قوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } . يعني : المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن يرضعن ، خبر بمعنى الأمر ، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب ، لأنه لا يجب عليهن الإرضاع إذا كان يوجد من ترضع الولد لقوله تعالى في سورة الطلاق : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) فإن رغبت الأم في الإرضاع فهي أولى من غيرها .
قوله تعالى : { حولين كاملين } . أي سنتين ، وذكر الكمال للتأكيد كقوله تعالى : ( تلك عشرة كاملة ) وقيل إنما قال كاملين لأن العرب قد تسمي بعض الحول حولاً وبعض الشهر شهراً كما قال الله تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) ، وإنما هو شهران وبعض الثالث وقال : ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) ، وإنما يتعجل في يوم وبعض يوم ، ويقال : أقام فلان بموضع كذا حولين ، وإنما أقام به حولاً وبعض آخر ، فبين الله تعالى أنهما حولان كاملان ، أربعة وعشرون شهراً ، واختلف أهل العلم في هذا الحد ، فمنهم من قال : هو حد لبعض المولودين ، فروى عكرمة وابن عباس رضي الله عنهما أنها إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين ، وإن وضعته لسبعة أشهر فإنها ترضعه ثلاثة وعشرين شهراً ، وإن وضعت لتسعة أشهر فإنها ترضعه أحدا وعشرين شهراً ، وإن وضعت لعشرة أشهر فإنها ترضعه عشرين شهراً ، كل ذلك تمام ثلاثين شهراً لقوله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) . وقال قوم : هو لكل مولود بأي وقت ولد ، لا ينقص رضاعه عن حولين إلا باتفاق الأبوين ، فأيهما أراد الفطام قبل تمام الحولين ليس له ذلك إلا أن يجتمعا عليه ، لقوله تعالى : { فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور } وهذا قول ابن جريج و الثوري ، ورواية الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقيل : المراد من الآية : بيان أن الرضاع الذي تثبت به الحرمة ما يكون في الحولين ، فلا يحرم ما يكون بعد الحولين ، قال قتادة : فرض الله على الوالدات إرضاع حولين كاملين ، ثم أنزل التخفيف فقال :
قوله تعالى : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } . أي هذا الرضاعة وليس فيما دون ذلك حد محدود وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به .
قوله تعالى : { وعلى المولود له } . يعني الأب .
قوله تعالى : { رزقهن } . طعامهن .
قوله تعالى : { وكسوتهن } . لباسهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . أي على قدر الميسرة .
قوله تعالى : { لا تكلف نفس إلا وسعها } . أي طاقتها .
قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها } . قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، " برفع الراء " نسقاً على قوله ( لا تكلف ) وأصله ( تضار ) فأدغمت الراء في الراء ، وقرأ الآخرون تضار " بنصب الراء " ، قالوا : لما أدغمت الراء في الراء ، حركت إلى أخف الحركات وهو النصب ، ومعنى الآية لا تضار والدة بولدها فينزع الولد منها إلى غيرها بعد فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه .
قوله تعالى : { ولا مولود له بولده } . أي لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها ، تضاره بذلك ، وقيل معناه : لا تضار والدة فتكره على إرضاعه إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصبي من غيرها ، لأن ذلك ليس بواجب عليها ( ولا مولود له بولده ) فيحتمل أن تعطى الأم أكثر مما يجب لها إذا لم يرتضع من غيرها . فعلى هذين القولين أصل الكلمة لا تضارر بفتح الراء الأولى على الفعل المجهول ، والوالدة والمولود له مفعولان ، ويحتمل أن يكون الفعل لهما ، وتكون تضار بمعنى تضارر بكسر الراء الأولى على تسمية الفاعل ، والمعنى لا تضار والدة فتأبى أن ترضع ولدها ليشق على أبيه ( ولا مولود له ) أي لا يضار الأب أم الصبي ، فينزعه منها ويمنعها من إرضاعه ، وعلى هذه الأقوال يرجع الإضرار إلى الوالدين يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد ، ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي ، أي لا يضار كل واحد منهما الصبي ، ولا ترضعه الأم حتى يموت ، أو لا ينفق الأب أو ينتزعه من الأم حتى يضر بالصبي ، فعلى هذا تكون الباء زائدة ومعناه : لا تضار والدة ولدها ، ولا أب ولده ، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسرين .
قوله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } . اختلفوا في هذا الوارث ، فقال قوم : هو وارث الصبي ، معناه : وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حال حياته ، ثم اختلفوا في أنه ، أي وارث هو ؟ من ورثته ؟ فقال بعضهم : هو عصبة الصبي من الرجال مثل : الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وبه قال إبراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وهو مذهب سفيان قالوا : إذا لم يكن للصبي ما ينفق عليه أجبرت عصبته الذين يرثونه على أن يسترضعوه ، وقيل : هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وقالوا : يجبر على نفقته كل وارث قدر ميراثه ، عصبة كانوا أو غيرهم . وقال بعضهم : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ، فمن ليس بمحرم مثل : ابن العم والمولى فغير مراد بالآية ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، وذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث : هو الصبي نفسه ، الذي هو وارث أبيه المتوفى ، يكون أجرة رضاعه ونفقته في ماله ، فإن لم يكون له مال فعلى الأم ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله ، وقيل : هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر ، عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة . وقيل : ليس المراد منه النفقة ، بل معناه : وعلى الوارث ترك المضارة ، وبه قال الشعبي والزهري .
قوله تعالى : { فإن أراد } . يعني الوالدين .
قوله تعالى : { فصالا } . فطاماً قبل الحولين .
قوله تعالى : { عن تراض منهما } . أي اتفاق من الوالدين .
قوله تعالى : { وتشاور } . أي يشاورون أهل العلم به حتى يخبروا أن الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد ، والمشاورة استخراج الرأي .
قوله تعالى : { فلا جناح عليهما } . أي لا حرج عليهما في الفطام قبل الحولين .
قوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } . أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم ، أو تعذر لعلة بهن ، أو انقطاع لبن ، أو أردن النكاح .
قوله تعالى : { فلا جناح عليكم إذا سلمتم } . إلى أمهاتهم .
قوله تعالى : { ما آتيتم } . ما سميتم لهن من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن ، وقيل إذا سلمتم أجور المراضع إليهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . قرأ ابن كثير : ما آتيتم : وفي الروم " وما آتيتم من ربا " بقصر الألف ، ومعناه ما فعلتم يقال : أتيت جميلاً إذا فعلته ، فعلى هذه القراءة يكون التسليم بمعنى الطاعة والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني إذا سلمتم لأمره ، وانقدتم لحكمه ، وقيل : إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار .
قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير } .
وبعد أن بين - سبحانه - حقوق الزوجين في حالتي اجتماعهما وافتراقهما ، أردف ذلك ببيان حقوق الأطفال الذين يكونون ثمرة لهذا الزواج . فقال تعالى :
{ والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ . . . }
المراد بالوالدات الأمهات سواء أكن في عصمة أزواجهن أم مطلقات لأن اللفظ عام في الكل ولا يوجد ما يقتضي تخصيصه بنوع من الأمهات . ويرى بعض المفسرين أن المراد بالوالدات هنا خصوص المطلقات لأن سياق الآيات قبل ذلك في أحكام الطلاق ، ولأن المطلقة عرضة لإهمال العناية بالولد وترك إرضاعه .
وحولين أي عامين . وأصل الحول - كما يقول الرغاب - تغير الشيء وانفصاله عن غيره .
والحول : السنة اعتباراً بانقلابها ودروان الشمس في مطالقعها ومغاربها . قال - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } ومنه حالت السنة تحول وحالت الدار تغيرت ، وأحال فلان بمكان كذا أي أقام به حولا " .
وعبر عن الأمهات بالوالدات ، للإِشارة إلى أنهن اللائي ولدن أولادهن ، وأنهن الوعاء الذيب خرجوا منه إلى الحياة ، ومنهن يكون الغذاء الطبيعي المناسب لهذا المولود الذي جاء عن طريقهن .
وقوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } جملة خبرية اللفظ إنشائية المعنى ، إذ التقدير ليرضعن . أي : عليهن إرضاع أولادهن .
وعبر عن الطلب بصيغة الخبر ، للإِشعار بأن إرضاع الأم لطفلها عمل توجبه الفطرة ، وتنادي به طبيعة الأمومة .
قال الجمل : وهذا الأمر للندب وللوجوب ، فهو يكون للندب عند استجماع شروط ثلاثة ، قدرة الأب على استئجار المرضع ، ووجود من يرضعه غير الأم ، وقبول الولد للبن الغير . ويكون للوجوب عند فقد أحد هذه الشروط .
وليس التحديد بالحولين للوجوب ، لأنه يجوز الفطام قبل ذلك ، بدليل قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وإنما المقصود بهذا التحديث قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع ، فإذا اتفق الأب والأم على أن يفطما ولدهما قبل تمام الحولين كان لهما ذلك إذا لم يتضرر الولد بهذا الفطام ، وإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم أو العكس لم يكن لأحدهما ذلك .
قال القرطبي ما ملخصه : وقد انتزع مالك - رحمه الله - ومن تابه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين ، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة ، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة . . لقوله - تعالى - : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " وهذا الخبر مع الآية ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له . وقد روى عن عائشة القول به ، وروى عن ابن أبي موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع كبير . وروى عنه الرجوع عنه . وسيأتي تحقيق هذه المسألة في سورة النساء .
وفي وصف الحولين بكاملين : تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولا وبعض الثاني ، لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان على بعض المدلول إطلاق شائع عند العرب .
فيقولون : هو ابن سنتين ، ويريدون سنة وبعض الثانية .
وفي هذه الجملة الكريمة { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } بيان لمظهر من مظاهر رعاية الله - تعالى - للإِنسان منذ ولادته ، بل منذ تكوينه في بطن أمه جنبناً ، فقد أمر لطفلها في هذه الفترة ، وأسلم وسيلة لضمان صحته ونموه ، ولصيانته من الأمراض النفسية والعقلية ، فقد أثبت الأطباء الثقاة أن الطفل كثيراً ما يصاب بأمراض جسمية ونفسية وعقلية نتيجة رضاعته من غير أمه ، كما أثبتوا أن عناية الأم بطفلها في هذه الفترة عن طريق إرضاعه ورعايته ، تؤدي إلى تحسن أحواله . . .
وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } بيان لمن توجه إليه الحكم . أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع ، فإذا أراد الأبوان أن ينقصا مدة الرضاع عن الحولين كان لهما ذلك . فالجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الحكم لمن أراد أن يتم مدة الرضاعة .
وقوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } بيان لما يجب على الآباء .
أي : وعلى الآباء أن يقدموا إلى الوالدات ما يلزمهنم من نفقة وكسوة بالمعروف أي بالطريقة التي تعارف عليها العقلاء بدون إسراف أو تقتير .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل { المولود لَهُ } دون الوالد ؟ قلت : ليلعم أن الوالدات إنما ولدن لهم ، لأن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات ، كما قال المأمون بن الرشيد :
فإنما أمهات الناس أوعية . . . مستودعات وللآباء أبناء
فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله - تعالى - : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً . . . } وقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف . أو تفسير للمعروف ولهذا فصلت هذه الجملة عن سابقتها ، وقوله { وُسْعَهَا } منصوب على أنه مفعول ثان لتكلف ، والاستثناء قبله مفرغ أي أن الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا بالقدر الذي تتسع له مقدرته بدون إرهاق أو مشقة .
وتلك هي سنة الإِسلام في جميع تكاليفه ، فالله - تعالى - ما كلف عباده إلا بما يستطيعونه ويطيقونه بدون عسر أو عنت قال - تعالى - : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } تعليل للأحكام السابقة الموزعة بين الأب والأم ، والتي أساسها رعاية حق هذا الوليد الذي أتى عن طريقهما .
والمضارة مفاعلة من الضرر ، والمعنى : لا ينبغي أن يقع ضرر على الأم بسبب ولدها ، بأن يستغل الأب حنوها على وليدها فيمنعها شيئاً من نفقتها ، أو يأخذ منها طفلها وهي تريد إرضاعه ، أو يكلفها بما ليس في مقدروها أو ما يخالف وظيفتها ، ولا ينبغي كذلك أن يقع ضرر على الأب بسبب ولده ، بأن تكلفه الأم بما لا تتسع له قدرته مستغلة محبته لولده وعنايته بتنشئته تنشئة حسنة .
قال الجمل : { لاَ } في قوله : { لاَ تُضَآرَّ } يحتمل أن تكون نافية فيكون الفعل مرفوعاً ، ويحتمل أن تكون ناهية فيكون الفعل مجزوماً ، وقد قرئبهما في السبع ، وعلى كل يحتمل أن يكون الفعل مبنياً للفاعل وللمفعول " .
والمعنى على الاحتمالين واحد وهو أنه لا يجوز أن يضر كل واحد منهما صاحبه أو يُضر من صاحبه بسبب حنوه على ولده واهتمامه بشأنه .
وأضاف الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف ، وللتنبيه على أن هذا الولد الذي رزقهما الله إياه جدير بأن يتفقا على رعايته وحمايته من كل ما يؤذيه ، ولا يجوز مطلقاً أن يكون مصدر قلق لأي واحد منهما .
وقدمت الأم في الجملة الكريمة ، لأن الشأن فيها أن يكون حنوها أشد ، وعاطفتها أرق ، ولأن مظنة إنزال العنف والأذى بها أقرب لضفعها عن الأب .
فالجملة الكريمة توجبه سديد ، وإرشاد حكيم ، للآباء والأمهات إلى أن يقوم كل فريق منهم بواجبه نحو صاحبه ونحو الأولاد الذين هم ثمار لهم .
وقوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } معطوف على قوله { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } الخ .
وما بينهما تعليل أو تفسير معترض .
أي : وعلى وارث الأب أو وارث الصبي - أي من سيرثه بعد موته - عليه مثل ما على الأب من النفقة وترك الإِضرار . فهذه الحملة الكريمة سيقت لبيان من تجب عليه نفقة الصبي إذا فقد أباه ، أو كان أبوه موجوداً ولكنه عاجز عن الإِنفاق عليه .
قال الآلوسي ما ملخصه : والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال . وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة . . وخلق كثير . وخص الإِمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي . . . وقال الشافعي وقال الشافعي المراد وارث الأب - يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب - وقيل المراد بالوارث الباقي من الأبوين ، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله عليه وسلم " اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني " وعلى أية حال فالجملة الكريمة تغرس معاني الإِخاء والتراحم والتكافل بين أبناء الأسرة الواحدة ، فالقادر ينفق على العاجز ، والغين يمد الفقير بحاجته ، وبذلك تسعد الأسرة ، وتسودها روح المحبة والمودة .
وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } معطوف على قوله { يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } لأنه متفرع عنه .
والضمير في قوله { فَإِنْ أَرَادَا } يعود على الوالدين .
قال القرطبي : والفصال والفصل . الفطام وأصله التفريق ، فهو تفريق بين الصبي والثدي .
ومنه سمي الفصيل - لولد الضأن - لأنه مفصول عن أمه . والتشاور : استخراج الرأي - بما فيه المصلحة - وكذلك المشاورة . من الشور وهو اجتناء العسل . يقال شرت العسل - إذا استخرجته من مواضعه - والشوار : متاع البيت لأنه يظهر للناظر . والشارة هيئة الرجل . والإِشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره .
والمعنى : فإن أراد الأبوان فطاماً لولدهما قبل الحولين ، وكان هذه الإرادة عن تراض منهما وتشاور في شأن الصبي وتفحص لأحواله ، ورأيا أن هذا الفطام قبل بلوغه الحولين لن يضره فلا إثم عليهما في ذلك .
وقال بعضهم : وأيضاً لا إثم عليهما إذا فطماه بعد الحولين متى رأيا المصلحة في ذلك ، وقد قيد - سبحانه - هذا الفطام للصبي بكونه عن تراض من الأبوين وتشاور منهما ، رعاية لمصلحة هذا الصبي ، لأن رضا أحدهما فقد قد يضره ، بأن تمل الأم الإِرضاع أو يبخل الأب بالإِنفاق . ولأن إقدام أحدهما على الفطام بدون التشاور مع صاحبه قد يؤثر في صحة الصبي تأثيرا سيئاً .
لذا أوجب - سبحانه - التراضي والتشاور فيما بينهما من أجل مصلحة صبيهما .
ثم قال - تعالى - : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف } .
أي : وإن أردتم - أيها الآباء - أن تسترضعوا مراضع لأولادكم ، ورضى الأمهات بذلك ، فلا إثم عليكم فيما تفعلون ما دمتم تقصدون مصلحة أولادكم ، وعليكم أن تسلموا هؤلاء المراضع أجرهن بالطريقة التي يقرها الشرع ، وتستحسنها العقول السليمة ، والأخلاق القويمة .
واسترضع - كما يقول الزمخشري - منقول من أرضع . يقال : أرضعت المرأة الصبي ، واسترضعتها الصبي فهي متعدية إلى معفولين ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم . فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه .
وقوله { مَّآ آتَيْتُم } حذف مفعولاه أي آتيتموهن إياه . { بالمعروف } متعلق بسلمتم أي بالقول الجميل ، وبالوجه المتعارف المستحسن شرعاً . ويجوز أن يتعلق بآتيتم . وأن يكون حالا من فاعل سلمتم أو آتيتم والعامل فيه محذوف أي متلبسين بالمعروف .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
أي : اتقوا الله في كل شئونكم والتزموا ما بينه لكم من أحكام ، واعلموا أن الله - تعالى - لا تخفى عليه أعمالكم ، فهو محصيها عليكم ، وسيجزي المحسن إحساناً والمسيء سوءاً .
والحكم التالي يتعلق برضاع الأطفال بعد الطلاق . .
إن دستور الأسرة لا بد أن يتضمن بيانا عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الزوجين بعد الطلاق . علاقة النسل الذي ساهم كلاهما فيه ، وارتبط كلاهما به ؛ فإذا تعذرت الحياة بين الوالدين فإن الفراخ الزغب لا بد لها من ضمانات دقيقة مفصلة ، تستوفي كل حالة من الحالات :
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة . وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف . لا تكلف نفس إلا وسعها . لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده . وعلى الوارث مثل ذلك . فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما . وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم - إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف - واتقوا الله ، واعلموا أن الله بما تعملون بصير ) . .
إن على الوالدة المطلقة واجبا تجاه طفلها الرضيع . واجبا يفرضه الله عليها ولا يتركها فيه لفطرتها وعاطفتها التي قد تفسدها الخلافات الزوجية ، فيقع الغرم على هذا الصغير . إذن يكفله الله ويفرض له في عنق أمه . فالله أولى بالناس من أنفسهم ، وأبر منهم وأرحم من والديهم . والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ؛ لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل . . ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية . ولكن نعمة الله على الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم . فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده . وبخاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية .
وللوالدة في مقابل ما فرضه الله عليها حق على والد الطفل : أن يرزقها ويكسوها بالمعروف والمحاسنة ؛ فكلاهما شريك في التبعة ؛ وكلاهما مسؤول تجاه هذا الصغير الرضيع ، هي تمده باللبن والحضانة وأبوه يمدها بالغذاء والكساء لترعاه ؛ وكل منهما يؤدي واجبه في حدود طاقته :
ولا ينبغي أن يتخذ أحد الوالدين من الطفل سببا لمضارة الآخرة :
( لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده ) . .
فلا يستغل الأب عواطف الأم وحنانها ولهفتها على طفلها ، ليهددها فيه أو تقبل رضاعة بلا مقابل . ولا تستغل هي عطف الأب على إبنه وحبه له لتثقل كاهله بمطالبها . .
والواجبات الملقاة على الوالد تنتقل في حالة وفاته إلى وارثه الراشد :
فهو المكلف أن يرزق الأم المرضع ويكسوها بالمعروف والحسنى . تحقيقا للتكافل العائلي الذي يتحقق طرفه بالإرث ، ويتحقق طرفه الآخر باحتمال تبعات المورث .
وهكذا لا يضيع الطفل إن مات والده . فحقه مكفول وحق أمه في جميع الحالات .
وعندما يستوفى هذا الاحتياط . . يعود إلى استكمال حالات الرضاعة . .
( فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) . .
فإذا شاء الوالد والوالدة ، أو الوالدة والوارث ، أن يفطما الطفل قبل استيفاء العامين ؛ لأنهما يريان مصلحة للطفل في ذلك الفطام ، لسبب صحي أو سواه ، فلا جناح عليهما ، إذا تم هذا بالرضى بينهما ، وبالتشاور في مصلحة الرضيع الموكول اليهما رعايته ، المفروض عليهما حمايته .
كذلك إذا رغب الوالد في أن يحضر لطفله مرضعا مأجورة ، حين تتحقق مصلحة الطفل في هذه الرضاعة ، فله ذلك على شرط أن يوفي المرضع أجرها ، وأن يحسن معاملتها :
( وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ) . .
فذلك ضمان لأن تكون للطفل ناصحة ، وله راعية وواعية .
وفي النهاية يربط الأمر كله بذلك الرباط الإلهي . . بالتقوى . . بذلك الشعور العميق اللطيف الذي يكل إليه ما لا سبيل لتحقيقه إلا به :
هذا إرشاد من الله تعالى{[3991]} للوالدات : أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة ، وهي سنتان ، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ؛ ولهذا {[3992]} قال : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم .
قال{[3993]} الترمذي : " باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر{[3994]} دون الحولين " : حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام " . وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم : أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين ، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا . وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام ، وهي امرأة هشام بن عروة{[3995]} .
قلت : تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ، ورجاله على شرط الصحيحين ، ومعنى قوله : إلا ما كان في الثدي ، أي : في محل{[3996]} الرضاعة قبل الحولين ، كما جاء في الحديث ، الذي رواه أحمد ، عن وَكِيع وغندر ، عن شعبة ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال : لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن له مرضعًا{[3997]} في الجنة " . وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة{[3998]} وإنما قال ، عليه السلام ، ذلك ؛ لأن ابنه إبراهيم ، عليه السلام ، مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : " إن له مرضعًا في الجنة " يعني : تكمل رضاعه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني ، من طريق الهيثم بن جميل ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين " ، ثم قال : لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ{[3999]} .
قلت : وقد رواه الإمام مالك في الموطأ ، عن ثور بن زيد ، عن ابن عباس موقوفًا{[4000]} {[4001]} . ورواه الدراوردي عن ثور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وزاد : " وما كان بعد الحولين فليس بشيء " ، وهذا أصح .
وقال أبو داود الطيالسي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا رضاع بعد فصال ، ولا يُتْم بعد احتلام " ، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] . وقال : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] . والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن
علي ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وجابر ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وأم سلمة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والجمهور . وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبي يوسف ، ومحمد ، ومالك في رواية ، وعنه : أن مدته سنتان وشهران ، وفي رواية : وثلاثة أشهر . وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر ، وقال زفر بن الهذيل : ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين ، وهذا رواية عن الأوزاعي . قال مالك : ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم ؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام ، وهو رواية عن الأوزاعي ، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور ، سواء فطم أو لم يفطم ، ويحتمل أنهما أرادا الفعل ، كقول مالك ، والله أعلم .
وقد روي في الصحيح{[4002]} عن عائشة ، رضي الله عنها : أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه ، وكان كبيرًا ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأين{[4003]} ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور . وحجة الجمهور - منهم الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة ، والأكابر من الصحابة ، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة - ما ثبت في الصحيحين ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انظرْنَ من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة " {[4004]} . وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع ، وفيما يتعلق برضاع الكبير ، عند قوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ]
وقوله : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي : بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره ، كما قال تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] . قال الضحاك : إذا طلَّقَ [ الرجل ]{[4005]} زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده ، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف .
وقوله : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي : لا تدفعه{[4006]} عنها لتضر أباه بتربيته ، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ{[4007]} الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا ، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها . ولهذا قال : { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي : بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والزهري ، والسدي ، والثوري ، وابن زيد ، وغيرهم .
وقوله : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قيل : في عدم الضرار لقريبه {[4008]} قاله مجاهد ، والشعبي ، والضحاك . وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل ، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها ، وهو قول الجمهور . وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره . وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وجمهور السلف ، ويرشح ذلك بحديث الحسن ، عن سَمرة مرفوعًا : من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه{[4009]} .
وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت{[4010]} الولد إما في بدنه أو عقله ، وقد قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة : أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين . فقال : لا ترضعيه .
وقوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا في ذلك مصلحة له ، وتشاورا في ذلك ، وأجمعا{[4011]} عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤْخَذُ منه : أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره ، وهذا فيه احتياط للطفل ، وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله{[4012]} بعباده ، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [ الطلاق : 6 ] .
وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد{[4013]} إما لعذر منها ، أو عذر له ، فلا جناح عليهما في بذله ، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف . قاله غير واحد .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم .
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلّمْتُم مّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : والنساء اللواتي بنّ من أزواجهنّ ولهن وأولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق أو ولدنهم منهم بعد فراقهم إياهن من وطء كان منهم لهن قبل البينونة يرضعن أولادهن ، يعني بذلك أنهن أحقّ برضاعهم من غيرهن . وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم ، إذا كان المولود له والدا حيا موسرا لأن الله تعالى ذكره قال في سورة النساء القصرى : وإنْ تعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى وأخبر تعالى أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها ، أن أخرى سواها ترضعه ، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها ، فكان معلوما بذلك أن قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الولدان في رضاع المولود بعدها ، جعل حدّا يفصل به بينهما ، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن .
وأما قوله حَوْلَيْن فإنه يعني به سنتين ، كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ سنتين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأصل الحول من قول القائل : حال هذا الشيء : إذا انتقل ، ومنه قيل : تحوّل فلان من مكان كذا : إذا انتقل عنه .
فإن قال لنا قائل : وما معنى ذكر كاملين في قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ بعد قوله يرضعن حولين وفي ذكر الحولين مستغنى عن ذكر الكاملين ؟ إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ ما يراد به ، فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين ؟ قيل : إن العرب قد تقول : أقام فلان بمكان كذا حولين أو يومين أو شهرين ، وإنما أقام به يوما وبعض آخر أو شهرا وبعض آخر ، أو حولاً وبعض آخر فقيل حولين كاملين ليعرف سامع ذلك أن الذي أريد به حولان تامان ، لا حول وبعض آخر ، وذلك كما قال الله تعالى ذكره : وَاذْكُروا اللّهَ فِي أيّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تأخّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ .
ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف ، فكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق ، وأنه ليس منه شيء تام ، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة ، فتقول : اليوم يومان منذ لم أره ، وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر ، وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة على العام والزمان واليوم ، فتقول زرته عام كذا ، وقتل فلان فلانا زمان صفّين ، وإنما تفعل ذلك لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين ، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه ، فجاز أن ينطق بالحولين واليومين على ما وصفت قبل ، لأن معنى الكلام في ذلك : فعلته إذ ذاك ، وفي ذلك الوقت . فكذلك قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين ، فكان الكلام لو أطلق في ذلك بغير تضمين الحولين بالكمال ، وقيل : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ محتملاً أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفي اللبس عن سامعيه بقوله : كامِلَيْنِ أن يكون مرادا به حول وبعض آخر ، وأُبين بقوله : كامِلَيْنِ عن وقت تمام حدّ الرضاع ، وأنه تمام الحولين بانقضائهما دون انقضاء أحدهما وبعض الاَخر .
ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية من مبلغ غاية رضاع المولودين ، أهو حدّ لكل مولود ، أو هو حدّ لبعض دون بعض ؟ فقال بعضهم : هو حدّ لبعض دون بعض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود عن عكرمة ، عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر : أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة بمثله ، ولم يرفعه إلى ابن عباس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي عبيدٍ قال : رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر ، فقال : إنها رفعت لا أراها إلا قد جاءت بشرّ أو نحو هذا ولدت لستة أشهر ، فقال ابن عباس : إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر . قال : وتلا ابن عباس : وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا ، فإذا أتمت الرّضاع كان الحمل لستة أشهر . فخلّى عثمان سبيلها .
وقال آخرون : بل ذلك حدّ رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه ، فأراد أحدهما البلوغ إليه ، والاَخر التقصير عنه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ فجعل الله سبحانه الرضاع حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة ، ثم قال : فإنْ أرَادَ فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ قال : إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء جميعا ، عن الثوري في قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ والتمام : الحولان ، قال : فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك ، وإذا قالت المرأة أنا أفطمه قبل الحولين وقال الأب لا . فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب حتى يجتمعا ، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه ، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين ، وذلك قوله : فإنْ أرَادَ فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ .
وقال آخرون : بل دل الله تعالى ذكره بقوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ على أن لا رضاع بعد الحولين ، فإن الرضاع إنما هو . كان في الحولين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، قال : حدثنا الزهري ، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : إن الله تعالى ذكره يقول : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرّم شيئا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري ، قال : كان ابن عمر وابن عباس يقولان : لا رضاع بعد الحولين .
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا حفص ، عن الشيباني ، عن أبي الضحى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله قال : ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة : أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين ، فقال لا ترضعيه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الشيباني ، قال : سمعت الشعبي ، يقول : ما كان من وَجُور أو سَعُوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرّم ، وما كان بعد الحولين لم يحرّم شيئا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم أنه كان يحدّث عن عبد الله أنه قال : لا رضاع بعد فصال أو بعد حولين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ليس يحرم من الرضاع بعد التمام ، إنما يحرّم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عمرو بن دينار ، أن ابن عباس قال : لا رضاع بعد فصال السنتين .
حدثنا هلال بن العلاء الرقي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبيد الله ، عن زيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي الضحى ، قال : سمعت ابن عباس يقول : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ قال : لا رضاع إلا في هذين الحولين .
وقال آخرون : بل كان قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ دلالة من الله تعالى ذكره عباده على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين ، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله : لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ فجعل الخيار في ذلك إلى الاَباء والأمهات إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين ، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك ، فقال تعالى ذكره : لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ يعني المطلقات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك ، فقال : لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ .
ذكر من قال : إن الوالدات اللواتي ذكرهنّ الله في هذا الموضع البائنات من أزواجهن على ما وصفنا قبل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قال : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ إلى : إذا سَلّمْتُمْ ما آتيْتُمْ بالمَعْرُوفِ أما الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد ، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ قال : إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه .
وأولى الأقوال بالصواب في قوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ لِمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ القول الذي رواه عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، ووافقه على القول به عطاء والثوري ، والقول الذي رُوي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر ، وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع المولود إذا اختلف والده ، وأن لا رضاع بعد الحولين يحرّم شيئا ، وأنه معني به كل مولود لستة أشهر كان وِلادُه ، أو لسبعة أو لتسعة .
فأما قولنا : إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه فلأن الله تعالى ذكره لما حدّ في ذلك حدا ، كان غير جائز أن يكون ما وراء حدّه موافقا في الحكم ما دونه ، لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن للحدّ معنى معقول . وإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل لما كان وقت رضاع ، كان ما وراءه غير وقت له ، وأنه وقت لترك الرضاع ، وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين ، وكان التامّ من الأشياء لا معنى إلى الزيادة فيه ، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين ، وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرّما ، كان ما وراءه غير محرّم . وإنما قلنا هو دلالة على أنه معني به كل مولود لأيّ وقت كان ولاده ، لستة أشهر ، أوسبعة ، أو تسعة ، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كامِلَيْنِ ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض . وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه ، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابنا «كتاب البيان عن أصول الأحكام » بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
فإن قال لنا قائل : فإن الله تعالى ذكره قد بين ذلك بقوله : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما ، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حدّه الله تعالى ذكره ، فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر ، فهو مزيد في مدة الرضاع ، وما زيد في مدة الحمل نقص من مدة الرضاع ، وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا ، كما حدّه الله تعالى ذكره ؟ قيل له : فقد يجب أن يكون مدة الحمل على هذه المقالة إن بلغت حولين كاملين ، ألاّ يرضع المولود إلا ستة أشهر ، وإن بلغت أربع سنين أن يبطل الرضاع فلا ترضع ، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته . أو يزعم قائل هذه المقالة أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر ، فيخرج من قول جميع الحجة ، ويكابر الموجود والمشاهد ، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادّعى ذلك ، فإلى أيّ الأمرين لجأ قائل هذه المقالة وضح لذوي الفهم فساد قوله .
فإن قال لنا قائل : فما معنى قوله إن كان الأمر على ما وصفت : وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حدّ الله تعالى ذكره نظير ما دون حدّه في الحكم ، وقد قلت : إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا ؟ قيل : إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله : وحَمْلُهُ وفصاله ثلاثون شهرا " حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه ، كما جعل قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع ، ( 1 ) وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه ، وإرادة أحدهما الضرار به . وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه . ( 2 ) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل ، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به .
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها ، فيضعنه متى شئن ، ويتركن وضعه إذا شئن= كان معلوما أن قوله : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا= لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا ، لما وصفنا . وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه : ( وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( 3 ) [ سورة الأحقاف : 15 ] . ( 1 ) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا ، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم= وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا= ( 2 ) فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ) [ سورة الأحقاف : 15 ] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية . ( 3 )
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله ، ( 4 ) وكفرانه نعم ربه عليه ، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره ، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده= ( 5 ) ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده ، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض ، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد . لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر ، ( 6 ) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين ؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر ، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر .
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأ عامة أهل المدينة والعراق والشام : " لم أراد أن يتم الرضاعة " ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " - بمعنى : لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده .
وقرأه بعض أهل الحجاز : " لمن أراد أن تتم الرضاعة " ب " التاء " في " تتم " ، ورفع " الرضاعة " بصفتها . ( 1 )
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأ ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " . لأن الله تعالى ذكره قال : " والوالدات يرضعن أولادهن " ، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها= وأنها القراءة ( 2 ) التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة ، دون القراءة الأخرى .
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر " الراء " التي فيها . فإن تكن صحيحة ، ( 3 ) فهي نظيرة " الوكالة والوكالة " و " الدلالة والدلالة " ، و " مهرت الشيء مهارة ومهارة " - فيجوز حينئذ " الرضاع " و " الرضاع " ، كما قيل : " الحصاد ، والحصاد " . وأما القراءة فبالفتح لا غير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وعلى المولود له " ، وعلى آباء الصبيان للمراضع= " رزقهن " ، يعني : رزق والدتهن .
ويعني ب " الرزق " : ما يقوتهن من طعام ، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم .
و " كسوتهن " ، ويعني : ب " الكسوة " : الملبس .
ويعني بقوله : " بالمعروف " ، بما يجب لمثلها على مثله ، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر ، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك . فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته ، كما قال تعالى ذكره : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا ) [ سورة الطلاق : 7 ] ، وكما : -
4970- حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ، قال : إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا ، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين ، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة ، لا نكلف نفسا إلا وسعها .
4971- حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران= عن سفيان قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، والتمام الحولان " ، وعلى المولود له " = على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف ( 1 )
4972- حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ، قال : على الأب .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } ( 1 )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها ، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت . وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك : لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم ، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل ، كما قال تعالى ذكره : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ) [ سورة الطلاق : 7 ] ، كما : -
4973- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران= وحدثني علي قال ، حدثنا زيد = جميعا ، عن سفيان : " لا تكلف نفس إلا وسعها " ، إلا ما أطاقت . ( 2 )
" والوسع " " الفعل " من قول القائل : " وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة " - ويقال : " هذا الذي أعطيتك وسعي " ، أي : ما يتسع لي أن أعطيك ، فلا يضيق علي إعطاؤكه= و " أعطيتك من جهدي " ، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه .
فمعنى قوله : " لا تكلف نفس إلا وسعها " ، هو ما وصفت : من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها= لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه : لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات . لأن ذلك لو كان كما زعمت ، لكان قوله تعالى ذكره : ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ) [ سورة الإسراء : 48 وسورة الفرقان : 9 ] ، = إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه= واجبا أن يكون القوم في حال واحدة ، قد أعطوا الاستطاعة على ما منعوها عليه . وذلك من قائله إن قاله ، إحالة في كلامه ، ودعوى باطل لا يخيل بطوله . ( 1 ) وإذ كان بينا فساد هذا القول ، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها ، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ }
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام : " لا تضار والدة بولدها " بفتح " الراء " ، بتأويل : لا تضارَرْ ( 2 ) = على وجه النهي ، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم ، غير أنه حرك ، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات ، وهو الفتح . ولو حرك إلى الكسر كان جائزا ، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه . وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر . ( 3 )
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة : " لا تضار والدة بولدها " ، رفع . ( 1 ) ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي ، ولكنها تكون [ على معنى ] الخبر ، ( 2 ) عطفا بقوله : " لا تضار " على قوله : " لا تكلف نفس إلا وسعها " . ( 3 )
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع : " لا تضار والدة بولدها " ، هكذا في الحكم : - أنه لا تضار والدة بولدها- أي : ما ينبغي أن تضار . فلما حذفت " ينبغي " ، وصار " تضار " في وضعه ، صار على لفظه ، واستشهد لذلك بقول الشاعر : ( 4 )
على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته ، أن لا يجور ويقصد ( 1 )
فزعم أنه رفع " يقصد " بمعنى " ينبغي " . والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال . وذلك أنه روي عنهم سماعا : " فتصنع ماذا " ، إذا أرادوا أن يقولوا : " فتريد أن تصنع ماذا " ، فينصبونه بنية " أن . وإذا لم ينووا " أن " ولم يريدوها ، قالوا : " فتريد ماذا " ، فيرفعون " تريد " ، لأن لا جالب ل " أن " قبله ، كما كان له جالب قبل " تصنع " . فلو كان معنى قوله " لا تضار " إذا قرئ رفعا بمعنى : " ينبغي أن لا تضار " أو " ما ينبغي أن تضار " ، ثم حذف " ينبغي " و " أن " ، وأقيم " تضار " مقام " ينبغي " ، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا لا رفعا ، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد ، كما فعل بقوله : " فتصنع ماذا " ، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على " تكلف " : ( 2 ) ليست تكلف نفس إلا وسعها ، وليست تضار والدة بولدها . يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين .
قال أبو جعفر : وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب ، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له ، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين . فلو كان ذلك خبرا ، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك . ( 3 )
وبما قلنا في ذلك -من أن ذلك بمعنى النهي- تأوله أهل التأويل .
4974- حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " لا تضار والدة بولدها " ، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه ، ولا يضار الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها .
4975- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
4976- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " ، قال : نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه ، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه ، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا .
4977- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " لا تضار والدة بولدها " ، ترمي به إلى أبيه ضرارا ، " ولا مولود له بولده " ، يقول : ولا الوالد ، فينتزعه منها ضرارا ، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها ، فهي أحق به إذا رضيت بذلك .
4978- حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن : " لا تضار والدة بولدها " ، قال : ذلك إذا طلقها ، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها ، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها= وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق ، إذا كان إنسانا مسكينا ، فتقذف إليه ولده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا لا تضار أم بولدها ، ولا أب بولده . يقول : لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا أو إلى عصبته إذا كان الأب ميتا ، ولا يضارّ الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا يقول : لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به ، ولا تضارّ والدة بولدها فتطرح الأم إليه ولده تقول لا أليه ساعة تضعه ، ولكن عليها من الحقّ أن ترضعه حتى يطلب مرضعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، وسئل عن قول الله تعالى ذكره : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ كَامِلَيْنِ إلى لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ . قال ابن شهاب : والوالدات أحقّ برضاع أولادهنّ ما قبلن رضاعهنّ بما يعطى غيرهنّ من الأجر وليس للوالدة أن تضارّ بولدها فتأبى رضاعة مضارّة وهي تُعْطَى عليه ما يعطى غيرها من الأجر ، وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثني علي ، قال حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان في قوله : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها تضاره بذلك ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ ولا ينزع الأب منها ولدها ، يضارها بذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدَهِ قال : لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها ، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه ولا يجد ما يسترضعه به .
حدثنا عمرو بن علي الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني ابن جريج ، عن عطاء في قوله : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا قال : لا تدعنه ورضاعه من شأنها مضارة لأبيه ، ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها .
وقال بعضهم : الوالدة التي نهى الرجل عن مضارتها : ظئر الصبي . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هارون النحوي ، قال : حدثنا الزبير بن الحارث عن عكرمة في قوله : لا تُضَارّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا قال : هي الظئر .
فمعنى الكلام : لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها ، ولا والدة مولود والده بمولودها منه ، ثم ترك ذكر الفاعل في يضار ، فقيل : لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده ، كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه : لا يكرم عمرو ولا يجلس إلى أخيه ، ثم ترك التضعيف فقيل : لا يضار ، فحرّكت الراء الثانية التي كانت مجزومة لو أظهر التضعيف بحركة الراء الأولى .
وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع لأنه أحد الحركات . وليس للذي قال من ذلك معنى ، لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك لو كان معنى الكلام : لا تضارون والدة بولدها ، وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة . على أن معنى الكلام لو كان كذلك لكان الكسر في تضارّ أفصح من الفتح ، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح ، كما أن مَدّ بالثوب أفصح من مدّ به . وفي إجماع القراء على قراءة : لا تُضَارّ بالفتح دون الكسر دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك .
فإن قال قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك : لا تُضَارِرْ والدة ، وأن الوالدة مرفوعة بفعلها ، وأن الراء الأولى حظها الكسر فقد أغفل تأويل الكلام ، وخالف قول جميع من حكينا قول من أهل التأويل . وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل واحد من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودها ، لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضارّ المولود ، وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارّة الصبيّ ، والصبيّ في حال ما هو رضيع غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد ، فلو كان ذلك معناه ، لكل التنزيل : لا تضرّ والدة بولدها .
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في «تضار » جائز ، والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع ، لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى «لا تُضَارِرْ » الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله ، إلى معنى «لا تُضَارِرْ » الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله .
فإذا كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما ، فحقّ على إمام المسلمين إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه ، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة ، أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها ما دام محتاجا الصبي إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها . وحقّ إذا كان الصبيّ لا يقبل ثدي غير والدته ، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده ، وإن كان يقبل ثدي غير أمه ، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا ولا يجد ما يتبرّع عليه برضاع مولوده ، أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته لأن الله تعالى ذكره حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه ، فالإضرار به أحرى أن يكون محرّما مع ما في الإضرار به من مضارّة صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلى الوَارثِ مِثْلُ ذَلِكَ .
اختلف أهل التأويل في الوارث الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : وَعَلى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ وأي وارث هو ؟ ووارث من هو ؟ فقال بعضهم : هو وارث الصبي وقالوا : معنى الآية : وعلى وارث الصبي إذا كان ( أبوه ) ميتا الذي كان على أبيه في حياته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قالا : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ على وارث الولد .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ على وارث الولد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه .
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف ، فقال بعضهم : هم وارث الصبيّ من قبل أبيه من عصبته كائنا من كان أخا كان أو عمّا أو ابن عم أو ابن أخ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج أن عمرو بن شعيب أخبره أن سعيد بن المسيب أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( قال في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال ) حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه مثل العاقلة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أن الحسن كان يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ على العصبة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم ، قالا : حدثنا ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب قال : وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس أن الحسن كان يقول : إذا توفي الرجل وامرأته حامل ، فنففتها من نصيبها ، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له ، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته . قال : وكان يتأول قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ على الرجال .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : على العصبة الرجال دون النساء .
