فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ} (18)

وقرئ بالإفراد ويراد به جنس المسجد ، وعلى هذا يندرج فيه سائر المساجد ويدخل المسجد الحرام دخولا أوليا ، قال النحاس : وقد أجمعوا على الجمع في قوله : { إنما يعمر مساجد الله } .

قلت : وهي أيضا محتملة للأمرين وعن الحسن البصري : إنما قال تعالى مساجد والمراد المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر كجميع المساجد أو لأن كل بقعة وناحية من بقاعه ونواحيه المختلفة الجهات مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد ، إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة ، ويؤيده القراءة بالتوحيد .

قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم فلان كثير الدرهم وبالعكس ، كقولهم فلان يجالس الملوك ، ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا ، والمراد بالعمارة إما المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي وهو ملازمته ودخوله والتعبد والقعود فيه ، وكلاهما ليس للمشركين ، أما الأول فلأنه يستلزم المنة على المسلمين بعمارة مساجدهم ، وأما الثاني فلكون الكفار لا عبادة لهم مع نهيهم عن قربان المسجد الحرام .

قيل لو أوصى كافر ببناء المسجد لم تقبل وصيته ، وكذا يمنع من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل عزر ، وإن داخل بإذن لم يعزر ، ولكن لا بد من حاجة فيشترط للجواز الإذن والحالة ، ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد ، وهو كافر ، والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها .

{ شاهدين } بإظهار ما هو كفر من نصب الأوثان والعبادة لها وجعلها آلهة ، فإن هذا شهادة منهم { على أنفسهم بالكفر } وإن أبوا ذلك بألسنتهم ، فكيف يجمعون بين أمرين متنافيين ، عمارة المسجد التي هي من شأن المؤمنين ، والشهادة على أنفسهم بالكفر التي ليست من شأن من يتقرب إلى الله بعمارة مساجده .

وقيل المراد بهذه الشهادة قولهم في طوافهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، مع قولهم نحن نعبد اللات والعزى ، وقيل أن اليهودي يقول هو يهودي ، والنصراني يقول هو نصراني ، والصابئ يقول هو صابئ ، والمشرك يقول هو مشرك .

وقال ابن عباس : شهادتهم سجودهم للأصنام . وقال الحسن : كلامهم بالكفر ، وقيل شاهدين على رسولهم بالكفر ، لأنه من أنفسهم وما أبعده عن المقام .

{ أولئك حبطت أعمالهم } التي يفتخرون بها ويظنون أنها من أعمال الخير مثل العمارة والحجابة والسقاية ، وفك العاني لأنها مع الكفر لا تأثير لها ، أي بطلت ولم يبق لها أثر { وفي النار هم خالدون } في هذه الجملة الاسمية مع تقديم الظرف المتعلق بالخبر تأكيد لمضمونها .

ثم بين سبحانه من هو حقيق بعمارة المساجد فقال : { إنما يعمر مساجد الله } الظاهر أن الجمع هنا حقيقة لأن المراد جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض ، والتعمير بنحوه البناء والتزيين بالفرش والسراج ، وبالعبادة وترك حديث الدنيا ، يقال عمرت الدار عمرا من باب قتل بنيتها ، والاسم العمارة بالكسر وعمرت الخراب عمرا من باب فهو عامر أي معمور .

قال أبو السعود : والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها ودراسة العلوم فيها ونحو ذلك انتهى ، وقد تقدم الكلام في وجه جمع المساجد وفي بيان ماهية العمارة ، ومن يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل العمارة هنا عليهما قال أبو السعود : إدراج المسجد الحرام في ذلك غير مخالف لمقتضى الحال ، فإن الإيجاب ليس كالسلب ، وقد قرئ بالإفراد أيضا ، والمراد هنا قصر تحقق العمارة ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها ، أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارة يعتد بها .

{ من آمن بالله } وحده { واليوم الآخر } بما فيه من البعث والحساب والجزاء حسبما نطق به الوحي { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } على ما علم من الدين فيندرج فيه الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتما ، وقيل هو مندرج تحت الإيمان بالله خاصة فإن أحد جزأي كلمتي الشهادة علم للكل .

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) ، قال الله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } {[878]} أخرجه أحمد والدارقطني والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي وعبد بن حميد .

وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة ) {[879]} أخرجه الترمذي .

وعن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة ) {[880]} وقد وردت أحاديث كثيرة في استحباب ملازمة المساجد وعمارتها والتردد إليها للطاعات .

{ ولم يخش } أحدا { إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } فيه حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم . فإن الموصوفين بتلك الصفات الأربع إذا كان اهتداؤهم مرجوا فقط ، فكيف بالكفار الذين لم يتصفوا بشيء من تلك الصفات ، وقيل عسى من الله واجبة .

وقال ابن عباس : كل عسى في القرآن فهي واجبة ، كقوله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } وهي الشفاعة .

وقيل هي بمعنى خليق ، أي فخليق أن يكونوا من المهتدين ، وقيل أن الرجاء راجع إلى العباد .

قال ابن عباس : يقول من وحد الله وآمن بما أنزل الله وأقام الصلوات الخمس ولم يتعبد إلا الله فهو من المهتدين ، فمن كان جامعا بين هذه الأوصاف فهو الحقيق بعمارة المساجد لا من كان خاليا منها أو من بعضها .

واقتصر على ذكر الصلاة والزكاة والخشية تنبيها بما هو أعظم أمور الدين على ما عداه مما افترضه الله على عباده لأن كل ذلك من لوازم الإيمان .


[878]:- الدارمي كتاب الصلاة باب 23.
[879]:- الترمذي كتاب المواقيت باب 120.
[880]:- مسلم 533- البخاري 297.