فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ} (61)

قوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نافية ، والشأن : الأمر بمعنى القصد ، وأصله الهمز ، وجمعه شؤون . قال الأخفش : تقول العرب : ما شأنت شأنه : أي ما عملت عمله : { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآن } قال الفراء والزجاج : الضمير في منه يعود على الشأن ، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف : أي تلاوة كائنة منه ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى : أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدّث القرآن ، فيعلم كيف حكمه ، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن . وقال ابن جرير الطبري : الضمير عائد في منه إلى الكتاب : أي ما يكون من كتاب الله من قرآن ، وأعاده تفخيماً له كقوله : { إنني أَنَا الله } ، والخطاب في { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } لرسول الله وللأمة ، وقيل : الخطاب لكفار قريش { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُم شُهُوداً } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال للمخاطبين : أي شهوداً عليكم بعمله منكم ، والضمير . في فيه من قوله : { تُفِيضُونَ فِيهِ } عائد على العمل ، يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل : إذا اندفع فيه . وقال الضحاك : الضمير في فيه عائد على القرآن . والمعنى : إذ تشيعون في القرآن الكذب .

قوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَبكَ مِن مثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء } قرأ الكسائي «يعزب » بكسر الزاي ، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان ، ومعنى يعزب : يغيب ، وقيل يبعد .

وقال ابن كيسان : يذهب ، وهذه المعاني متقاربة ، ومن في { مِن مّثْقَالِ } زائدة للتأكيد : أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة . أي : نملة حمراء ، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ، لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما ، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات ، وقدّم الأرض على السماء ؛ لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب ، والواو في { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } لعطف على لفظ مثقال ، وانتصبا لكونهما ممتنعين ، ويجوز أن يكون العطف على ذرة ؛ وقيل : انتصابهما بلا التي لنفي الجنس ، والواو للاستئناف ، وليس من متعلقات وما يعزب ، وخبر لا { إِلاَّ فِي كتاب } والمعنى : ولا أصغر من مثقال الذرّة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين ، فكيف يغيب عنه ؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر ، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال ، ومحله الرفع ، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله ، أو على لفظ ذرّة إشكال ، وهو أنه يصير تقدير الآية : لا يعزب عنه شيء في الأرض ، ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال . وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة ، كخلق الملائكة والسموات والأرض ؛ وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأوّل من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأوّل ، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده ، سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات ، والغرض : الردّ على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات . وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع : أي لكن هو في كتاب مبين . وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو ، على أن الكلام قد تمّ عند قوله : { وَلا أَكْبَرَ } ثم وقع الابتداء بقوله : { إِلاَّ فِي كتاب مُبِينٍ } أي : وهو أيضاً في كتاب مبين . والعرب قد تضع إلا موضع الواو ، ومنه قوله تعالى : { إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ } يعني : ومن ظلم ، وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } أي : والذين ظلموا ، وقدّر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها ، كما في قوله : { وَقُولُواْ حِطَّة } أي : هي حطة ، ومثله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ } . وقال الزجاج : إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع ، وخبره : { إِلاَّ فِي كتاب } واختاره صاحب الكشاف ، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس ، واستشكل العطف بنحو ما قدّمنا .

/خ64