر قلب . وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم ، أي الأجدر أن تعلموا أنْ لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين : متى الساعة ؟ فقال له : { ماذا أعددت لها } أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها .
والرّد : الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به ، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم فردّه إلى الله . وفي حديث موسى مع الخضر في « الصحيح » « فعاتب الله موسى أن لم يَرُدّ العِلم إليه » وقال تعالى : { ولو رَدّوه إلى الرّسول } [ النساء : 83 ] الآية . وعطف جملة { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائرِ لا يعلمها النّاس ، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلاّ الله ، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجةٌ على تكذيب من أنذَر بها ، لأنّهم قالوا : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يس : 48 ] ، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق . فهذا وجه ذكر تلك النظائر ، وهي ثلاثة أشياء :
أوّلها : علم ما تُخرجه أكمام النخيل من الثَمَر بقدره وجودتِه وثباته أو سقوطه ، وضمير { أكمامها } راجع إلى الثمرات . والأكمام : جمع كِمّ بكسر الكاف وتشديد الميم وهو وعاء الثّمر وهو الجُفّ الذي يخرج من النّخلة محتوياً على طلْع الثّمر .
ثانيها : حمل الأنثى من النّاس والحيوان ، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلاّ الله .
ثالثها : وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله .
وعُدل عن إعادة حرف { ما } مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواءً بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين { ما } و ( لا ) في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف { ما } وتخليصه للاستقبال مع حرف ( لا ) . ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك . وحرف { من } بعد مدخولي { ما } في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفاً زائِداً .
والباء في { بعلمه } للملابسة . وتقدم نظيره في سورة فاطر .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم { ثمرات } بالجمع . وقرأه الباقون { ثمرةٍ } واحدةِ الثمرات .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِى قالوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } .
عطف على الجملة قبلها فإنّه لما تضمن قوله : { إليه يرد علم الساعة } إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها ، وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دَوْماً عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضياً إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلْقونه في يومها .
و { يوم } متعلّق بمحذوف شائععٍ حذفه في القرآن ، تقديره : واذكر يوم يناديهم .
والضّمير في ( ينادي ) عائد إلى { ربّك في قوله وما ربّك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] ، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله : { ينادونهم ألم نكن معكم } [ الحديد : 14 ] . وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى : { ربّنا إننا سمِعنا منادياً ينادي للإيمان } في آل عمران ( 193 ) ، وقوله : { ونُودوا أن تلكُم الجنّة أورثتموها } في سورة الأعراف ( 43 ) .
وجملة { أين شركائي } يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } [ القصص : 74 ] { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65 ] . وحذف القول ليس بعزيز .
ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه { يناديهم } من معنى الكلام المعْلن به . وجاءت جملة { قالوا آذناك } غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة } إلى قوله : { ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] .
و { آذناك } أخبرناك وأعلمناك . وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى : { فقل آذنتكم على سواء } [ الأنبياء : 109 ] ، وقال الحارث بن حلزة :
وصيغة الماضي في { آذناك } إنشاء فهو بمعنى الحال مثل : بعْتُ وطلقت ، أي نأذنك ونُقر بأنّه ما منّا من شهيد .
والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد ، أي المبصر ، أي ما أحد منا يَرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن ، أي لا نرى واحداً من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة { وضلّ عنهم ما كانوا يدعون } في موضع الحال ، والواو واو الحال . ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد ، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك ، فيكون ذلك اعترافاً بكذبهم فيما مضى ، وتكون جملة { وضل عنهم } معطوفة على جملة { قالوا آذناك } ، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحداً من أصنامهم . وفعل { آذناك } معلّق عن العمل لورود النفي بعده .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إلى الله يردّ العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم ما قيامها غيره. "وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أكمَامِها "يقول: وما تظهر من ثمرة شجرة من أكمامها التي هي متغيبة فيها، فتخرج منها بارزة.
"وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى" يقول: وما تحمل من أنثى من حمل حين تحمله، ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله، لا يخفى عليه شيء من ذلك...
وقوله: "وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أيْنَ شُرَكائي" يقول تعالى ذكره: ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين به في الدنيا الأوثان والأصنام: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتكم إياي؟ "قالُوا آذَنّاكَ" يقول: أعلمناك "ما مِنّا مِنْ شَهِيد" يقول: قال هؤلاء المشركون لربهم يومئذٍ: ما منا من شهيد يشهد أن لك شريكاً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... ومن آيات ألوهيته ووحدانيته وآيات قدرته وعلمه وتدبيره أن تخرج الثمرات من أكمامها، ومن آياته أن تحمل الأنثى، وتضع.
