ولما نفى عنهم أهلية العمارة ، بين من يصلح لها فقال { إنما يعمر مساجد الله } أي إنما يؤهل لذلك القرب ممن له الأسماء الحسنى والصفات العلى حساً بإصلاح الذات ومعنى بالتعظيم بالقربات من قمها{[35789]} وتنظيفها ورمّ ما تهدم منها وتنويرها بالمصابيح الحسية وبالمعنوية من الذكر والقراءة - ودرس العلم أجلّ ذلك - وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث{[35790]} الدنيا { من آمن بالله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله { واليوم الآخر } أي فكان من أهل المعرفة{[35791]} الذين تصح عبادتهم وتفيدهم ، فإنها إنما تفيد{[35792]} في ذلك اليوم ، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن هذه{[35793]} البراءة عن لسانه أخذت ، فالإيمان بها إيمان به لا محالة ، فعدم ذكره أقعد في إيجاب الإيمان به { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } أي وأيد دعواه الإيمان بهذين الشاهدين ، وذلك أن عمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها ، بل الدلالة على رسوخ الإيمان ، والصلاة أعظم عمارتها{[35794]} ، والزكاة هي المعين لعمدتها على عمارتها .
ولما كان ربما فهم من قوله : { آمن } أنه يكفي في الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، أعلم أنه لابد في ذلك من إيجاد التصديق حقيقة المثمر لخشية الله فلذلك قال{[35795]} : { ولم يخش } أي في الأعمال الدينية { إلا الله } أي ولم يعمل بمقتضى خشية غير الملك الأعظم من كف عما يرضي الله بما فيه سخطه ، بل تقدم على ما انحصر رضى الله فيه ولو أن فيه تلفه ، وحاصله أنه يقدم خشيته من الله على خشيته من غيره ، فهو يرجع إلى قوله { فالله أحق أن تخشوه } ولكن هذا أبلغ لكونه نفى نفس الخشية وإن كان المراد نفي لازمها عادة ، وفيه تعريض لهم بأنهم لا يصلحون لخدمته لأنهم يخافون الأصنام ويفعلون معها بعبادتها فعل من يخافها{[35796]} ؛ ولما سبب{[35797]} عما مضى نفياً وإثباتاً أن المتصف بهذه الأوصاف يكون جديراً بالهداية وحقيقاً بها ، قال{[35798]} تعالى : { فعسى أولئك } أي العالو الهمم { أن يكونوا } أي جبلة ورسوخاً { من المهتدين* } فأقامهم - مع ما قدم لهم من الكمال بالمعارف والأفعال - بين الرجاء والخوف مع الإشارة بإفراد الخشية إلى ترجيح الخوف على الرجاء إيذاناً بعلو أمره وعظيم كبره إشارة إلى أنه لا حق لأحد عليه وأنه إن {[35799]}شاء أثاب{[35800]} ، وإن أراد حكم - وهو الحكم العدل - بالعقاب ، لا يسأل عما يفعل ، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وعزة المرام ، ومادة عسى بجميع تصاريفها تدور على الحركة ، وهذه بخصوصها للأطماع ، {[35801]}والحاصل{[35802]} أن من اتصف بالأوصاف الأربعة كان صالحاً وخليقاً وجديراً وحقيقاً بان يتحرك طمعه ويمتد أمله إلى أن يكون من جملة أهل الهدى ، فكيف توجبون أنتم لمن لم يتصف بواحد منها ما يختص به المهتدون من الموالاة ، هكذا كان ظهر لي أولاً في مدار المادة ، ثم ظهر لي أن ذلك في أكثر تقاليبها ، مع إمكان أن يكون غيره للإزالة ، وأن الشامل لها - يائية وواوية بتقاليبها العشر : عسى ، عيس ، سعى يسع ، عسو ، عوس ، سعو ، سوع ، وسع ، وعس - أنها لما يمكن أن يكون ، وهو جدير وخليق بأن يكون ، من قولهم : أعس به - أي أخلق .
