قوله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله } ولم يخف في الدين غير الله ، ولم يترك أمر الله لخشية غيره .
قوله تعالى : { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } ، وعسى من الله واجب ، أي : فأولئك هم المهتدون ، والمهتدون هم المتمسكون بطاعة الله عز وجل التي تؤدي إلى الجنة .
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي ، ثنا محمد بن الحسين الحيري ، ثنا محمد بن يعقوب ، ثنا أحمد بن الفرج الحجازي ، ثنا بقية ، ثنا أبو الحجاج المهدي ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله قال : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا محمد بن مطرف ، عن يزيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، ثنا حميد بن زنجويه ، ثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، حدثني أبي عن محمود بن لبيد ، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك ، وأحبوا أن يدعه ، فقال عثمان : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من بنى لله مسجدا بنى الله له كهيئته في الجنة " .
وأخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، ثنا علي بن الحسين الداربجردى ، ثنا أبو عاصم بهذا الإسناد ، وقال : بنى الله له بينا في الجنة " .
ثم بين . سبحانه . أن المؤمنين الصادقين هم الجديرون بعمارة مساجد الله ، فقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } .
أى : ليس المشركون أهلا لعمارة مساجد الله ؛ وإنما الذين هم أهل لذلك المؤمنون الصادقون الذين آمنوا بالله إيماناً حقاً ، وآمنوا باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وآمنوا بما فرضه الله عليهم من فرائض فأدوها بالكيفية التي أرشدهم إليها نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فهم في صلاتهم خاشعون ؛ وللزكاة معطون بسخاء وإخلاص .
وهم بجانب ذلك لا يخشون أحداً إلا الله في تبليغ ما كلفوا بتبليغه من أمور الدين ؛ ولا يقصرون في العمل بموجب أوامر الله ونواهيه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا ذكر الإِيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : لما عُلِم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإِيمان بالرسول . عليه الصلاة والسلام . لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإِقامة وغيرها عليهما مقترنين كأنهما شئ واحد . . انطوى تحت ذكر الإِيمان بالله . تعالى . الإِيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن قلت : كيف قال : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } والمؤمن يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها .
قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف : وإذا اعترض أمران : أحدهما حق الله والآخر حق نفسه ، آثر حق الله على حق نفسه .
وقوله - تعالى - { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تذييل قصد به حسن عاقبة المؤمنين الصادقين .
أى : فسعى أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة من الإِيمان بالله واليوم الآخر . . أن يكونوا من المهتدين إلى الجنة وما أعد فيها من خير عميم ، ورزق كبير .
إن العبادة تعبير عن العقيدة ؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة ؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح ، وبالعمل الواقع الصريح ، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء :
( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ) . .
والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر ، لا يجيء نافلة . فلا بد من التجرد لله ؛ ولابد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك ؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصدا في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله . وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله ، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله :
( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) .
فإنما يتوجه القلب وتعمل الجوارح ، ثم يكافئ الله على التوجه والعمل بالهداية والوصول والنجاح .
فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا سريج{[13290]} حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد{[13291]} فاشهدوا له بالإيمان ؛
قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
ورواه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب ، به{[13292]}
وقال{[13293]} عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت البناني ، عن ميمون بن سياه ، وجعفر بن زيد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما عمار المساجد هم أهل الله " {[13294]} ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الواحد بن غياث ، عن صالح بن بشير المري ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما{[13295]} عمار المساجد هم أهل الله " ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح{[13296]}
وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن أبيها ، عن أخيه مالك بن دينار ، عن أنس مرفوعا : " إذا أراد الله بقوم عاهة ، نظر إلى أهل المساجد ، فصرف عنهم " . ثم قال : غريب{[13297]}
وروى الحافظ البهاء في المستقصى ، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي : حدثنا منصور بن صقير ، حدثنا صالح المرى ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا : " يقول الله : وعزتي وجلالي ، إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت ذلك عنهم " . ثم قال ابن عساكر : حديث غريب{[13298]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد ، عن معاذ بن جبل ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد " {[13299]}
وقال عبد الرازق ، عن مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها{[13300]}
وقال المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي ، فلا صلاة له ، وقد عصى الله ورسوله ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية رواه ابن مردويه .
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها .
وقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي : التي هي أكبر عبادات البدن ، { وَآتَى الزَّكَاةَ } أي : التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } أي : ولم يخف إلا من الله تعالى ، ولم يخش سواه ، { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يقول : من وحد الله ، وآمن باليوم الآخر يقول : من آمن بما أنزل الله ، { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } يعني : الصلوات الخمس ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } يقول : لم يعبد إلا الله - ثم قال : { فَعَسَى أُولَئِكَ [ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ] } {[13301]} يقول : إن أولئك هم المفلحون ، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي الشفاعة ، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : و " عسى " من الله حق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله}، يعني صدق بالله، {واليوم الآخر}، يعني من صدق بتوحيد الله والبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {وأقام الصلاة} لوقتها، أتم ركوعها وسجودها، {وآتى الزكاة} يعني وأعطى زكاة ماله، {ولم يخش إلا الله}، يعني ولم يعبد إلا الله، {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} من الضلالة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إنما يعمر مساجد الله المصدّق بوحدانية الله، المخلص له العبادة واليوم الآخر، يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة، وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له. "وَلمْ يَخْشَ إلاّ اللّهَ "يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله. "فَعَسَى أُولَئِكَ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ" يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحقّ وإصابة الصواب...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
والمعنى إن من كان بهذه الصفة فهو من أهل عمارة المسجد {ولم يخش} في باب الدين {إلا الله فعسى أولئك} أي فأولئك هم المهتدون والمتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} وقرئ بالتوحيد: أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم، بل هو أجلّه وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث...
