معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

قوله تعالى : { الذين يستحبون } يختارون ، { الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } ، أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله ، { ويبغونها عوجاً } أي : يطلبونها زيغا وميلا ، يريد : يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد . وقيل : الهاء راجعة إلى الدنيا ، معناه : يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : لجهة الحرام . { أولئك في ضلال بعيد }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

ثم وصف - سبحانه - هؤلاء الكافرين بجملة من الصفات الذميمة ، التى أردتهم وأهلكتهم فقال - تعالى - : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً . . . }

ويستحبون : بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد ، أى : يختارون ويؤثرون ولذا عداه بعلى . أى : يختارون شهوت الحياة الدنيا ، ويؤثرون لذائذها ومتعها على الدار الآخرة وما فيها من نعيم وخيرات . .

" ويصدون " من الصد ، وهو صرف الغير عن الشئ ومنعه منه يقال : صد فلان فلانا عن فعل الشئ ، إذا منعه من فعله .

وسبيل الله : طريقه الموصلة إليه وهو ملة الإِسلام .

ويبغون من البغاء - بضم الباء - بمعنى الطلب . يقال : بغيت لفلان كذا ، إذا طلبته له ، وبغيت الشئ أبغيه بغاء وبغى وبغية إذا طلبته .

والعوج - بكسر العين وفتحها - مصدر عوج - كتعب . إلا أن بعضهم يرى أن مكسور العين يكون فيما ليس بمرئى كالآراء والأقوال والعقائد ، وأن مفتوحها يكون فى المرئيات كالأجساد والمحسوسات .

أى : أن هؤلاء الكافرين يؤثرون شهوات الدنيا على الآخرة ونعيمها ، ولا يكتفون بذلك بل يضعون العراقيل فى طريق دعوة الحق حتى يبتعد الناس عنها ، ويطلبون لها العوج والميل تبعا لزيغ نفوسهم ، مع أنها أقوم طريق ، وأعدل سبيل ، والضمير المنصوب فى قوله " يبغونها " يعود إلى سبيل الله ، أى يبغون لها العوج ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، كما فى قوله { وَإِذَا كَالُوهُمْ . . . } أى : كالوا لهم .

وبعضهم جعل الضمير المنصوب فى " يبغونها " وهو الهاء هو المفعول ، وجعل " عوجا " حال من سبيل الله أى : ويريدونها أن تكون فى حال اعوجاج واضطراب .

وقوله : { أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } بيان الحكم العادل الذى أصدره - سبحانه - عليهم .

أى : أولئك الموصوفون بما ذكر فى ضلال بعيد عن الحق .

والإِشارة بأولئك الدالة على البعد ، للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به بسبب تلبسهم بأقبح الخصال ، وأبشع الرذائل .

وعبر بفى الظرفية للدلالة على تمكن الضلال منهم ، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف .

قال الآلوسى : وفى الآية من المبالغة فى ضلالهم منهم ، وأنه محيط بهم كما يحيط الظرف بالمظروف .

قال الآلوسى : وفى الآية من المبالغة فى ضلالهم ما لا يخفى ، حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازا كجد جده . . .

ويجوز أن يقال : إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به ، بناء على أن البعد فى الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده ، وسبب بعده ضلاله ، لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه ، فيكون كقولك : قتل فلانا عصيانه ، والإِسناد مجازى وفيه المبالغة المذكورة أيضا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

ثم يكشف عن صفة تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم :

( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ) . . ( ويصدون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجا ، أولئك في ضلال بعيد ) . .

فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ؛ ويتعارض مع الاستقامة على الصراط . وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة ، لأنه عندئذ تصلح الدنيا ، ويصبح المتاع بها معتدلا ، ويراعى فيه وجه الله . فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة .

إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة ، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا - كما يقوم في الأخيلة المنحرفة . فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا . والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض . وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها . إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظارا للآخرة ، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله ، وتمهيدا للآخرة . . هذا هو الإسلام .

فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض ، ومن الكسب الحرام ، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم . . لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله ، وفي ظل الاستقامة على هداه . ومن ثم يصدون عن سبيل الله . يصدون أنفسهم ويصدون الناس ، ويبغونها عوجا لا استقامة فيها ولا عدالة . وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله ، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها ، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن يغشوا وأن يخدعوا وأن يغروا الناس بالفساد ، فيتم لهم الحصول على ما يبغونه من الاستئثار بخيرات الأرض ، والكسب الحرام ، والمتاع المرذول ، والكبرياء في الأرض ، وتعبيد الناس بلا مقاومة ولا استنكار .

إن منهج الإيمان ضمانة للحياة وضمانة للأحياء من أثرة الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، واستئثارهم بخيرات هذه الحياة .

/خ27

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي : يقدمونها ويُؤثرونها عليها ، ويعملون للدنيا ونَسُوا الآخرة ، وتركوها وراء ظهورهم ، { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهي اتباع الرسل { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : ويحبون أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة عائلة{[15737]} وهي مستقيمة في نفسها ، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها ، فهم{[15738]} في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق ، لا يرجى لهم - والحالة هذه - صلاح .