وبالعسى{[35803]} أن يفعل - أي بالحري ، وإنه لمعساة بكذا - أي مخلقه{[35804]} ، وبهذا فسرها سيبويه : قال ابن هشام الخضراوي{[35805]} في شرح الإيضاح لأبي علي : وقال سيبويه : إن عسى بمنزلة اخلولق ، والمعساء كمكسال : الجارية{[35806]} المراهقة لأنها جديرة بقبول النكاح ، ومن ثمَّ أتت للطمع{[35807]} والإشفاق ، وقد يزيد الرجاء فيطلق على القرب فيكون مثل كاد ، وقد يشتد فيصل إلى اليقين فنستعمله{[35808]} حينئذ في معنى كان ، ومنه : عسى الغوير أبؤسا لكن قال الرضى : وأنا لا أعرف عسى في غير كلامه تعالى لليقين . وقد يضعف الرجاء فيصير شكاً{[35809]} ، ومنه المعسية كمحسنة{[35810]} للناقة ، قد{[35811]} يشك{[35812]} أبها لبن أم لا ، وعسى النبات - كفرح ودعا : غلظ ويبس{[35813]} ، أي صار خليقاً لأن يرعى وأن يقطع ، واليد من العمل مثله ، أي فصارت جديرة بالصبر على المشاق ، والعاسي{[35814]} ، والنخل : لأنه جدير بكمال ما يطلب منه من المنافع ، وعسي الشيخ كرضي عساء وعسا كدعا يعسو : كبر ، أي صار خليقاً بالموت وبأن لا يتعلم ما لم يكن في غريزته ، وكذا عسى وعسا{[35815]} الإنسان عن الأدب ، أي كبر عنه ، والعود يبس وصلب واشتد أي فصار خليقاً لما يراد منه ، والليل{[35816]} : اشتدت ظلمته ، فصار جديراً بمطابقة اسمه{[35817]} لمسماه وبتغطية الأمور ، والعسو : الشمع ، كأنه لإزالته{[35818]} ظلمة الليل بنوره إذا أحرق ، وعسي بالشيء كفرح : لزمه ، أي فصار جديراً{[35819]} بإضافته إليه ؛ والعيس - بالفتح : ضراب الفحل ويقال : ماؤه لأنه جدير بالإنتاج{[35820]} ، والعيس - بالكسر ؛ الإبل البيض يخالط بياضها شقرة ، وجمل وظبي أعيس وناقة عيساء ، لأنها خليقة بكل محمدة لحسن{[35821]} لونها ، وتعيست{[35822]} الإبل صارت بياضاً في سواد كذلك أيضاً وعيساء : امرأة والأنثى من الجراد ، لشبهها بلون العيس ، وأعيس الزرع إذا{[35823]} لم يكن فيه رطب ، لأنه صار حقيقاً بالحصاد ، والعوس - بالفتح - والعوسان : الطوفان بالليل ، لأنه جدير ببلوغ المقاصد ، وبالضم : ضرب من الغنم وهو كبش عوسي ، إلحاقاً لها بالعيس لكنها لصغرها اختير لها الضم جبراً لها وتقوية وتفاؤلاً بالكبر{[35824]} ، واختير للإبل الكسر تفاؤلاً بسهولة القياد ، وبالتحريك : دخول الشدقين عند الضحك وغيره : تشبيهاً بالغنم ، فكأنه جدير بأن يترك ما يحدث منه ذلك من الضحك وغيره ، والنعت أعوس وعوساء ، وعاس على عياله : كد عليهم وكدح ، وعياله : قاتهم ، وماله عوساً وعياسة : أحسن القيام عليه فعمل بما هو الأليق به في كل ذلك والعواسة - بالضم : الشربة{[35825]} من اللبن وغيره ، لأنها جديرة بالري{[35826]} ، والأعوس : الصيقل والوصّاف للشيء ، لأنه جدير بإظهار الخبء ، والعواساء كبراكاء الحامل{[35827]} من الخنافس ، لأنها في تلك الحالة أجدر بما تفهمه مادتها من الكراهة فإنه يقال : خنفس عن القوم : كرههم وعدل عنهم ، والخنافس - بالضم : الأسد ، لأنه جدير بأن يكره ويعدل عنه ؛ والسعي : عدو دون الشد{[35828]} وكل عمل سعي ؛ قال في القاموس : سعى كرعى{[35829]} : قصد وعمل ومشى وعدا ونمّ وكسب ، كل ذلك يكون جديراً بدرك حاجته ، والسعاية : مباشرة عمل الصدقات التي بها يدرك الإمام أخذ الحقوق ، فيكون خليقاً بإغناء الفقراء ، وسعت