حدثنا أبو كريب وعمرو بن عليّ قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا هشام عن ابن سيرين أنه أتى عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه ، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته ، فقال لوليّ اليتيم : لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته ، لأن الله تعالى يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن محمد بن سيرين ، قال : أتى عبد الله بن عتبة في رضاع صبيّ ، فجعل رضاعه في ماله ، وقال لوليه : لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك ، ألا تراه يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ ؟
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على الوارث ما على الأب إذا لم يكن للصبي مال ، وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه فعليه النفقة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الولّي من كان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي بشر ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا يعقوب ، يعني ابن القاسم ، عن عطاء وقتادة في يتيم ليس له شيء : أتجبر أولياؤه على نفقته ؟ قالا : نعم ، ينفق عليه حتى يدرك .
حدثت عن يعلى بن عبيد ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : إن مات أبو الصبيّ وللصبيّ مال أخذ رضاعه من المال ، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة ، فإن لم يكن للعصبة مال أجبرت عليه أمه .
وقال آخرون منهم : بل ذلك على وارث المولود من كان من الرجال والنساء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنه كان يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ على وارث المولود ما كان على الوالد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له على الرجال والنساء على قدر ما يرثون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة كلهم يرث الصبيّ أجر رضاعه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبيّ من ماله ، وقال لوارثه : أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته ، ألا ترى أنه يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ ؟ .
وقال آخرون منهم : هو من ورثته من كان منهم ذا رحم محرم للمولود ، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم كابن العم والمولى ومن أشبههما فليس من عناه الله بقوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ .
والذين قالوا هذه المقالة : أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، محمد .
وقالت فرقة أخرى : بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ المولود نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري ، قال : حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا جعفر بن ربيعة أن بشر بن نصر المزني وكان قاضيا قيل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز كان يقول : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الوارث : هو الصبي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء ، قال : أخبرنا حيوة : قال : أخبرنا جعفر بن ربيعة ، عن قبيصة بن ذؤيب : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : هو الصبي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال : أخبرني جعفر بن ربيعة ، أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول : الوارث : هو الصبي ، يعني قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : يعني بالوارث : الولد الذي يرضع .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك على ما تأوّله هؤلاء : وعلى الوارث المولود مثل ما كان على المولود له .
وقال آخرون : بل هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الاَخر منهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : أخبرنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في صبيّ له عم وأم وهي ترضعه ، قال : يكون رضاعه بينهما ، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم ، لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها .
القول في تأويل قوله تعالى : مِثْلُ ذَلِكَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : مِثْلُ ذَلِكَ فقال بعضهم : تأويله : وعلى الوارث للصبيّ بعد وفاة أبويه مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته إذا لم يكن للمولود مال . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على الوارث رضاع الصبي .
حدثنا عمرو بن عليّ ومحمد بن بشار قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : أجر الرضاع .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الرضاع .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : أجر الرضاع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبد الله بن عتبة : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الرضاع .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبد الله بن عتبة في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : النفقة بالمعروف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على الوارث ما على الأب من الرضاع إذا لم يكن للصبيّ مال .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : الرضاع والنفقة .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الرضاع .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، قال : الرضاع .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا أبو عوانة عن مطرّف ، عن الشعبي : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : أجر الرضاع .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، والشعبي مثله .
حدثنا أبو كريب وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا عبد الله بن إدريس ، قال سمعت هشاما عن الحسن في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : الرضاع .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام وأشعث ، عن الحسن ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن يونس ، عن الحسن : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ يقول : في النفقة على الوارث إذا لم يكن له مال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد مثله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : النفقة بالمعروف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ على الولّي كفله ورضاعه إن لم يكن للمولود مال .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : وعلى الوارث من كان مثل ما وصف من الرضاع .
قال ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد مثل ذلك في الرضاعة ، قال : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : وعلى الوارث أيضا كَفْله ورضاعه إن لم يكن له مال ، وأن لا يضار أمه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني الحجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : نفقته حتى يفطم إن كان أبوه لم يترك له مالاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : وعلى وارث الولد ما كان على الولد من أجر الرضاع إذا كان الولد لا مال له .
حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على وارث الصبيّ مثل ما على أبيه ، إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال ، فإن على الوارث أجر الرضاع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : إذا مات وليس له مال كان على الوارث رضاع الصبي .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك : وعلى الوارث مثل ذلك أن لا يضارّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عليّ بن الحكم ، عن الضحاك بن مزاحم : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : أن لا يضارّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم الأحول ، عن الشعبي في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : لا يضارّ ، ولا غرم عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد في قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ أن لا يضارّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنّ أوْلادَهُنّ حَوْلَيْنَ قال : الوالدات أحق برضاع أولادهنّ ما قبلن رضاعهنّ بما يعطى غيرهنّ من الأجر . وليس لوالدة أن تضارّ بولدها فتأبى رضاعه مضارّة ، وهي تُعْطَى عليه ما يعطى غيرها . وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها ، وهي تقبل من الأجر ما يعطى غيرها وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ مثل الذي على الوالد في ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثنا عليّ ، قال : حدثنا زيد ، عن سفيان : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : أن لا يضارّ وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك : وعلى وارث المولود مثل الذي كان على المولود له من رزق والدته وكسوتها بالمعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على الوارث عند الموت ، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة ، قال : ويعني بالوارث : الولد الذي يرضع أن يؤخذ من ماله إن كان له مال أجر ما أرضعته أمه ، فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته فليس لأمه أجر ، وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : على وارث الولد مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة .
وقال آخرون : معنى ذلك : وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : قوله تعالى ذكره : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ قال : مثل ما ذكره الله تعالى ذكره .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكِ أن يكون المعنى بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم ومن ذكرنا قوله آنفا من أنه معنّي بالوارث المولود ، وفي قوله : مِثْلُ ذَلِكَ أن يكون معنيا به مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف إن كانت من أهل الحاجة ، وهي ذات زمانة وعاهة ، ومن لا احتراف فيها ولا زوج لها تستغني به ، وإن كانت من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعة .
وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها ، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة على ما قد بينا في أول كتابنا هذا وإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : وَعَلى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ محتملاً ظاهره : وعلى الوارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له ، ومحتملاً . وعلى وارث المولود له مثل الذي كان عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود ، وغير ذلك من التأويلات على نحو ما قد قدمنا ذكره ، وكان الجميع من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه ، وصحّ بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قِبَل أبيه أو أمه في حكمه ، في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع ، إذ كان مولى النعمة من ورثته ، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني حكمه وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا من أنه معنّي به ورثة المولود ، فبطول القول الاَخر وهو أنه معنّي به ورثة المولود له سوى المولود أحرى ، لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه إذا لم يصحّ وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه ، فالذي هو أبعد منه قرابة أحرى أن لا يصحّ وجوب ذلك عليه .
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له ، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا ، فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه ، وما عدا ذلك من التأويلات فمتنازع فيه ، وقد دللنا على فساده .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا .
يعني تعالى ذكره بقوله : فإنْ أرَادَا إن أراد والد المولود ووالدته فصالاً ، يعني فصال ولدهما من اللبن . ويعني بالفصال : الفطِام ، وهو مصدر من قول القائل : فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفِصالاً : إذا فارقه من خلطة كانت بينهما ، فكذلك فصال الفطيم ، إنما هو منعه اللبن وقطعه شربه ، وفراقه ثدي أمّه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : فإنْ أرَادَا فِصَالاً يقول إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فإنْ أرَادَا فِصَالاً فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما قال : الفطام .
وأما قوله : عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فإنه يعني بذلك : عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما .
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنها إن فطماه عن تراض منهما وتشاور ، وأيّ الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فقال بعضهم : عنى بذلك : فإن أرادا فصالاً في الحولين عن تراض منهما وتشاور ، فلا جناح عليهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ يقول : إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك ، فليفطماه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين ، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور ، فلا بأس به .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال : التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : التشاور : ما دون الحولين ، فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور دون الحولين ، فلا جناح عليهما ، فإن لم يجتمعا فليس لها أن تفطمه دون الحولين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : التشاور : ما دون الحولين ، ليس لها حتى يجتمعا .
حدثني المثنى ، ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني الليث ، قال : أخبرنا عقيل ، عن ابن شهاب : فإنْ أرَادَا فِصَالاً يفصلان ولدهما ، عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ دون الحولين الكاملين ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثني عليّ ، قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان ، قال : التشاور ما دون الحولين إذا اصطلحا دون ذلك ، وذلك قوله : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ . فإن قالت المرأة : أنا أفطمه قبل الحولين ، وقال الأب لا ، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين . وإن لم ترض الأم فليس له ذلك حتى يجتمعا فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه ، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين ، وذلك قوله : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال : قبل السنتين ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور ، فلا جناح عليهما في أيّ وقت أرادا ذلك ، قبل الحولين أراد ذلك أم بعد الحولين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا أن يفطماه قبل الحولين وبعده .