إن الله تعالى أنشأ تلك الثمرات في الأكمام وكذا الولد في البطن في حُجُب وسواتر ورباه في تلك الحُجب والسواتر، وغذّاه بأغذية، ودفع عنه جميع الأذى من البرد والحر وجميع ما يؤذيه لضعفه ولطافته لطفا منه ورحمة، وصوّره في تلك الحُجب والسواتر بأحسن صورة لتُعلَم ألوهيته ووحدانيته، وأن له علما ذاتيا وقدرة ذاتية أزلية لا مكتسبا مستفادا؛ إذ العلم المستفاد والقدرة المستفادة لا تبلغ ذلك.
{من أكمامها} أي المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء كُمُّه، وإنما قيل: كُمُّ القميص منه. وقال أبو عوسجة: أكمامهما أغطيتها التي تكون فيها قبل أن تشقّق عنها، والتفتُّق: التشقُّق.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي} يذكر لهم، ويخبر عما يسألون يوم القيامة وما يكون من جوابهم لذلك السؤال لعلهم يمتنعون عن ذلك، ويحذرونه.
{آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} الأشبه أن يكون معنى {آذنّاك} أخبرناك؛ إذ الله تعالى كان عالما بذلك؛ وإعلام العالم لا يتحقق، أما الإخبار للعالم عن الشيء فيتحقق بما علم به.
ثم اختلف في ذلك: أنه قول مما قال بعضهم: قوله: {قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} هذا من قول الأصنام والذين عبدوهم من دون الله في الدنيا؛ يقولون: {ما منا من شهيد} على عبادة أولئك إيانا ولا أمرناهم بذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَيْنَ شُرَكَآءِي} أضافهم إليه تعالى على زعمهم، وبيانه في قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِي الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] وفيه تهكم وتقريع.
اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في الآية المتقدمة بقوله {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة، وكأن سائلا قال ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: {إليه يرد علم الساعة} وهذه الكلمة تفيد الحصر؛ أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة، ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى. ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين (أحدهما) قوله {وما تخرج من ثمرات من أكمامها} (والثاني) قوله {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
السؤال عن علم الوقت الذي تقوم فيه الساعة الذي كان سبباً لنزول هذه الآية -كما ذكره ابن الجوزي- بقوله على سبيل التعليل: {إليه} أي إلى المحسن إليك لا إلى غيره.
{علم الساعة} أي التي لا ساعة في الحقيقة غيرها، لما لها من الأمور التي لا نسبة لغيرها بها، فهي الحاضرة لذلك في جميع الأذهان، وإنما يكون الجزاء على الإساءة والإحسان فيها حتى يظهر لكل أحد ظهوراً بينا لكل أحد أنه لا ظلم أصلاً، فلا يمكن أن يسأل أحد سواه عنها ويخبر عنها بما يغنى في تعيين وقتها وكيفيتها وصنعتها، وكلما انتقل السائل من مسؤول إلى أعلم منه، وجده كالذي قبله حتى يصل الأمر إلى الله تعالى، والعالم منهم هو الذي يقول: الله أعلم، فاستئثاره بعلمها دال على تناهي علمه، وحجبه له عن كل من دونه دال على تمام قدرته، واجتماع الأمرين مستلزم لبعده عن الظلم، وأنه لا يصح اتصافه به، فلا بد من إقامته لها ليوفي كل ذي حق حقه، ويأخذ لكل مظلوم ظلامته غير متعتع.
ولما كانوا ينازعون في وقوعها فضلاً عن العلم بها، عدها أمراً محققاً مفروغاً منه وذكر ما يدل على شمول علمه لكل حادث في وقته، دليلاً على علمه بما يعين وقت الساعة، وذلك على وجه يدل على قدرته عليها وعلى كل مقدور بما لا نزاع لهم فيه من ثمرات النبات والحيوان التي هي خبء في ذوات ما هي خارجة منه، فهي كخروج الناس بعد موتهم من خبء الأرض، فقال مقدماً للرزق على الخلق كما هو الأليق، عطفاً على ما تقديره: فما يعلمها ولا يعلمها إلا هو... وعبر ب "لا "لأن الوضع ليس كالحمل يقع في لحظة بل يطول زمان انتظاره فقال: {ولا تضع} حملاً حياً أو ميتاً.