الأمة : بغت ، فكانت خليقة بعمل الإماء عند العرب ، وساعاها : طلبها للبغاء ، وأسعاه : جعله يسعى ، والمسعاة{[35830]} : المكرمة والمعلاة في أنواع المجد ، لأنها جديرة بأن يسعى لها ، واستسعى العبد : كلفه من العمل ما يؤدي به عن نفسه إذا عتق بعضه ليعتق به ما بقي لأنه جدير بذلك ، والسعاية - بالكسر : ما كلف من ذلك ؛ والسيع{[35831]} : الماء الجاري على وجه الأرض ، وقد انساع{[35832]} - إذا جرى ، لأن الماء خليق بالجري والحركة ، ساع الماء والشراب : اضطرب على وجه الأرض ، وسيعاء من الليل وكسيراء : قطع منه ، كأنه ينظر إلى الساعة وهي جزء ، هو لنفاسته خليق بأن يحفظ ولا يضيع وأن يتدارك إن ضيع ، والسياع - بالفتح : ما يطين به ، والشحم تطلى به المزادة ، كأنه{[35833]} يمنع ما هو خليق بالجري ، وقد سيعت الجب - إذا طينته بطين أو جص ؛ وكذلك الزق والسفن إذا طليت بالقار ، والمسيعة : خشبة مملسة يطين بها تكون مع حذاق{[35834]} الطيانين ، والتسييع ، التطيين {[35835]}بها تكون مع حذاق التدهين ، وقال القزاز : والسياع : تطيينك بالجص أو الطين{[35836]} أو القير ، تسيع به السفن ، والسياع : شجر العضاه له ثمر كهيئة الفستق وشجر اللبان ، وكل منها خليق بالرغبة فيه ، والمسياع ؛ الناقة تذهب في المرعى ، كأنها شبهت بالماء الجاري ، وهي أيضاً خليقة بالسمن ، والتي تحمل الضيعة ، وسوء القيام عليها ، والتي يسافر عليها ويعاد ، لأنها خليقة بأن يرغب فيها وأساعة : أهمله ، أي أزال ما هو خليق به من الحفظ فصار خليقاً بالهلاك ، والسعوة - بالكسر : الساعة كالسعواء بالكسر والضم - وقد تقدم تخريجها - والمرأة البذية الخالعة{[35837]} ، كأنها جديرة بسرعة الفراق كالساعة ، والساعي : الوالي على أي أمر وقوم كان ، ولليهود والنصارى : رئيسهم ، لأنه خليق بأن يسعى عليهم ويذب عنهم ، والسعاة : التصرف ، لأن الإنسان جدير به ، وسعيه{[35838]} علم للعنز ، لأنها خليقة بالسعي ، والسعاوي - بالضم : الصبور على السهر والسفر ، نسبة إلى السعي على وجه بليغ وهو خليق بأن يرغب فيه ، وأسعوا به ، أي طلبوه{[35839]} بقطع همزتها ، والساعة : جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والقيامة ، لأن كل ذلك جدير وحقيق بالاحتفاظ من إضاعته ، والهالكون{[35840]} كالجاعة للجياع ، كأنهم أضاعوا ساعتهم فكانوا جديرين بما حصل لهم ، وساعة سوعاء : شديدة ، وساعت الإبل تسوع : بقيت بلا راع ، فصارت جديرة بالهلاك والضياع ، وأساعه : أهمله وضيعه ، فصار كذلك ، ومنه ناقة مسياع{[35841]} : تدع ولدها حتى يأكله السباع ، وبعد سوع من الليل وسواع ، أي هدءه{[35842]} ، وأسوع : انتقل من ساعة إلى ساعة فصار جديراً بأن يتحفظ فيتدارك في الثانية ما فاته في الأولى ، وأسوع الحمار : أرسل غرموله ، فصار جديراً بالنزوان ، وسواع : اسم صنم عبد{[35843]} في عهد نوح عليه السلام ، غرقه الطوفان فاستثاره{[35844]} إبليس حتى عبد أيضاً ، لأنه كان خليقاً - عندهم وفي زعمهم - بما أهّلوه له - تعالى الله عن ذلك ! والوسع مثلثة{[35845]} : الجدة والطاقة كالسعة ، ومعناها الخلاقة بالاحتمال ، وسعه الشيء - بالكسر - يسعه كيضعه سعة كدعة وزنة : كان جديراً باحتماله ، واللهم سع علينا ، أي وسع ، وليسعك بيتك ، أمر