إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ} (18)

{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر ، خلا أن إرادةَ جميعِ المساجدِ وإدراجَ الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال ، فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرئ بالإفراد أيضاً والمرادُ هاهنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها { مَنْ ءامَنَ بالله } وحده { واليوم الآخر } بما فيه من البعد والحساب والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمانُ بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل : هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ ، والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها{[342]} وتنظيفُها وتزيينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش " وقال عليه الصلاة والسلام : " قال الله تعالى : «إن بيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه " وعنه عليه الصلاة والسلام : " من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى " وقال عليه الصلاة والسلام : " إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان " وعن أنس رضي الله عنه : «من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤُه » { وَلَمْ يَخْشَ } في أمور الدين { إِلاَّ الله } فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخذٍ له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عن القتال ونحوُ ذلك ، وأما الخوفُ الجِبِليُّ{[343]} من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب ، وقيل : كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ } المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة { أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالبِ العليةِ ، وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون ، ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون ، فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ ، إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى فما بالُ الكفرة وهم هُمْ ، وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى .


[342]:قم البيت: كنسه. ورم الشيء: أصلحه.
[343]:أي الخوف الطبيعي الذي من طبيعة الإنسان أي جبلته.