السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَـٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ} (18)

ولما بيّن تعالى أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين المستحق لعمارتها بقوله تعالى :

{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش } أحداً { إلا الله } أي : إنما تتم عمارتها لهؤلاء الجامعين بين الكمالات العملية والعلمية .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم مع أنّ الإيمان به شرط في صحة الإيمان ؟ أجيب : بأنه تعالى لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالتشهد وهو مشتمل على ذكره كان ذلك كافياً ، ومما علم من أن الإيمان بالله تعالى قرينه وتمامه الإيمان به فكان الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مذكوراً بطريق أبلغ وهو طريق الكناية لما مرّ من مقارنتهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر . وقيل : إن المشركين كانوا يقولون : إنّ محمداً إنما ادّعى رسالة الله طلباً للرّياسة والملك ، فلذلك ترك ذكر النبوّة فكأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد ، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوّة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرياسة .

فإن قيل : كيف قال تعالى : { ولم يخش إلا الله } والمؤمن يخاف الظَلَمة والمفسدين ؟ أجيب : بأن المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله تعالى عنه رضا غيره لتوقع مخوف . وإذا اعترضه أمران : أحدهما : حق الله تعالى ، والآخر : حق نفسه ؛ أن يخاف الله تعالى ، فيؤثر حق الله تعالى على حق نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم . ومن عمارة المساجد : ترميمها وفرشها وتنويرها بالسرج التي لا سرف فيها ، وإدامة العبادة فيها والذكر . ومن الذكر درس العلم فيها ، بل هو أجله وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن المساجد لأجله كحديث الدنيا .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد ، فيقعدون حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) . وفي الحديث : ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) . وفي «الكشاف » : أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : إنّ بيوتي في أرضي المساجد ، وإنّ زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ) . قال شيخ شيخنا ابن حجر : لم أجده هكذا ، وفي الطبراني عن سلمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم زائره ) .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم : ( من ألف المسجد ألفه الله تعالى ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) . وعن أنس رضي الله عنه : من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( من غدا إلى المسجد وراح أعد الله تعالى له نزلاً من الجنة كلما غدا وراح ) . وفي قوله تعالى : { فعسى أولئك } أي : الموصوفون بهذه الصفات { أن يكونوا من المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم والانتفاع بأعمالهم التي قد استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، فإنه تعالى بيّن أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليه الخشية من الله تعالى ، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى ، فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بخير من عند الله ومنع للمؤمنين من أن يغترّوا بأحوالهم ويتكلوا عليها .