بالقرار{[35846]} فيه ، وهذا الإناء يسع عشرين كيلاً ، أي يتسع لها ، والواسع : ضد الضيق - كالوسيع ، وفي الأسماء الحسنى : الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل ، أو{[35847]} المحيط بكل شيء أو{[35848]} الذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته{[35849]} كل شيء ، والوساع كسحاب : الندب ، وهو الخفيف في الحاجة الظريف النجيب ، لأنه جدير بما يندب له ، ومن الخيل : الجواد أو الواسع الخطو والدرع - كالوسيع ، وقد وسع ككرم وساعة وسعة{[35850]} وأوسع : صار ذا سعة ، و( وسع ) الله عليه : أغناه ، وتوسعوا في المجلس : تفسحوا ، فصاروا جديرين باحتمال الداخل بينهم ، ووسعه توسيعاً ضد ضيقه ، ورحمة الله وسعت كل شيء ، أي أحاطت به ، ووسع كل شيء علماً ، أي أحاط به وأحصاه ؛ والوعس كالوعد : شجر تعمل منه البرابط{[35851]} والعيدان ، لأنه أحق الأشجار بذلك ، والرمل السهل يصعب{[35852]} فيه المشي ، لأنه يرى لسهولته خليقاً بأن يمشى فيه ، وإذا حقق النظر كان خليقاً بصعوبة المشي لكونه رملاً ، وأوعس ركبه ، والوعساء :رابية من رمل{[35853]} لينة تنبت أحرار البقول ، لأنها للينها حقيقة من بين روابي{[35854]} الرمل بالنبت ، ومكان أوعس وأمكنة وعس ، والميعاس : ما تنكب عن الغلظ ، فهو جدير بالمشي فيه ، والأرض ؛ لم توطأ ، فهي جديرة بالكف عن سلوكها ، والطريق ، لأنه جدير بأن يسلك ، قال في القاموس : كأنه ضد ، والمواعسة : ضرب من سير الإبل ، كأنه وسط فهو جدير بالخير{[35855]} والمباراة في السير ، أو لا تكون إلا ليلاً ؛ وقال القزاز : توعست في وجهه حمرة أو صفرة ، أي كانت خليقة بالظهور ، قال : وإذا ذكروا الرملة قالوا : وعساء ، وإذا ذكروا الرمل قالوا : أوعس - هذا ما في تنزيل الجزيئات من اللغة على مدار هذه المادة ، وأما كلام أهل العربية في قواعد " عسى " الكلية فقال أبو عبد الله القزاز : هو فعل لا ينصرف فلا تقول ؛ يعسى ، ولا هو عاسٍ ، وقال عبد الحق الإشبيلي : ولا يأتي{[35856]} منه مستقبل ولا فاعل ولا مفعول ولا مصدر قال القزاز : ويصحبه " أن " ويجوز حذفها ، و " أن " وما بعدها بمعنى{[35857]} المصدر وهي في موضع نصب ، ولا يقع بعدها المصدر ولا اسم الفاعل ، وإنما جاء هذا في مثل العرب : عسى الغوير أبؤساً ، وأبؤس جمع بأس ، وهذا يدل على أن خبر عسى في موضع نصب ، وقال في القاموس : والأبؤس : الداهية ، ومنه عسى الغوير أبؤساً ، أي داهية ، {[35858]}قال أبو عبيد في الغريب : كأنه أراد : عسى الغوير أن يحدث أبؤساً وأن يأتي بأبؤس{[35859]} ، فهذا طريق النصب ، ومما يبينه{[35860]} قول الكميت :
قالوا أساء بنو كرز{[35861]} فقلت لهم *** عسى الغوير بإبآس{[35862]} وإغوار
وقال شارح الجزولية{[35863]} أبو محمد بن{[35864]} الموفق{[35865]} : لما كانت للرجاء دخلها معنى{[35866]} الإنشاء فلم تتصرف ، لأن تصرفها ينافي الإنشاء لأنها إذا تصرفت دلت على الخبر فيما مضى والحال والاستقبال ، وذلك ينافي معنى الإنشاء الذي لا يصلح لماض ولا مستقبل ، وقال بعض المتأخرين : عسى موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال وهو على لفظ الماضي فاحتيج إلى " أن " بعده إذ لا مستقبل له{[35867]} ، وذهب بعضهم إلى أن عسى حرف لعدم تصرفها ولا{[35868]} معناها