الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ} (18)

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } وقرئ بالتوحيد : أي : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها ، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها ، وقمها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :« ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة » وفي الحديث :« الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام : « قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زوّاري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره » وعنه عليه [ الصلاة و ] السلام : « من ألف المسجد ألفه الله » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وعن أنس رضي الله عنه : ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ) .

فإن قلت : هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان ، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه ، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام . وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ؟

فإن قلت : كيف قيل : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } والمؤمن يخشى المحاذير ، ولا يتمالك أن لا يخشاها ؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حقّ الله ، والآخر حق نفسه أن يخاف الله ، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى ، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل ، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى . وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى .