{ وما تكون } . يا محمد ، { في شأن } ، عمل من الأعمال ، وجمعه شؤون ، { وما تتلوا منه } ، من الله ، { من قرآن } ، نازل ، وقيل : منه أي من الشأن من قرآن ، نزل فيه ثم خاطبه وأمته فقال : { ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } ، أي : تدخلون وتخوضون فيه ، الهاء عائدة إلى العمل ، والإضافة : الدخول في العمل . وقال ابن الأنباري : تندفعون فيه . وقيل : تكثرون فيه . والإضافة : الدفع بكثرة .
قوله تعالى : { وما يعزب عن ربك } ، يغيب عن ربك ، وقرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي ، وقرأ الآخرون بضمها ، وهما لغتان .
قوله تعالى : { من مثقال ذرة } ، أي : مثقال ذرة ، و{ من } صلة ، والذرة هي : النملة الحميراء الصغيرة . { في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك } ، أي : من الذرة ، { ولا أكبر } قرأ حمزة ويعقوب : برفع الراء فيهما ، عطفا على موضع المثقال قبل دخول { من } ، وقرأ الآخرون : بنصبها ، إرادة للكسرة ، عطفا على الذرة في الكسر . { إلا في كتاب مبين } . وهو اللوح المحفوظ .
وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، عطف على ذلك تذكيره إياهم بإحاطة علمه بكل صغير وكبير في هذا الكون فقال : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً .
أي : وما تكون - أيها الرسول الكريم - في شأن من الشئون أو في حال من الأحوال .
وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن يهدي إلى الرشد .
ولا تعملون - أيها الناس - عملا ما صغيرا أو كبيرا ، إلأا كنا عليكم مطلعين .
ومن في قوله { منه } للتعليل ، والضمير يعود إلى الشأن ، إذ التلاوة أعظم شئونه - صلى الله عليه وسلم - هذا . ولذا خصت بالذكر . ويجوز أن يعود للقرآن الكريم ، ويكون الإِضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه ، وتعظيم أمره .
ومن في قوله { مِن قُرْآنٍ } مزيدة لتأكيد النفي .
وقال الآلوسى : " والخطاب الأول خاص برأس النوع الإِنساني ، وسيد المخاطبين - صلى الله عليه وسلم - هذا . وقوله { وَلاَ تَعْمَلُونَ . . . } عام يشمل سائر العباد برهم وفاجرهم وقد روعى في كل من المقامين ما يليق به ، فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن ، لأن عمل العظيم عظيم ، وفى الثاني بالعمل العام للجليل والحقير . وقيل : الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله - تعالى - { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } وقوله : { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة . أي : وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه ، حافظين له " .
وقوله : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون وتندفعون في ذلك العمل ، لأن الإِفاضة في الشيء معناها الاندافع فيه بكثرة وقوة .
وقوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } بيان لشمول علمه - سبحانه - لكل شيء .
ويعزب : أى يبعد ويغيب ، وأصله من قولهم : عزب الرجل يعزب بإبله إذا أبعد بها وغاب في طلب الكلأ والعشب . والكلام على حذف مضاف .
أي : وما يغيب ويخفي عن عمل ربك مثقال ذرة في الوجود علويه وسفلية ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا وهو معلوم ومسجل عنده في كتاب عظيم الشأن ، تام البيان .
وقوله : { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } تمثل لقلة الشيء ودقته ، ومن فيه لتأكيد النفي وقدمت الأرض على السماء هنا ، لأن الكلام في حال أهلها ، والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه - سبحانه - بتفاصيلها .
فكأنه - سبحانه - يقول : إن من يكون هذا شأنه لا يخفى عليه شيء من أحوال أهل الأرض مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } جملة مستقلة لسيت معطوفة على ما قبلها .
و { لا } نافية للجنس و { أصغر } اسمها منصوب لشبهه بالمضاف ، و { أكبر } معطوف عليه . و { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } متعلق بمحذوف خبرها .
وقدم ذكر الأصغر على الأكبر ، لأنه هو الأهم في سياق العلم بما خفى من الأمور .
وقرأ حمزة ويعقوب وخلف { وَلاَ أَصْغَرَ } بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى : ولا ما هو أصغر في ذلك .
والمراد بالكتاب المبين : علم الله الذي وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذي حفظ الله فيه كل شيء .
وبذلك نرى أأن هذه الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة على شمول قدرة الله - تعالى - لكل شيء ، وعلى دعوة الناس إلى الانتفاع بما جاء به القرآن من خيرات وبركات ، وعلى وجوب التزامهم بما شرعه - سبحانه - وعلى إحاطة علمه بما ظهر وبطن من الأمور .