في غيرها ، والصحيح أنها فعل لفظاً ومعنى ، أما لفظاً فظاهر ، أي للحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة ، وأما معنى فلأنه إخبار عن طمع وقع للمتكلم ، وجعل لفظها بلفظ الماضي لأن الطمع قد وقع ، وإنما المطموع هو الذي يتوقع وينتظر ، وأدخل " أن " على المطموع فيه لأنه{[35869]} لم يقع بعد ، وجردت أخواتها عن " أن " لأن خبرها محقق في الحال إذ قد شرع فيه إلا " كاد " فإنها للمقاربة في الجملة ؛ وقال ابن هشام المصري في توضيحه : ويجب كون خبرها جملة ، وشذ كونه مفرداً نحو عسى الغوير أبؤساً ، ويكون الاسم مرفوعاً بعسى وأن ، والفعل في موضع نصب على الخبر ، وقال الرضى : إنما لم يتصرف في عسى لتضمنها{[35870]} معنى الحرف ، أي إنشاء الطمع والرجاء ، وقوله : أبؤساً وصائماً ، لتضمن عسى معنى كان{[35871]} فأجري مجراه ومذهب المتأخرين أن عسى ترفع الاسم وتنصب الخبر ككان ، وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي{[35872]} : الأفعال موضوعة للتصرف من حيث كانت مقسمة بأقسام الزمان ، ولولا ذلك لأغنيت المصادر عنها ، ولهذا قال سيبويه فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم{[35873]} ينقطع ، ولما خالفت هذه الأفعال - يعني عسى ونعم وبئس وفعل التعجب - سائر الأفعال في الدلالة ترك تصرفها أبداً بما أريدت له من المبالغة فيما جعلت دالة{[35874]} عليه ، فمعنى عسى الطمع والإشفاق - كذا قال سيبويه ، ولما اختصت بهذا المعنى ترك تصرفها ، قال الرماني : منعت ذلك حملاً على " لعل " كما حملت " ما " على " ليس " والأول أولى لأنه ليس ينبغي أن يحمل باب الأفعال على الحروف ، ولأن الأفعال في بابها بمنزلة الحروف في بابها في لزوم البناء ، وإنما الأسماء تحمل عليها كما تقول في قطام وحزام{[35875]} : إنه بني لوقوعه موقع الفعل ، وأن أسماء الاستفهام بنيت لوقوعها موقع الحرف ولا تقول في الأفعال إنها بنيت حملاً على الحروف ولا الحروف بنيت حملاً على الأفعال ، بل كل منهما أصل فكذلك التصرف ، ليس امتناعه لحمله على الحرف وجريه مجراه ، وعسى من أخوات " كان " وإنما لم تذكر معها للمخالفة بترك التصرف وبلزوم " أن " الخبر وبكونه فعلاً ، ويدل على أنها من أخوات " كان " عسى الغوير أبؤساً ، فقد انكشف الأصل كما انكشف أصل أقام وأطال ونحوه بقوله :
صددت{[35876]} وأطولت الصدود و{[35877]} قلما *** وصال على طول الصدود يدوم
ولزوم الفعل بخبرها لجعله عوضاً من التصرف الذي كان ينبغي أن يكون لها ، وأما لزوم " أن " فلما أريد من صرف الكلام إلى تأويل الاستقبال لأن " أن " تخلص إليه ، والبيت الممثل به فيه شيء طريف ، وهو مصدر مجموع واقع موقع مصدر واقع موقع فعل ، والمصادر في أصلها لا تجمع ولكنه ضرورة ومثل ، فالأصل أن " بأس " ثم أبؤساً - انتهى كلام العبدي ، وعندي أنه عند ما يقوى المعنى الذي سيقت له من طمع أو إشفاق يجعل خبرها اسماً تنبيهاً على أنها الآن بمنزلة كان لما اشتد من شبهها لها بذلك ؛ قال أبو طالب : وإذا وليها " أن " والفعل كان في موضع رفع ، وسد طول الكلام مسد الخبر ، ومعناها الذي هو الإشفاق والطمع قريب من المقاربة في كاد ، فلذلك حذف " أن " من خبرها حملاً لها على كاد كما جوزوا دخول " أن " في خبر كاد{[35878]} حملاً