وأما قوله : عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ فإنه يعني : عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنْ أرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وتَشَاوُرٍ قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وأولى التأويلين بالصواب ، تأويل من قال : فإن أراد فصالاً في الحولين عن تراض منهما وتشاور ، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه ، ولا تشاور بعد انقضائه وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته . فإن ظنّ ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا ، إذا كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه ، فإن ذلك إذا كان كذلك ، فإنما هو علاج كالعلاج بشرب بعض الأدوية لا رضاع . فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما قبل انقضاء آخر مدته ، فإنما الحدّ الذي حدّه الله تعالى ذكره بقوله : وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْن كامِلَيْنِ لمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمّ الرّضاعَةَ على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل . وأما الجناح : فالحرج . كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَلا جُناحَ عَلَيْهِمَا فلا حرج عليهما .
القول في تأويل قوله تعالى : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكَمْ إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر ، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم أو غير ذلك من الأسباب ، فلا حرج عليكم في استرضاعهن إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ خيفة الضيعة على الصبيّ فلا جناح عليكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عبد الله بن محمد الحنفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عثمان ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا أبو بشر ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ إن قالت المرأة : لا طاقة لي به فقد ذهب لبني ، فتسترضع له أخرى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع ، ويسلمان ويجبران على ذلك . قال : فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع فإنه يعرض على الصبيّ المراضع ، فإن قبل مرضعا صار ذلك وأرضعته ، وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته ، فإن لم يكن له مال ولا لعصبته أكرهت على رضاعه .
3حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثني عليّ ، قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إذا أبت الأم أن ترضعه فلا جناح على الأب أن يسترضِع له غيرها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ قال : إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها ورضي الأب أن يسترضع ولده ، فليس عليهما جناح .
واختلفوا في قوله : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ فقال بعضهم : معناه : إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهنّ عليه من الأجرة على رضاعهن بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها ، أو الحال التي عذر أبو الصبّي بطلب مرضع لولده غير أمه واسترضاعه له . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتمْ بالمَعْرُوفِ قال : حساب ما أرضع به الصبي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ حساب ما يرضع به الصبيّ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ إن قالت يعني الأم : لا طاقة لي به فقد ذهب لبني ، فسترضع له أخرى ، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت .
حدثني المثنى ، قال : ثني سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، قال : قلت ، يعني لعطاء : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ قال : أمه وغيرها ، فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلّمْتُمْ قال : إذا سلمت لها أجرها ، ما آتَيْتُمْ قال : ما أعطيتم .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذا سلمتم للاسترضاع عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم ، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُم بالمَعْروفِ يقول : إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : أخبرني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب : لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما ، يعني أبوي المولود إذا سلما ولم يتضارّا .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتمْ بالمَعْرُوفِ يقول : إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع من الأجرة بالمعروف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، وحدثني عليّ ، قال : حدثنا زيد جميعا ، عن سفيان في قوله : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعرُوفِ قال : إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف ، يعني إلى من استرضع للمولود إذا أبت الأم رضاعه .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال تأويله : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن ، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم ، ولم تروا ذلك من صلاحهم ، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهنّ أو لغير علة إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الاَخرة حقوقهنّ التي آتيتموهنّ بالمعروف . يعني بذلك المعنى الذي أوجبه الله لهنّ عليكم ، وهو أن يوفيهنّ أجورهنّ على ما فارقهنّ عليه في حال الاسترضاع ووقت عقد الإجارة . وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج ، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك .
وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره ، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ أمر فصالهم ، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين ، فقال : فإنْ أرَادَا فصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما في الحولين الكاملين ، فلا جناح عليها . فالذي هو أولى بحكم الآية ، إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته ، وأن يكون إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة ، أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى ، وذلك في قوله : فإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنّ أجُورُهَنّ وأتْمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ، فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن ، ذكر بيان امتناعهنّ من رضاعهن ، فكذلك ذلك في قوله : وَإنْ أرَدْتُمْ أنْ تَسْتَرْضِعُوا أوْلادَكُمْ . وإنما اخترنا في قوله : إذَا سَلّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بالمَعْرُوفِ ما اخترنا من التأويل لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حقّ والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه ، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده فلم يكن قوله : «إذا سلمتم » بأن يكون معنيا به إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن بأولى منه بأن يكون معنيا به إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن ولا الغرائب من المولود بأولى أن يكنّ معنيات بذلك من الأمهات ، إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من استأجره لرضاع ولده من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى ، فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن ولا نقل عام إلى خاص إلا بحجة يجب التسليم لها فصح بذلك ما قلنا .
وأما معنى قوله : بالمَعْرُوفِ فإن معناه : بالإجمال والإحسان وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَاتّقُوا اللّهَ وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق ، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم ، وفيما أوجب عليكم لأولادكم فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه حدوده ، فتستوجبوا بذلك عقوبته ، واعلموا أن الله بما تعملون من الأعمال أيها الناس سرّها وعلانيتها ، وخفيها وظاهرها ، وخيرها وشرّها ، بصير يراه ويعلمه ، فلا يخفى عليه شيء ، ولا يغيب عنه منه شيء ، فهو يحصي ذلك كله عليكم حتى يجازيكم بخير ذلك وشرّه . ومعنى بصير ذو إبصار ، وهو في معنى مبصر .
{ والوالدات يرضعن أولادهن } أمر عبر عنه بالخبر للمبالغة ومعناه الندب ، أو الوجوب فيخص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستئجار . والوالدات يعم المطلقات وغيرهن . وقيل يختص بهن إذ الكلام فيهن . { حولين كاملين } أكده بصفة الكمال لأنه مما يتسامح فيه . { لمن أراد أن يتم الرضاعة } بيان للمتوجه إليه الحكم أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة ، أو متعلق بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة ، والأم ترضع له . وهو دليل على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا عبرة به بعدهما وأنه يجوز أن ينقص عنه . { وعلى المولود له } أي الذي يولد له يعني الوالد ، فإن الولد يولد له وينسب إليه . وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه . { رزقهن وكسوتهن } أجرة لهن ، واختلف في استئجار الأم ، فجوزه الشافعي ، ومنعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى ما دامت زوجة أو معتدة نكاح . بالمعروف حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه . { لا تكلف نفس إلا وسعها } تعليل لإيجاب المؤن والتقييد بالمعروف ، ودليل على أنه سبحانه وتعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه وذلك لا يمنع إمكانه . { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } تفصيل له وتقرير ، أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما ليس في وسعه ، ولا يضاره بسبب الولد . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { لا تضار } بالرفع بدلا من قوله { لا تكلف } ، وأصله على القراءتين تضارر بالكسر على البناء للفاعل أو الفتح على البناء للمفعول ، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له . وقرئ { لا تضار } بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره ، وإضافة الولد إليها تارة وإليه أخرى استعطاف لهما عليه ، وتنبيه على أنه حقيق بأن يتفقا على استصلاحه والإشفاق فلا ينبغي أن يضرا به ، أو أن يتضارا بسببه . { وعلى الوارث مثل ذلك } عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ، وما بينهما تعليل معترض . والمراد بالوارث وارث الأب وهو الصبي أي مؤن المرضعة من ماله إذا مات الأب . وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة والسلام " واجعله الوارث منا " ، وكلا القولين يوافق مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولادة . وقيل وارث الطفل وإليه ذهب ابن أبي ليلى . وقيل وارثه المحرم منه ، وهو مذهب أبي حنيفة . وقيل عصابته وبه قال أبو زيد وذلك إشارة إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة . { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور } أي فصالا صادرا عن التراضي منهما والتشاور بينهما قبل الحولين ، والتشاور والمشاورة والمشورة والمشورة استخراج الرأي ، من شرت العسل إذا استخرجته . { فلا جناح عليهما } في ذلك وإنما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل ، وحذرا أن يقدم أحدهما على ما يضر به لغرض أو غيره . { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم } أي تسترضعوا المراضع لأولادكم ، يقال أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إياه ، كقولك أنجح الله حاجتي واستنجحته إياها ، فحذف المفعول الأول للاستغناء عنه . { فلا جناح عليكم } فيه وإطلاقه يدل على أن للزوج أن يسترضع الولد ويمنع الزوجة من الإرضاع . { إذا سلمتم } إلى المراضع . { ما آتيتم } ما أردتم إيتاءه كقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } وقراءة ابن كثير { ما آتيتم } ، من أتى إحسانا إذا فعله . وقرئ " أوتيتم " أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة . { بالمعروف } صلة سلمتم ، أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا . وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، وليس اشتراط التسليم لجواز الاسترضاع بل لسلوك ما هو الأولى والأصلح للطفل . { واتقوا الله } مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال والمراضع . { واعلموا أن الله بما تعملون بصير } حث وتهديد .
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 233 )
قوله عز وجل : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ }
{ يرضعن أولادهن } خبر ، معناه : الأمر على الوجوب لبعض الوالدات ، والأمر على جهة الندب والتخيير لبعضهن ، فأما( {[2204]} ) المرأة التي في العصمة فعليها الإرضاع ، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها أن لا ترضع وذلك كالشرط ، فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم ، بخلاف النفقة ، وفي كتاب ابن الجلاب : رضاعه في بيت المال ، وقال عبد الوهاب : هو من فقراء المسلمين ، وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها ، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي ، فهي أحق به بأجرة المثل . هذا مع يسر الزوج ، فإن كان معدماً لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع ، ولها أجر مثلها في يسر الزوج ، وكل ما يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب ، وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدماً ولا مال للصبي فإن الرضاع على الأم ، فإن كان بها عذر ولها مال فالإرضاع عليها في مالها . وهذه الآية هي في المطلقات( {[2205]} ) ، قاله السدي والضحاك وغيرهما ، جعلها الله حداً عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له ، وقال جمهور المفسرين : إن هذين الحولين لكل واحد( {[2206]} ) ، وروي عن ابن عباس أنه قال : «هي في الولد الذي يمكث في البطن ستة أشهر ، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهراً ، فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهراً ، فإن مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهراً » .
قال القاضي أبو محمد : كأن هذا القول انبنى على قوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً }( {[2207]} ) [ الأحقاف : 15 ] ، لأن ذلك حكم على الإنسان عموماً ، وسمي العام حولاً لاستحالة الأمور فيه في الأغلب ، ووصفهما { بكاملين } إذ مما قد اعتيد تجوزاً أن يقال في حول وبعض آخر حولين ، وفي يوم وبعض آخر مشيت يومين وصبرت عليك في ديني يومين وشهرين( {[2208]} ) . وقوله تعالى : { لمن أراد أن يتم الرضاعة } مبني على أن الحولين ليسا بفرض لا يتجاوز ، وقرأ السبعة «أن يُتم الرضاعةَ » بضم الياء ونصب الرضاعة ، وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد والحسن وأبو رجاء «تَتم الرضاعةُ » بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة كذلك ، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة ، وهي لغة كالحَضارة والحِضارة ، وغير ذلك . وروي عن مجاهد أنه قرأ «الرضعة » على وزن الفعلة ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أن يكمل الرضاعة » بالياء المضمومة ، وانتزع مالك رحمه الله وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين( {[2209]} ) ، لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة ، وروي عن قتادة أنه قال : «هذه الآية تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات ، ثم يسر ذلك وخفف بالتخيير الذي في قوله : { لمن أراد } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول مبتدع( {[2210]} ) .
{ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدَهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ }
{ المولود له } اسم جنس وصنف من الرجال ، والرزق في هذا الحكم الطعام الكافي ، وقوله { بالمعروف } يجمع حسن القدر في الطعام وجودة الأداء له وحسن الاقتضاء من المرأة ، ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها بقوله : { لا تكلف نفس إلا وسعها } ، وقرأ جمهور الناس : «تُكلف » بضم التاء «نفسٌ » على ما لم يُسمَّ فاعله ، وقرأ أبو رجاء «تَكَلَّفُ » بفتح التاء بمعنى تتكلف «نفسٌ » فاعله ، وروى عنه أبو الأشهب «لا نُكَلِّف » بالنون «نفساً » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم «لا تضارُ والدة » بالرفع في الراء ، وهو خبر معناه الأمر( {[2211]} ) ، ويحتمل أن يكون الأصل «تضارِر » بكسر الراء الأولى فوالدة فاعل ، ويحتمل أن يكون «تضارَر » بفتح الراء الأولى فوالدة مفعول لم يسم فاعله ، ويعطف مولد له على هذا الحد في الاحتمالين( {[2212]} ) ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم { لا تضارَّ } بفتح الراء المشددة ، وهذا على النهي ، ويحتملَ أصله ما ذكرنا في الأولى ، ومعنى الآية في كل قراءة : النهي عن أن تضار الوالدة زوجها المطلق بسبب ولدها ، وأن يضارها هو بسبب الولد ، أو يضار الظئر( {[2213]} ) ، لأن لفظة نهيه تعم الظئر ، وقد قال عكرمة في قوله : { لا تضار والدة } : معناه الظئر ، ووجوده الضرر لا تنحصر ، وكل ما ذكر منها في التفاسير فهو مثال( {[2214]} ) . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ «لا تضارَرُ » براءين الأولى مفتوحة . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «لا تضارْ » بإسكان الراء وتخفيفها ، وروي عنه الإسكان والتشديد ، وروي عن ابن عباس «لا تضارِر » بكسر الراء الأولى .
واختلف العلماء في معنى قوله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك }( {[2215]} ) . فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيرهم : هو وارث الصبي إن لو مات( {[2216]} ) ، قال بعضهم : وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي لو كان حياً ، وقاله مجاهد وعطاء ، وقال قتادة أيضاً وغيره : هو وارث الصبي من كان من الرجال والنساء ، ويلزمهم إرضاعه قدر مواريثهم منه .
وحكى الطبري عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهم قالوا : الوارث الذي يلزمه إرضاع المولود هو وليه ووارثه إذا كان ذا رحم محرم منه ، فإن كان ابن عم وغيره وليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شيء .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا القول تحكم( {[2217]} ) ، وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز : الوارث وهو الصبي نفسه ، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه ، وقال سفيان رحمه الله : «الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما » ، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث . ونص هؤلاء الذين ذكرت أقوالهم على أن المراد بقوله تعالى : { مثل ذلك } الرزق والكسوة ، وذكر ذلك أيضاً من العلماء إبراهيم النخعي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والشعبي والحسن وابن عباس وغيرهم وقال مالك رحمه الله في المدونة وجميع أصحابه والشعبي أيضاً والزهري والضحاك وجماعة من العلماء : المراد بقوله { مثل ذلك } أن لا يضار ، وأما الرزق والكسوة فلا شيء عليه منه ، وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث ثم نسخ ذلك( {[2218]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فالإجماع من الأمة في أن لا يضار الوارث ، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا ؟ ، وقرأ يحيى بن يعمر «وعلى الورثة مثل ذلك » بالجمع .
{ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
الضمير في { أرادا } للوالدين ، و { فصالاً } معناه «فطاماً » عن الرضاع ، ولا يقع التشاور ولا يجوز التراضي إلا بما لا ضرر فيه على المولد ، فإذا ظهر من حاله الاستغناء عن اللبن قبل تمام الحولين فلا جناح على الأبوين في فصله ، هذا معنى الآية ، وقاله مجاهد وقتادة وابن زيد سفيان وغيرهم ، وقال ابن عباس : «لا جناح مع التراضي في فصله قبل الحولين وبعدهما » .
قال القاضي أبو محمد : وتحرير القول في هذا أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وأن لا يكون على المولود ضرر ، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فذلك له إلا أن يكون في ذلك على الصبي ضرر ، وقوله تعالى : { وإن أردتم أن تسترضعوا } مخاطبة لجميع الناس تجمع الآباء والأمهات ، أي لهم اتخاذ الظئر مع الاتفاق على ذلك ، وأما قوله تعالى : { إذا سلمتم } فمخاطبة للرجال خاصة ، إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ «أتيتم »( {[2219]} ) ، وقرأ الستة من السبعة «آتيتم » بالمد ، المعنى أعطيتم ، وقرأ ابن كثير «أتيتم » بمعنى ما جئتم وفعلتم كما قال زهير : [ الطويل ] .
وما كان من خير أتوه فإنما . . . توارثه آباء آبائهم قبلُ
قال أبو علي : «المعنى إذا سلمتم ما أتيتم نقده أو إعطاءه أو سوقه( {[2220]} ) ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه فكان التقدير ما أتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة » .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل اللفظ معنى آخر قاله قتادة ، وهو إذا سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع ، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر . وعلى هذا الاحتمال . فيدخل في الخطاب ب { سلمتم } الرجال والنساء ، وعلى التأويل الذي ذكره أبو علي وغيره : فالخطاب للرجال ، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع ، قال أبو علي : ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية ، أي إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى كالأول ، لكن يستغنى عن الصنعة من حذف المضاف ، ثم حذف الضمير ، قال مجاهد : «المعنى إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع »( {[2221]} ) ، وقال سفيان : «المعنى إذا سلمتم إلى المستعرضة وهي الظئر أجرها بالمعروف » . وباقي الآية أمر بالتقوى وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل ، وفي هذا وعيد وتحذير ، أي فهو مجاز بحسب عملكم .