وبعد أن وجه - سبحانه - نداء إلى الناس دعاهم فيه إلى الانتفاع بما جاء في القرآن من خيرات ، وتوعد الذين شرعوا شرائع لم يأذن بها الله ، وأقام الأدلة على نفاذ قدرته ، وشمول علمه .
لا يشكرون . . والله هو المطلع على السرائر ، المحيط بكل مضمر وظاهر ، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . . هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق ، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول [ ص ] ومن معه بأنهم في رعايته وولايته ، لا يضرهم المكذبون ، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون :
وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل ، إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ؛ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين آمنوا وكانوا يتقون . لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا تبديل لكلمات الله ، ذلك هو الفوز العظيم . ولا يحزنك قولهم ، إن العزة لله جميعاً ، هو السميع العليم ، ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، إن يتبعون إلا الظن ، وإن هم إلا يخرصون . هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً ، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق :
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . شعور مطمئن ومخيف معاً ، مؤنس ومرهب معاً . . وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه ، شاهدً أمره وحاضر شأنه . الله بكل عظمته ، وبكل هيبته ، وبكل جبروته ، وبكل قوته . الله خالق هذا الكون وهو عليه هين . ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان . . الله مع هذا المخلوق البشري . الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها ! إنه شعور رهيب . ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن . إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية . . إن الله معها :
( وما تكون في شأن ، وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه . . )
إنه ليس شمول العلم وحده ، ولكن شمول الرعاية ، ثم شمول الرقابة . .
( وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .
ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصوراً في علم الله . . ويرتعش الوجدان إشفاقاً ورهبة ، ويخشع القلب إجلالاً وتقوى ، حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة ؛ ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله .
يخبر تعالى نبيه ، صلوات الله عليه وسلامه{[14287]} أنه{[14288]} يعلم جميع أحواله وأحوال أمته ، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة ، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقالُ ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، كقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ{[14289]} الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ، وقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] .
وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء ، فكيف بعلمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة ، كما قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [ الشعراء : 217 - 219 ] ؛ ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون ، ولهذا قال ، عليه السلام{[14290]} لما سأله جبريل عن الإحسان [ قال ]{[14291]} أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . {[14292]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَما تَكُونُ يا محمد فِي شأْنِ يعني في عمل من الأعمال ، وَما تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرآن يقول : وما تقرأ من كتاب الله من قرآن ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ يقول : ولا تعملون من عمل أيها الناس من خير أو شرّ إلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُودا يقول : إلا ونحن شهود لأعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذون فيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : إذ تفعلون .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تشيعون في القرآن الكذب ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي روق ، عن الضحاك : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقول : فتشيعون في القرآن من الكذب .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ تفيضون في الحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ في الحقّ ما كان .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه ، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عبادُه عملاً إلا كان شاهده ، ثم وصل ذلك بقوله : إذْ يُفِيضُونَ فِيهِ فكان معلوما أن قوله : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إنما هو خبر منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وقت تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن لأن ذلك لو كان خبرا عن شهوده تعالى ذكره وقت إفاضة القوم في القرآن ، لكانت القراءة بالياء : إذْ تُفِيضُونَ فِيهِ خبرا منه عن المكذّبين فيه .
فإن قال قائل : ليس ذلك خبرا عن المكذّبين ، ولكن خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنه شاهده إذ تلا القرآن فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل : «إذ تفيض فيه » ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم واحد لا جمع ، كما قال : وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ فأفرده بالخطاب ، ولكن ذلك في ابتدائه خطابه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ثم عوده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله : يا أيّها النّبِيّ إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ ، وذلك أن في قوله : إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ دليلاً واضحا على صرفه الخطاب إلى جماعة المسلمين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره لأنه ابتدأ خطابه ثم صرف الخطاب إلى جماعة الناس ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم ، وخبر عن أنه لا يعمل أحد من عباده عملاً إلا وهو له شاهد يحصى عليه ويعلمه ، كما قال : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ يا محمد عمل خلقه ، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء . وأصله من عزوب الرجل عن أهله في ماشيته ، وذلك غيبته عنهم فيها ، يقال منه : عزب الرجل عن أهله يَعْزُبُ وَيعْزِبُ لغتان فصيحتان ، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء . وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب غير أني أميل إلى الضمّ فيه لأنه أغلب على المشهورين من القرّاء .
وقوله : مِنْ مِثْقالِ ذَرّةٍ يعني : من زنة نملة صغيرة ، يحكى عن العرب : خذ هذا فإنه أخفّ مثقالاً من ذاك أي أخفّ وزنا . والذرّة واحدة الذرّ ، والذرّ : صغار النمل . وذلك خبر عن أنه لا يخفى عليه جلّ جلاله أصغر الأشياء ، وإن خفّ في الوزن كلّ الخفة ، ومقادير ذلك ومبلغه ، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه ، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه : فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضى ربكم عنكم ، فإنا شهود لأعمالكم ، لا يخفى علينا شيء منها ، ونحن محصوها ومجازوكم بها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلا أصْغَرَ مِنَ ذلكَ وَلا أكْبَرَ فقرأ ذلك عامّة القرّاء بفتح الراء من «أصغر » و«أكبر » على أن معناها الخفض ، عطفا بالأصغر على الذرّة وبالأكبر على الأصغر ، ثم فتحت راؤهما لأنهما لا يجريان . وقرأ ذلك بعض الكوفيين : «وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ وَلا أكْبَرُ » رفعا ، عطفا بذلك على معنى المثقال لأن معناه الرفع . وذلك أن «مِنْ » لو أُلقيت من الكلام لرفع المثقال ، وكان الكلام حينئذ : وَما يَعْزُبُ عن ربك مثقال ذرّة ولا أصغر من مثقال ذرّة ولا أكبر ، وذلك نحو قوله : مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللّهِ و«غيرِ الله » .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بالفتح على وجه الخفض والردّ على الذرّة لأن ذلك قراءة قرّاء الأمصار وعليه عوامّ القرّاء ، وهو أصحّ في العربية مخرجا وإن كان للأخرى وجه معروف .
وقوله : إلاّ فِي كِتابٍ يقول : وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله مبين عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جلّ ثناؤه فيه ، وأنه لا يعزب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَما يَعْزُبُ يقول : لا يغيب عنه .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبّكَ قال : ما يغيب عنه .
قصد الآية وصف إحاطة الله تعالى بكل شيء ، ومعنى اللفظ { وما تكون } يا محمد ، والمراد هو وغيره { في شأن } من جميع الشؤون { وما تتلوا نه } الضمير عائد على { شأن } أي فيه وبسببه من قرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير على جميع القرآن ، ثم عم بقوله { ولا تعملون من عمل } وفي قوله { إلا كنا عليكم شهوداً } ، تحذير وتنبيه ، و { تفيضون } تنهضون بجد ، يقال : أفاض الرجل في سيره وفي حديثه ، ومنه الإفاضة في الحج ومفيض القداح{[6146]} ، ويحتمل أن «فاض » عدي بالهمزة ، و { يعزب } معناه : يغيب حتى يخفى حتى قالوا للبعيد : عازب ، ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل ] : الطويل ]
عوازب لم تسمع نبوح مقامه*** ولم تر ناراً تم حول مجرم{[6147]}
وقيل للغائب عن أهله : عازب حتى قالوه لمن لا زوجة له ، وفي السير أن بيت سعد بن خيثمة كان يقال : بيت العزاب ، وقرأ جمهور السبعة والناس «يعزُب » يضم الزاي ، وقرأ الكسائي وحده منهم : «يعزِب » بكسرها وهي قراءة ابن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف ، قال أبو حاتم : القراءة بالضم ، والكسر لغة ، و «المثقال » : الوزن ، وهو اسم ، لا صفة كمعطار ومضراب والذر : صغار النمل ، جعلها الله مثالاً إذ لا يعرف في الحيوان المتغذي المتناسل المشهور النوع والموضع أصغر منه ، وقرأ جمهور الناس وأكثر السبعة : «ولا أصغرَ ولا أكبرَ » بفتح الراء عطفاً على { ذرة } في موضع خفض لكن منع من ظهوره امتناع الصرف ، وقرأ حمزة وحده : «ولا أصغر ولا أكبر » عطفاً على موضع قوله { مثقال } ، لأن التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ، و «الكتاب المبين » : اللوح المحفوظ ، كذا قال بعض المفسرين ، ويحتمل أن يريد تحصيل الكتبة ، ويكون القصد ذكر الأعمال المذكورة قبل ، وتقديم «الأصغر » في الترتيب جرى على قولهم : القمرين والعمرين ، ومنه قوله تعالى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة }{[6148]} والقصد بذلك تنبيه الأقل وأن الحكم المقصود إذ وقع على الأقل فأحرى أن يقع على الأعظم .