إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ} (61)

{ وَمَا تَكُونُ في شَأْنٍ } أي في أمر ، من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ } الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هي معظمُ شؤونِه عليه السلام أو للتنزيل ، والإضمارُ قبل الذكر لتفخيم شأنِه ، ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى : { مِن قُرْآنٍ } مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } تعميمٌ للخطاب إثرَ تخصيصِه بمقتضى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما لا يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها حال من الأحوال إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي تخوضون وتندفعون فيه ، وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة ، وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي { وَمَا يَعْزُبُ عَن ربّكَ } أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل ، وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرىء بكسر الزاءِ { مِن مثْقَالِ ذَرَّةٍ } كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيد النفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً { فِي الأرض وَلاَ في السماء } أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس في أحدهما أو متعلِّقاً بهما ، وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى : { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ في كِتَابٍ مُّبِينٍ } كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله ولا نافيةٌ للجنس وأصغرَ اسمُها وفي كتاب خبرُها وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر [ في كتاب ] . ومن عطفَ على لفظ مثقالِ ذرةٍ وجعل الفتحَ بدلَ الكسرِ لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعلَ الاستثناءَ منقطعاً كأنه قيل : لا يعزُب عن ربك شيءٌ ما ، لكنْ جميعُ الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزُب عنه شيٌ منها ؟ وقيل : يجوز أن يكون الاستثناءُ متصلاً ويعزُب بمعنى يَبينُ ويصدُر والمعنى لا يصدُر عنه تعالى شيءٌ إلا وهو في كتابٌ مبين . والمراد بالكتاب المبين اللوحُ المحفوظ .