فإن قلت: هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [الصلاة و] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [الصلاة و] السلام. وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟
فإن قلت: كيف قيل: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران: أحدهما حقّ الله، والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم. {فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى. وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {إنما يعمر مساجد الله} بالحق لهم والواجب، ولفظ هذه الآية الخبر وفي ضمنها أمر المؤمنين بعمارة المساجد، وقد قال بعض السلف إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فحسنوا به الظن، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا عليه بالإيمان»..
وقوله {واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة} يتضمن الإيمان بالرسول إذ لا يتلقى ذلك إلا منه، وقوله {ولم يخش إلا الله} حذفت الألف من «يخشى» للجزم،...وهذه المرتبة العدل بين الناس، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنياوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه، و «عسى» من الله واجبة حيثما وقعت في القرآن، ولم يرج الله بالاهتداء إلا من حصل في هذه المرتبة العظيمة من العدالة، ففي هذا حض بليغ على التقوى.
ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفا بصفات أربعة:
الصفة الأولى: قوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، فما لم يكن مؤمنا بالله، امتنع أن يبني موضعا يعبد الله فيه، وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى.
فإن قيل: لم لم يذكر الإيمان برسول الله؟
قلنا فيه وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون: إن محمدا إنما ادعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك، فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيها للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر. الثاني: أنه لما ذكر الصلاة، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافيا. الثالث: أنه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذكر الصلاة دليلا على النبوة من هذا الوجه.
الصفة الثانية: قوله: {وأقام الصلاة} والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لم يكن مقرا بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد.
الصفة الثالثة: قوله: {وآتى الزكاة}.
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به. وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضا لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤديا للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد.
والصفة الرابعة: قوله: {ولم يخش إلا الله} وفيه وجوه:
الأول: أن أبا بكر رضي الله عنه بنى في أول الإسلام على باب داره مسجدا وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة، يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلانا يبني مسجدا، ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله...
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وفيه وجوه:
الأول: قال المفسرون: {عسى} من الله واجب لكونه متعاليا عن الشك والتردد. الثاني: قال أبو مسلم: {عسى} ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى: {يدعون ربهم خوفا وطمعا} والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب، لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
.. بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل لا بمجرد الشأن والاستحقاق، وهو الذي يقتضيه مقام الإيجاب، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق الذي بينه في كتابه من توحيده وتنزيهه واختصاصه بالعبادة والاستعانة والتوكل، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد ويجزي كل نفس ما كسبت، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها وتدبر تلاوتها وأذكارها التي تكسب مقيمها مراقبة الله تعالى وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال -من نقد وزرع وتجارة لمستحقيها من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم ممن يأتي ذكرهم في هذه السورة- وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه، فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإن هذا لا ينافي خشية الله، ولا يقتضي خشية الطاغوت. والدليل عليها طاعة الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه، رضي الناس أم سخطوا.
{فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} أي فأولئك الجامعون لهذه الخمس من أركان الإيمان والإسلام التي يلزمها سائر أركانها هم الذين يرجون بحق- أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم- أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى، واستحقاق الجزاء عليها بالجنة خالدين فيها، دون غيرهم من المشركين الجامعين لأضدادها -من الإيمان بالطاغوت والشرك بالله والكفر بما جاء به رسوله- الذين دنسوا مسجده الحرام بالأصنام، والاستقسام بالأزلام، وصدوا المسلمين عن الحج والاعتمار والصلاة فيه، ولم تكن صلاة هؤلاء المشركين عنده إلا مكاء وتصدية كعبث الأطفال، وكانوا ينفقون أموالهم للصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإسلام، وتقدم في هذا المعنى من سورة الأنفال، فشرور هؤلاء وضلالهم وطغيانهم التي هي لوازم الشرك تحبط كل عمل حسن عملوه كما تقدم.
