قوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الآية .
لمَّا أورد الدلائل على فساد مذاهب الكُفَّار ، وأمر الرسول بالجواب عن شبهاتهم ، وتحمُّل أذاهُم ، والرِّفْقِ بهم ، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمامُ السُّرور للمُطيعين ، وتمامُ الخوف للمذنبين ، وهو كونه تعالى عالماً بعمل كل واحدٍ ، وما في قلبه من الدَّواعي والصَّوارف .
قوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ } " ما " نافية في الموضعين ؛ ولذلك عطف بإعادة " ما " النَّافية ، وأوجب ب " إلا " بعد الأفعال ؛ لكونها منفيةٌ ، و " فِي شَأنٍ " خبر " تكُون " والضميرُ في " منه " عائدٌ على " شأن " و " مِن قُرآنٍ " تفسيرٌ للضَّمير ، وخُصَّ من العموم ؛ لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شئونه صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : يعود على التنزيل ، وفُسِّر بالقرآن ؛ لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن ، وقال أبو البقاء : " من الشَّأن " أي : مِنْ أجْلِهِ ، و " مِنْ قُرآن " مفعول " تَتْلُوا " و " مِنْ " زائدةٌ . يعنى : أنَّها زيدتْ في المفعول به ، و " مِنْ " الأولى جارَّةٌ للمفعول من أجله ، تقديره : وما تتلُو من أجل الشَّأنِ قُرآناً ، وزيدَتْ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ ، والمجرور نكرةٌ .
وقال مكِّي : " منه " الهاء عند الفرَّاء تعُود على الشَّأن على تقدير حذف مضافٍ ، تقديره : وما تتلو من أجْلِ الشَّأنِ ، أي : يحدثُ لك شأنٌ ، فتتلُوا القرآن من أجله .
والشَّأنُ : مصدر شَأنَ يَشْأنُ شأنَهُ ، أي : قصد يَقْصِدُ قَصْدَهُ ، وأصله الهمز ، ويجوز تخفيفه ، والشأن أيضاً : الأمرُ ، ويجمعُ على شئون ، والشأنُ : الحال ، تقول العرب : ما شأن فلان ؟ أي : ما حاله ، قال الأخفش : وتقول العرب : ما شأنْتُ شأنهُ ، أي : ما عملت عمله ، قال ابن عبَّاس : وما تكونُ يا محمَّدُ في شأن ، أي : في عملٍ من أعمالِ البِرِّ{[18510]} ، وقال الحسن : في شأن من شأن الدُّنْيَا{[18511]} .
قوله : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } هذا خطابٌ للنبي وأمَّتِهِ ، وخُصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب أوَّلاً ، ثم عُمِّمَ الخطاب مع الكلِّ ؛ لأنَّ تخصيصهُ وإن كان في الظَّاهر مُخْتَصّاً بالرسول ، إلاَّ أنَّ الأمَّة داخلُون فيه ؛ لأنَّ رئيس القوم إذا خُوطب دخل قومُهُ في ذلك الخطاب ؛ كقوله : { يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } [ الطلاق : 1 ] .
قوله : " إِلاَّ كُنَّا " هذه الجملةُ حاليةٌ ، وهو استثناء مفرَّغ ، ووليَ " إلا " هنا الفعلُ الماضي دون " قَدْ " لأنَّه قد تقدَّمها فعلٌ ، وهو مُجَوِّزٌ لذلك ، وقوله : " إذْ " هذا الظرفُ معمول ل " شُهُوداً " ولمَّا كانت الأفعالُ السَّابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدَّائمةُ ، وتنسحبُ على الأفعالِ الماضيةِ ، كان الظَّرفُ ماضياً ، وكان المعنى : وما كنت ، وما تكون ، وما عملتم ، إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً ، إلاَّ أفضتُم فيه ، و " إذ " تُخَلِّصُ المضارع لمعنى الماضي ، ومعنى " تُفِيضُونَ " أي : تدخلون فيه وتفيضون ، والإفاضة : الدُّخُول في العملِ ، يقال : أفاض القوم في الحديث ؛ إذا اندفعُوا فيه ، وقد أفَاضُوا من عرفة ؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم .
فإن قيل : " إذ " ههنا بمعنى : " حين " ، فيصير التقدير : إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً حين تفيضون فيه ، وشهادة الله - تعالى - عبارة عن علمه ؛ فيلزم منه أنَّه - تعالى - ما علم الأشياءَ إلاَّ عند وجودها ، وذلك باطلٌ .
فالجواب : أنَّ هذا السُّؤال بناءً على أن شهادة الله عبارةٌ عن علمه ، وهذا ممنوعٌ ؛ فإنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ عند المشهود عليه ، أمَّا العلم فلا يمتنع تقدُّمه على الشَّيءِ ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الرسول لو أخبرنا عن زيدٍ أنَّهُ يأكل غداً ، كنا من قبل حُصُول تلك الحالةِ عالمين بها ، ولا نُوصفُ بكوننا شاهدين بها .
قوله - تعالى - : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } قرأ الكسائيُّ{[18512]} هنا ، وفي سبأ [ سبأ 3 ] : " يَعْزِب " بكسر الزَّاي ، والباقون بضمها ، وهما لغتان في مضارع " عَزَبَ " ، يقال : عَزَب يَعْزِب ويَعْزُب . أي : غَابَ حَتَّى خَفِي ، ومنه الروض العازبُ ؛ قال أبو تمام : [ الطويل ]
وقَلْقلَ نأيٌ مِنْ خُراسانَ جَأشهَا *** فقُلْتُ : اطمئنِّي ، أنْضَرُ الرَّوضِ عازبُهْ{[18513]}
وقيل للغائب عن أهله : " عازِب " ، حتَّى قالوا لِمَنْ لا زوج له : عازب . وقال الرَّاغب : " العازِبُ : المُتباعدُ في طلب الكلأ ، ويقال : رجل عزبٌ وامرأة عزبةٌ ، وعزبَ عند حلمه ، أي : غاب ، وقوم مُعزَّبُون ، أي : عَزبتْ عنهم إبلُهُم " وفي الحديث : " مَنْ قرأ القرآن في أربعين يوماً ، فقد عزَّب " ، أي : فقد بعُد عهدُه بالختمة ، وقال قريباً منه الهرويُّ ، فإنَّه قال : " أي : بعد عهده بما ابتدأ منه ، وأبْطَأ في تلاوته ، وفي حديث أم معبد : " والشَّاءُ عازبٌ حيال " .
قال : والعَازِبُ : البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى ، والحَائِلُ : التي ضربها الفَحْلُ ، فلمْ تَحْمل لِجُدوبَةِ السَّنة ، وفي الحديث أيضاً : " أصْبَحْنَا بأرضٍ عزوبَةٍ صَحْراءَ " ، أي : بعيدةِ المرعى . ويقال للمالِ الغائب : عازِب ، وللحاضر : عاهن ، والمعنى في الآية : وما يَبْعُد ، أو ما يَخْفَى ، أو ما يغيبُ عن ربِّك .
و " مِن مِّثْقَالِ " فاعل ، و " مِنْ " : مزيدةٌ فيه ، أي : ما يبعد عنه مثقالُ ، والمثقالُ هنا : اسمٌ لا صفةٌ ، والمعنيُّ به الوزنُ ، أي : وزن ذرَّة ، ومثقال الشَّيءِ : ما يُساويهِ في الثِّقل ، والمعنى : ما يساوي ذرَّة ، والذرُّ : صغارُ النَّملِ واحدها ذرَّة ، وهي تكون خفيفة الوزن جدَّاً .
فإن قيل : لِمَ قدَّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء ، مع أنَّهُ قال في سبأ : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ سبأ : 3 ] ؟
فالجواب : حقُّ السَّماءِ أن تقدَّم على الأرض ، إلاَّ أنه - تعالى - لمَّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ، ثم وصل بذلك قوله : لا يعزُب عنه ؛ ناسب أن تقدم الأرض على السَّماء في هذا الموضع .
قوله : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ } قرأ حمزة{[18514]} : برفع راء " أصغر " و " أكبر " ، والباقون : بفتحها .
أحدهما : - وعليه أكثر المعربين - أنَّهُ جرٌّ ، وإنما كان بالفتحةِ ؛ لأنَّه لا ينصرف للوزن والوصف ، والجرُّ لأجْلِ عطفه على المجرور ، وهو : إمَّا " مِثْقَالُ " ، أو " ذَرَّةٍ " .