لها على عسى ؛ وقال شارح الجزولية : وحذف " أن " من خبر عسى أكثر من إلحاق " أن " في خبر " كاد " لمقاربة كاد ذات الفعل ، و " أن " تنافي ذلك ، قال : ومن الفرق بينهما أن عسى لا يضمر فيها ضمير الشأن والقصة لشبهها بالحرف لعدم تصرفها ، وتضمر في كاد لتصرفها ، ثم رجح أنه يضمر فيها وإن لم تتصرف كما أضمر في نعم وبئس{[35879]} وقال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح أيضاً : إن سيبويه قدر عسى بقارب ، أي فترفع وتنصب لأن قارب متعد ، وقدرها بقرب ، أي فلا تنصب لعدم تعديه ، قال : ولا تدخل عسى على الماضي ؛ قال أبو علي : لأنها للاستقبال المحض ولذلك وقع بعدها " أن " فلا تصلح للماضي بوجه ؛ وقال شارح الجزولية : عسى لها مع الظاهر مذهبان : أحدهما أن تكون ناقصة{[35880]} بمعنى كان الناقصة ، تحتاج إلى اسم وخبر إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون فعلاً ، وأصله أن يكون اسماً مثل خبر كان إلا أنه عدل عنه إلى الفعل{[35881]} تنبيهاً على الدلالة على ما هو المقصود من الرجاء وتقوية لما يفيده الرجاء من الاستقبال ، وشبهت في هذا الوجه ب " قارب زيد الخروج " تحقيقاً لبيان الإعراب ، لا في المعنى ، لأن " قارب زيد الخروج " ليس فيه إنشاء رجاء ولا غيره ، وإنما هو تمثيل لتقدير الإعراب اللفظي لأنه أصلها أن تكون كذلك ، وإنما طرأ عليها إنشاء الرجاء كما كان ذلك في التعجب ونعم وبئس وغيرهما ؛ والمذهب الثاني أن تأتي تامة{[35882]} فتستعمل استعمال " قرب " فتدخل على " أن " مع الفعل فتقول : عسى أن يقوم زيد ، واستغنى فيها - بأن والفعل - عن الخبرين كما استغنى في " ظننت أن يقوم زيد " عن المفعولين ، وذلك لاشتماله{[35883]} على مسند ومسند إليه ، وهو المقصود بهذه الأفعال ، فإذا قلت : زيد عسى أن يقوم{[35884]} ، احتمل أن تكون الناقصة فيكون فيها ضمير يعود على زيد هو اسمها و " أن " مع الفعل خبرها ، ويحتمل أن تكون التامة{[35885]} فلا يكون فيها ضمير وكون " أن " مع الفعل فاعلها ؛ وقال ابن الخباز{[35886]} الموصلي في كتابه النهاية في شرح كفاية{[35887]} الكفاية : عسى للطمع للمبالغة في الطمع ، فلا يكون خبرها ماضياً لأن معناها الرجاء والطمع ، والماضي لا يطمع فيه ولا يرجى لحصوله ، واستدل على أنها لا تستعمل إلا في المستقبل بقول بعض شعراء الحماسة :
عسى طيئ من طيىء بعد هذه *** ستطفىء غلات الكلى والجوانح{[35888]}
فأتى بالسين لأنه لم يمكنه الإتيان ب " أن " في الشعر ؛ وقال شارح الجزولية ما معناه : إنه التزم في خبرها الفعل للدلالة على الاستقبال وألزم{[35889]} " أن " تقوية لذلك ، ولهذا لم يكن خبرها اسماً وإن كان أصله{[35890]} أن يكون اسماً إذ لا دلالة للاسم على الزمان ، ولم يوضع مكانها السين وسوف لأنهما يدلان على تنفيس في الزمان والغرض هنا تقريبه ، وقد يجيء في الشعر قليلاً - وأنشد البيت المذكور ؛ وقال ابن الخباز : ودخول الاستفهام عليها يؤذن بأنها ليست للطمع لأن الاستفهام لا يدخل على الطمع ولا على ما ليس بخبر ، فدخول هل عليها مما يؤذن بأنها خبر - انتهى . فتفسيرها بما ذكرته - من أنها لما يمكن أن يكون{[35891]} وهو خليق بأن يكون - أول ، ويكون الطمع لازماً لمضمون الكلام لا أنه مدلولها بالمطابقة - والله الموفق .