{ بل الإنسان على نفسه بصيرة } قال عكرمة ، ومقاتل ، والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه ويشهدون عليه بعمله ، وهو سمعه وبصره وجوارحه ، ودخل " الهاء " في البصيرة لأن المراد بالإنسان ها هنا جوارحه ، ويحتمل أن يكون معناه { بل الإنسان على نفسه بصيرة } يعني : لجوارحه ، فحذف حرف الجر كقوله : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم }( البقرة- 233 ) أي لأولادكم . ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي بل الإنسان على نفسه عين بصيرة . وقرأ أبو العالية ، وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، " والهاء " في { بصيرة } للمبالغة ، دليل هذا التأويل . قوله عز وجل : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } ( الإسراء- 14 ) .
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى بقوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } .
والبصيرة هنا بمعنى الحجة الشاهدة عليه ، وهى خبر عن المبتدأ وهو { الإنسان } والجار والمجرور متعلق بلفظ بصيرة والهاء فيها للمبالغة ، مثل هاء علامة ونسابة .
أى : بل الإِنسان حجة بينة على نفسه ، وشاهدةبما كان منه من الأعمال السيئة ، ولو أدلى بأية حجة يعتذر بها عن نفسه . لم ينفعه ذلك .
قال صاحب الكشاف : { بَصِيرَةٌ } أى : حجة بينة ، وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار فى قوله : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أو : عين بصيرة والمعنى أنه ينبأ بأعماله ، وإن لم ينبأ ففيه ما يجزئ عن الإِنباء ، لأنه شاهد عليها بما عملت ، لأن جوارحه تنطق بذلك ، كما قال - تعالى - { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب !
أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 14 ] .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يقول : سمعُه وبصرُه ويداه ورجلاه وجوارحُه .
وقال قتادة : شاهد على نفسه . وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تُبصر القَذَاة في عين أخيك ، وتترك الجِذْل{[29544]} في عينك لا تبصره .
وقوله : بَل الإنْسانُ على نَفْسِه بَصِيرَةٌ يقول تعالى ذكره : بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله ، ويشهدون عليه به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه .
والبصيرة على هذا التأويل ما ذكره ابن عباس من جوارح ابن آدم وهي مرفوعة بقوله عَلى نَفْسِهِ ، والإنسان مرفوع بالعائد من ذكره في قوله : نفسه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل الإنسان شاهد على نفسه وحده ومن قال هذا القول جعل البصيرة خبرا للإنسان ، ورفع الإنسان بها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ يقول : الإنسان شاهد على نفسه وحده .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال : شاهد عليها بعملها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم ، غافلاً عن ذنوبه قال : وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك ، ولا تبصر الجذع المعترض في عينك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال : هو شاهد على نفسه ، وقرأ : اقْرأْ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبا .
ومن قال هذه المقالة يقول : أدخلت الهاء في قوله بَصِيرَةٌ وهي خبر للإنسان ، كما يقال للرجل : أنت حجة على نفسك ، وهذا قول بعض نحويي البصرة . وكان بعضهم يقول : أدخلت هذه الهاء في بصيرة وهي صفة للذكر ، كما أدخلت في راوية وعلامة .
وقوله تعالى : { بل الإنسان } إضراب بمعنى الترك لا على معنى إبطال القول الأول ، و { بصيرة } يحتمل أن يكون خبراً عن الإنسان ولحقته هاء التأنيث كما لحقت علامة ونسابة ، والمعنى فيه وفي عقله وفطرته حجة وطليعة وشاهد مبصر على نفسه ، والهاء للتأنيث ، ويراد ب «البصيرة » جوارحه أو الملائكة الحفظة وهذا تأويل ابن عباس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.