[15737]:- عائلة : أي جائزة.
[15738]:- في ت : "ففهم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

و { الذين } بدل من الكافرين{[6998]} وقوله : { يستحبون } من صفة الكافرين الذين توعدهم قبل ، والمعنى : يؤثرون دنياهم وكفرهم وترك الإذعان للشرع على رحمة الله وسكنى جنته ، وقوله { يصدون } يحتمل أن يتعدى وأن يقف ، والمعنى على كلا الوجهين مستقل ، تقول : صد زيد غيره ، ومن تعديته قول الشاعر : [ الوافر ]

صددتِ الكأس عنا أمَّ عمرو . . . وكان الكأس مجراها اليمينا{[6999]}

و { سبيل الله } طريقة هداه وشرعه الذي جاء به رسوله . وقوله : { ويبغونها عوجاً } يحتمل ثلاثة أوجه من التأويل : أظهرها أن يريد : ويطلبونها في حالة عوج منهم . ولا يراعى إن كانوا بزعمهم على طريق نظر وبسبيل اجتهاد واتباع الأحسن ، فقد وصف الله تعالى حالهم تلك بالعوج ، وكأنه قال : ويصدون عن سبيل الله التي هي بالحقيقة سبيله ، ويطلبونها على عوج في النظر .

والتأويل الثاني أن يكون المعنى : ويطلبون لها عوجاً يظهر فيها ، أي يسعون على الشريعة بأقوالهم وأفعالهم . ف { عوجاً } مفعول .

والتأويل الثالث : أن تكون اللفظة من المعنى ، على معنى : ويبغون عليها أو فيها عوجاً ، ثم حذف الجار ، وفي هذا بعض القلق .

وقال كثير من أهل اللغة : العِوج - بكسر العين - في الأمور وفي الدين ، وبالجملة في المعاني ، والعَوج - بفتح العين - في الأجرام .

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا القانون بقوله تعالى : { فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً }{[7000]} [ طه : 107 ] وقد تتداخل اللفظة مع الأخرى ، ووصف «الضلال » بالبعد عبارة عن تعمقهم فيه . وصعوبة خروجهم منه .


[6998]:ويجوز في إعراب [الذين] أن يكون مبتدأ خبره {أولئك في ضلال بعيد}، و يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، و يجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر تقديره: أذم. أما إعرابه بدلا من (الكافرين) الذي ذكره ابن عطية فهو إعراب الحوفي، واختباره الزمخشري وأبو البقاء، ولكن أبا حيان الأندلسي اعترض عليه في "البحر المحيط، بأنه لا يجوز، وعلل ذلك بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله تعالى: {من عذاب شديد} سواء أكان {من عذاب شديد} في موضع الصفة لـ [ويل] أم متعلقا بفعل محذوف تقديره: يضجون أو يولولون من عذا ب شديد.
[6999]:البيت لعمرو بن كلثوم، وهو الخامس من معلقته المشهورة: "ألا هبي بصحنك فاصبحينا" ، و قد سقط مع ثلاثة أبيات أخرى بعده من شرح الأنباري للقصائد السبع الطوال "مجموعة ذخائر العرب" تحقيق عبد السلام هارون، ويروى: " صبنت" بدلا من "صددت"، يقول لها: لقد صرفت الكأس عنا، وكان مجراها اليمينا فأجريتها على اليسار، أي: تعمدت صرفها عنا، هذا وقد سبق الاستشهاد به.
[7000]:الآيتان (106، 107) من سورة (طه).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

{ يستحبون } بمعنى يحبون ، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر . وضمن { يستحبون } معنى يؤثرون ، لأن المحبة تعدّت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم ، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء ، فنشأ من هذا معنى الإيثار ، فضُمّنه فعُدّي إلى مفعول آخر بواسطة حرف { على } في قوله : { على الآخرة } أي يؤثرونها عليها .

وقوله : { ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } تقدم نظيره في قوله : { أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } في سورة الأعراف ( 45 ) ، وعند قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لِم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء } في سورة آل عمران ( 99 ) ، فانظره هنالك .

والصدّ عن سبيل الله : منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه . شبه ذلك بمن يمنع المارّ من سلوك الطريق . وجعل الطريق طريقَ الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه ، أو يصدّون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن ، فكأنهم صدّوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العَوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } [ سورة الأنعام : 153 ] .

والإشارة في قوله : { أولئك في ضلال بعيد } [ سورة إبراهيم : 3 ] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدّهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل ، { فأولئك } في محل مبتدأ و { في ضلال بعيد } خبر عنه . ودلّ حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه .

ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي ، وإنما البعيد هم الضالّون ، أي ضلالاً بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه .

ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها ، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه . ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله : { ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد } [ سورة الشورى : 18 ] وقوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سورة سبأ : 8 ] . وتقدم في قوله : { ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } في سورة النساء ( 116 ) .