فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأۡنٖ وَمَا تَتۡلُواْ مِنۡهُ مِن قُرۡءَانٖ وَلَا تَعۡمَلُونَ مِنۡ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيۡكُمۡ شُهُودًا إِذۡ تُفِيضُونَ فِيهِۚ وَمَا يَعۡزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثۡقَالِ ذَرَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَآ أَصۡغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرَ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٍ} (61)

{ وما تكون في شأن } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما نافية والشأن الأمر بمعنى القصد وجمعه شئون قال الأخفش : تقول العرب ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله ، وما قصدت قصده فهو مصدر بمعنى المفعول .

{ وما تتلو منه من القرآن } قال الفراء والزجاج : الضمير يعود على الشأن والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة منه ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شئونه صلى الله عليه ، والمعنى أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدث القرآن فيعلم كيف حكمه أو يتلو القرآن الذي في ذلك الشأن وقال ابن جرير الطبري : الضمير في منه عائد إلى الكتاب أي ما يكون من كتاب الله من قرآن وأعاده تفخيما له كقوله : { إني أنا الله } وقيل ما تتلو من الله من قرآن نازل عليك فمن الثانية زائدة والأولى إما تعليلية أو ابتدائية بحسب الوجهين المتقدمين .

والخطاب في : { ولا تعملون من عمل } لرسول الله وللأمة ن وقيل الخطاب لكفار قريش { إلا كنا عليكم شهودا } استثناء مفرغ من أعم الأحوال للمخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له ، يقال شهدت على الشيء اطلعت عليه فأنا شاهد وشهيد والجمع إشهاد وشهود .

والضمير في { إذ تفيضون فيه } عائد إلى العمل يقال أفاض فلان في الحديث والعمل إذا اندفع فيه ، وقال الضحاك الضمير في { فيه } عائد إلى القرآن والمعنى إذ تشيعون في القرآن الكذب ، والإفاضة الدخول في العمل على جهة الانتصاب إليه والانبساط فيه .

قال ابن الأنباري : إذ تدفعون فيه وتبسطون في ذكره وقيل الإفاضة الدفع بكثرة وقال الزجاج : تنشرون فيه ، وقيل تخوضون فيه ، وقيل تأخذون أي تشرعون فيه والمعاني متقاربة .

{ وما يعزب } أي يغيب ويخفى ، وقيل يبعد ، وقال ابن كيسان : يذهب وهذه المعاني متقاربة قرئ بضم الزاي وبكسرها سبعيتان وهما لغتان فصيحتان { عن ربك } أي عن علمه ومن في { من مثقال ذرة } زائدة للتأكيد أي وزن ذرة أي نملة حمراء وهي خفيفة الوزن جدا { في الأرض ولا في السماء } أي في دائرة الوجود والإمكان وإنما عبر عنها بهما مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهم لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات وقدم الأرض على السماء لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب .

{ ولا أصغر من ذلك } أي من مثقال ذرة كلام برأسه مقرر لما قبله ولا نافية للجنس { ولا أكبر } منها { إلا } وهو { في كتاب مبين } فكيف يغيب عنه وهو الكتاب الذي عند الله يعني اللوح المحفوظ قاله السدي : وقد أورد على توجيه النصب والرفع في أصغر وأكبر على العطف على لفظ مثقال ومحله أو على لفظ ذرة إشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وهو محال .

وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسماوات والأرض ، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في السلسلة العلية عن مرتبة الأول .

فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات والغرض الرد على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات .

وأجيب أيضا بأن الاستثناء منقطع أي لكن هو في كتاب مبين ، وذكر أبو علي الجرجاني أن إلا بمعنى الواو أي وهو أيضا في كتاب مبين ، والعرب قد تضع إلا موضع الواو ومنه قوله تعالى : { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم } يعني ومن ظلم وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } أي والذين ظلموا وقدر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها كما في قوله : { وقولوا حطة } أي هي حطة .

قال الكرخي : وهذا الوجه فيه تعسف ومثله قوله : { ولا تقولوا ثلاثة } { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .

وجوز الكواشي كونه متصلا مستثنى من { يعزب } على أن معناه يبين ويصدر ، والمعنى لا يصدر عن الله شيء بعد خلقه له إلا وهو في كتاب وقال الكلبي : قد حاول الرازي جعله متصلا بعبارة طويلة محصلها أنه جعله استثناء مفرغا وهو حال من أصغر وأكبر ، وهو في قوة المتصل ، ولا يقال فيه متصل ولا منقطع .