... وكذلك من يطيع الله تعالى بفعل المستطاع مما أمر به وترك ما نهى عنه، فإنه حقيق بأن يرجو بذلك تزكية نفسه ورفعها إلى مقام المتقين أولياء الله تعالى، وما يترتب على ذلك من مثوبته ورضوانه في دار كرامته، ولكنه لا يمكن أن يجزم بذلك لما يخشى على نفسه من التقصير وشوائب الرياء والسمعة، أو عدم الثبات على الطاعة حتى يموت عليها، وغير ذلك مما يحبط الأعمال أو يمنع من قبولها، والخير للمؤمن أن يكون بين الخوف الذي يصده عن التقصير، والرجاء الذي يبعثه على التشمير، وأن يرجح الخوف في حال الصحة والرجاء في حال المرض، ولا سيما مرض الموت. ومن أراد نعيم الآخرة ولم يسع لها سعيها الذي جعله الله سببا لها فهو من الحمقى أصحاب الأماني، لا من أصحاب الرجاء، فهو كمن أحب أن تنبت له أرضه غلة حسنة كثيرة ولم يزرعها الخ. فسنة الله في الدنيا والآخرة واحدة كما قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى.
ومن قال: إن عسى هنا وعد من الله تعالى، قالوا: إنها منه تعالى للإيجاب والقطع، وهو منزه عن التوقع والظن وعن الإطماع في الشيء وإخلافه بعد تقريبه. ورووا هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنه في الآيات الصريحة في وعد الله تعالى وخبره. كقوله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} [المائدة:52] وقوله: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} [الممتحنة:7]، فكل من هذين وعد قطعي عنده تعالى، فعلى هذا تكون نكتة التعبير عنه بعسى إبهامه، وعدم إعلام المخاطبين بالوقت الذي يقع فيه، ومن أمعن النظر رأى أن هذا قد يرجع إلى ما فسرنا به عسى هنا، وهو أن كلا من الإتيان بالفتح أو أمر آخر يترتب عليه ندم المشركين، ومن وقوع المودة بين المؤمنين ومن عادوهم من المشركين قريب الوقوع، فهو مرجو ومتوقع في نفسه بوقوع أسبابه ومقدماته، فينبغي أن يعدوا له عدته ويحسبوا له حسابا في معاملتهم، وفي معنى هذا ما اختاره شيخنا من أن معنى لعل في كلام الله تعالى الإعداد لمتعلقها، وتقدم تفصيله (راجع ج1 تفسير).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن العبادة تعبير عن العقيدة؛ فإذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة؛ وأداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد الإيماني الصحيح، وبالعمل الواقع الصريح، وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله).. والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الإيمان الباطن والعمل الظاهر، لا يجيء نافلة. فلا بد من التجرد لله؛ ولابد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور أو السلوك؛ وخشية أحد غير الله لون من الشرك الخفي ينبه إليه النص قصدا في هذا الموضع ليتمحض الاعتقاد والعمل كله لله. وعندئذ يستحق المؤمنون أن يعمروا مساجد الله، ويستحقون أن يرجوا الهداية من الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأنّ المقصود إقصاء فِرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعيّن أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأنّ مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنّهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الإسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43، 44] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين.
واستغني عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدلّ عليه من آثار شريعته: وهو الإيمان باليوم الآخر، وإقامُ الصلاة: وإيتاء الزكاة.
وقصر خشيتهم على التعلّق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنّهم لا يخافون شيئاً غير الله فإنّهم قد يخافون الأسَد ويخافون العدوّ، ولكن معناه إذا تردّد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدّموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفاً {أتخشونهم فاللَّهُ أحق أن تخشوه} [التوبة: 13]، فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين.
وهذا من خصائص المؤمنين: فأمّا المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم، وأمّا أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كَلمِه ومجاراة أهواء العامّة، وقد ذكَّرهم الله بقوله: {فلا تخشوا الناس واخشون} [المائدة: 44].
وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خُلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها. ووجه هذا الرجاء أنّهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خُلُقا لهم فيكونوا من أهله، ولذلك قال: {أن يكونوا من المهتدين} ولم يقل أن يكونوا مهتدين.
وفي هذا حثّ على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها.
والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنّهم استحقّوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عُدّت لهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وبعمارة المؤمنين لها يعود الحق إلى نصابه، فمن أراد المساهمة في عمارة بيوت الله، عليه قبل كل شيء أن يخلع الشرك ويؤمن بالله، ومن أراد الوقوف فيها بين يدي الله، فلا يأت إليها عريانا على عادة الجاهلية، وليتزين بزينة الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} فهذا هو النموذج الإنساني الذي يحقق للمساجد رسالتها، ويعطيها معناها، ويحركها في الاتجاه الروحي الذي يجعل أبواباً مفتوحة على الحياة المتحركة من خلال الله وباسمه، لينطلق الإنسان على أساس ذلك، عاملاً في أرض الله في الأجواء الروحيّة التي يختزنها في أعماقه من روحيّة الإيمان في المسجد. فقصة المسجد، ليست في هذه الأحجار الجامدة التي تمثل سقفه وحيطانه، وليست في هذه الأشكال المزخرفة التي توحي بعظمة الفن وروعة الإبداع، بل هي في الإنسان الذي يعمر المسجد بالعبادة المنطلقة من الفكر الإيماني، والشعور الروحي، والممارسة الخيّرة، حيث يتحول المسجد إلى ساحةٍ للانطلاق الإنساني من أجل بناء الحياة على قواعد الحقّ والقوّة والعدل،...