وأمَّا الوجه الثاني : فهو أنَّ " لا " نافيةٌ للجنس ، و " أصْغَرَ " و " أكْبَرَ " اسمها ، فهما مبنيَّان على الفتح .
أشهرهما عند المعربين : العطفُ على محلِّ " مثقال " إذ هو مرفوعٌ بالفاعليَّة ، و " مِنْ " مزيدة فيه ؛ كقولك : " مَا قَامَ مِنْ رجُلٍ ولا امرأةٍ " بجرِّ " امرأة " ورفعها .
والثاني : أنَّهُ مبتدأ ، قال الزمخشري{[18515]} : والوجهُ النَّصْبُ على نفي الجنس ، والرَّفعُ على الابتداء ليكون كلاماً برأسه ، وفي العطف على محلِّ " مثقالُ ذرَّةٍ " ، أو على لفظ " مِثقال ذرَّةٍ " فتحاً في موضع الجرِّ ؛ لامتناع الصَّرف إشكالٌ ؛ لأنَّ قولك : " لا يعزُب عنه شيءٌ إلاَّ في كتاب " مشكل ؛ لأنَّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله ، ويصير التقدير : إلا في كتاب مبينٍ فيعزبُ ، وهو باطلٌ ، وهذان الوجهان اختيار الزَّجَّاج .
وقد يزول هذا الإشكالُ بما ذكره أبو البقاءِ : وهو أن يكون " إلاَّ في كتابٍ " استثناءً منقطعاً ، قال : " إلاَّ في كتابٍ ؛ أي : إلاَّ هو في كتابٍ ، والاستثناءُ منقطع " .
قال ابن الخطيب{[18516]} : " أجاب بعضُ المحقِّقين من وجهين :
والآخر : أن العُزُوب عبارةٌ عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسمان :
أحدهما : قسمٌ أوجده الله ابتداءً من غير واسطةٍ ، كالملائكةِ ، والسماواتِ ، والأرضِ .
وقسمُ أوجدهُ بواسطةِ القسم الأوَّلِ ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعدُ في سلسلة العلِّية والمعلُوليَّة عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرَّة في الأرض ، ولا في السماء ، إلا وهو في كتاب مبين كتبه الله ، وأثبت فيه صور تلك المعلومات " .
قال شهاب الدين : " فقد آل الأمرُ إلى أنَّهُ جعله استثناء مفرَّغاً ، وهو حالٌ من " أصْغَرَ " و " أكبر " ، وهو في قوَّة الاستثناء المتَّصل ، ولا يقال في هذا : إنَّه متَّصلٌ ولا منقطع إذ المُفرَّغُ لا يقال فيه ذلك .
وقال الجرجانيُّ : " إلاَّ " بمعنى : " الواو " ، والتقدير : " وما يعزُب عن ربِّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء ولا أصْغر من ذلك ولا أكبر " وههنا تمَّ الكلام وانقطع ، ثم ابتدأ بقوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : وهو في كتاب مبين ، والعربُ تضعُ " إلاًَّ " موضع واو النَّسق ؛ كقوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ البقرة : 150 ] . وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً ، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة ، وأنَّهُ شيءٌ قال به الأخفش ، ولم يثبُتْ ذلك بدليلٍ صحيح .
وقال أبو شامة : ويزيل الإشكال أن تُقدَّر قبل قوله : " إلاَّ في كتاب " " ليس شيء من ذلك إلاَّ في كتاب " وكذا تقدر في آية الأنعام [ الأنعام : 59 ] .
ولم يقرأ في سبأ إلا بالرفع ، وهو يقوي قول من يقول : إنَّه معطوفٌ على " مِثْقَال " ، ويُبَيِّنه أن " مثقال " فيها بالرَّفع ؛ إذ ليس قبله حرفُ جرٍّ . وقد تقدَّم الكلامُ على نظير هذه المسألة في سورة الأنعام ، في قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } [ الأنعام : 59 ] إلى قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] وأنَّ صاحب النَّظم الجرجانيَّ أحال الكلام فيها على الكلامِ في هذه السورة ، وأنَّ أبا البقاء قال : " لوْ جعَلْنَاهُ كذا ، لفسد المعنى " . وتقدَّم بيانُ فساده ، والجواب عنه هناك ، فالتفت إليه [ الأنعام : 59 ] .