{إلا} حال كونه ملتبساً {بعلمه} ولا علم لأحد غيره بذلك
{آذنّاك} أي أعلمناك سابقاً بألسنة أحوالنا والآن بألسنة مقالنا، وفي كلتا الحالتين أنت سامع لذلك؛ لأنك سامع لكل ما يمكن أن يسمع وإن لم يسمعه غيرك، ولذا عبروا بما منه الإذن {ما منا} وأكدوا النفي بإدخال الحار في المبتدأ المؤخر فقالوا: {من شهيد} أي حي دائماً حاضر دون غيبة، مطلع على ما يريد من غير خفاء بحيث لا يغيب عن علمه شيء فيخبر بما يخبر به على سبيل القطع والشهادة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الساعة غيب غائر في ضمير المجهول. والثمرات في أكمامها سر غير منظور، والحمل في الأرحام غيب كذلك مستور. وكلها في علم الله، وعلم الله بها محيط. ويذهب القلب يتتبع الثمرات في أكمامها، والأجنة في أرحامها. يذهب في جنبات الأرض كلها يرقب الأكمام التي لا تحصى؛ ويتصور الأجنة التي لا يحصرها خيال! وترتسم في الضمير صورة لعلم الله بقدر ما يطيق الضمير البشري أن يتصور من الحقيقة التي ليس لها حدود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كانوا إذا أُنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها، وكان ذلك مما يتكرّر منهم، قال تعالى {يسألونك عن السّاعة أيّان مُرساها} [الأعراف: 187] فلمّا جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء، انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيداً للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلّقه لإفادة الحصر، أي إلى الله يفوض علم السّاعة لا إليّ، فهو قصر قلب. وردّ عليهم بطريق الأسلوب الحكيم، أي الأجدر أن تعلموا أنْ لا يعلم أحد متى السّاعة وأن تؤمنوا بها وتستعدّوا لها، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين: متى الساعة؟ فقال له: {ماذا أعددت لها} أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها.
والرّد: الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به، فكأنّه جيء بالسؤال إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم فردّه إلى الله. وفي حديث موسى مع الخضر في « الصحيح» « فعاتب الله موسى أن لم يَرُدّ العِلم إليه» وقال تعالى: {ولو رَدّوه إلى الرّسول} [النساء: 83] الآية. وعطف جملة {وما تخرج من ثمرات من أكمامها} وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت السّاعة إلى الله بذكر نظائرِ لا يعلمها النّاس، وليس علم السّاعة بأقرب منها فإنّها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلاّ الله، أي فليس في عدم العلم بوقت السّاعة حجةٌ على تكذيب من أنذَر بها، لأنّهم قالوا: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48]، أي إن لم تبيّن لنا وقته فلست بصادق. فهذا وجه ذكر تلك النظائر، وهي ثلاثة أشياء:
أوّلها: علم ما تُخرجه أكمام النخيل من الثَمَر بقدره وجودتِه وثباته أو سقوطه، وضمير {أكمامها} راجع إلى الثمرات. والأكمام: جمع كِمّ بكسر الكاف وتشديد الميم وهو وعاء الثّمر وهو الجُفّ الذي يخرج من النّخلة محتوياً على طلْع الثّمر.
ثانيها: حمل الأنثى من النّاس والحيوان، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلاّ الله.
ثالثها: وقت وضع الأجنّة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والسّاعة إلا الله.
وعُدل عن إعادة حرف {ما} مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرّات لأنّ تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى وفي كون أزمان حصولها سواءً بالنسبة للحال وللاستقبال يسدّ علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين {ما} و (لا) في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف {ما} وتخليصه للاستقبال مع حرف (لا)، ويؤيّد ردّ ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك. وحرف {من} بعد مدخولي {ما} في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمّى حرفاً زائِداً.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قالوا ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} عطف على الجملة قبلها؛ فإنّه لما تضمن قوله: {إليه يرد علم الساعة} إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدلّ على انتفاء حصولها وأتبع ذلك بنظائر لوقت السّاعة مما هو جار في الدّنيا دَوْماً؛ عاد الكلام إلى شأن السّاعة على وجه الإنذار مقتضياً إثبات وقوع السّاعة بذكر بعض ما يلْقونه في يومها.
و {يوم} متعلّق بمحذوف شائعٍ حذفه في القرآن، تقديره: واذكر يوم يناديهم.
والضّمير في (ينادي) عائد إلى {ربّك في قوله وما ربّك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]، والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله: {ينادونهم ألم نكن معكم} [الحديد: 14].
وجملة {أين شركائي} يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرّح به في آية أخرى {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74] وحذف القول ليس بعزيز.
ويصحّ أن تكون مبيّنة لما تضمنه {يناديهم} من معنى الكلام المعْلن به. وجاءت جملة {قالوا آذناك} غير معطوفة لأنّها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدّم عند قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة} إلى قوله: {ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
و {آذناك} وأصل هذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109].
وصيغة الماضي في {آذناك} إنشاء فهو بمعنى الحال مثل: بعْتُ وطلقت، أي نأذنك ونُقر بأنّه ما منّا من شهيد.
والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد أي المبصر، أي ما أحد منا يَرى الذين كنّا ندعوهم شركاءك الآن، أي لا نرى واحداً من الأصنام التي كنّا نعبدها فتكون جملة {وضلّ عنهم ما كانوا يدعون} في موضع الحال، والواو واو الحال. ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد، أي ما منّا أحد يشهد أنّهم شركاؤك، فيكون ذلك اعترافاً بكذبهم فيما مضى، وتكون جملة {وضل عنهم} معطوفة على جملة {قالوا آذناك}، أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحداً من أصنامهم.