الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

وذلك حين كتمت الألسن في سورة الأنعام، وختم الله عليها في سورة {يس والقرآن الحكيم}، فقال {اليوم نختم على أفواههم} [يس:65]، فنطقت الجوارح على الألسن بالشرك في هذه السورة، فلا شاهد أفضل من نفسك، فذلك قوله تبارك وتعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يعني جسده وجوارحه شاهدة عليه بعمله، فذلك قوله تبارك وتعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} يعني شاهدا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: بل للإنسان على نفسه من نفسه رقباء يرقبونه بعمله، ويشهدون عليه به. عن ابن عباس، قوله:"بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. والبصيرة على هذا التأويل ما ذكره ابن عباس من جوارح ابن آدم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: بل الإنسان شاهد على نفسه وحده...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{بل الإنسان على نفسه بصيرة} {ولو ألقى معاذيره} هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا أن الإنسان بصير بعمل نفسه، وإن جادل عنها أنه لم يفعل ذلك، وأسر ذلك عن الناس {ولو ألقى معاذيره} أي ألقى الستور بما كسبت نفسه، والمعذار هو الستر.

والوجه الثاني: أن يكون في الآخرة، وهو يحتمل وجهين:

أحدهما: أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} [النعام: 23] وقوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم} [المجادلة: 18] فيقدمون على الحلف اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم.

والثاني: أن يكون معنى البصيرة الشاهد أي أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله، وإن ألقى معاذيره، أي وإن شهدت عليه جوارحه، وذلك نحو قوله عز وجل: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65] وقوله تعالى: {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم} الآية [فصلت: 20].

فإن قيل: إن الإنسان مذكّر كيف وصفه بالبصيرة بلفظة التأنيث بقوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} ولم يقل: بصير؟ فجوابه من أوجه:

أحدها: ما قيل: إن الإنسان تسمية جنس، فيه الجماعة، ولا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط. ألا ترى إلى قوله: {والعصر} {إن الإنسان لفي خسر} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 1و2و3] استثنى الذين آمنوا من قوله: {إن الإنسان لفي خسر} ولا تستثنى الجماعة من الواحد، وكذلك قوله عز وجل: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} {ثم رددناه أسفل سافلين} {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية [التين: 4و5و6] فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان، فثبت أن الإنسان تسمية جنس، والجنس جماعة، وتكون الجماعة مضمرة فيه؛ كأنه قال: إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة، فيكون قوله {بصيرة} راجعا إلى الجماعة، والله أعلم.

والثاني: قوله: {بصيرة} وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل حتى لا يغرب عنه شيء، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة كقولك: فلان علاّمة ونسّابة وراوية للشعر وبالغة في النحو.

والثالث: أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس، ونحو ذلك: نفس أمارة بالسوء، فتصير جوارحه كلها بصيرة أي شاهدة عليه بما قدم وأخر.

وجائز أن يكون هذا على الإضمار، فيكون قوله: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} أي نفس الإنسان بصيرة بما عملت.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هو بصيرةً وحُجّةً على نفْسه في إنكار البعث.

ويقال: إنه يعلم أَنه كان جاحداً كافراً، ولو أَتى بكلِّ حجةٍ فلن تُسْمع منه ولن تنفعه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما قال: (ينبأ الإنسان) يومئذ بأعماله، قال: بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلا لتلك الأفعال، مقدما عليها.

في قوله: {بصيرة}... قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال: فلان جود وكرم، فهاهنا أيضا كذلك، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء.

واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله، ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما عظم القيامة بكشف الأسرار فيها والإنباء بها، وكان- الشأن أن الإنسان لا ينبأ إلا بما هو جاهل له أو غائب عنه، وكان مما يخف على الإنسان في الدنيا النسيان، وكان ذلك اليوم يوم كشف الغطاء، زاده عظماً بالإعلام بأنه يجلو بصيرة الإنسان حتى يصير مستحضراً لجميع ما له من شأن، فكان التقدير: وليس جاهلاً بشيء من ذلك ولا محتاجاً إلى الإنباء به، قال بانياً عليه: {بل الإنسان} أي كل واحد من هذا النوع {على نفسه} خاصة {بصيرة} أي حجة بينة على أعماله، فالهاء للمبالغة -يعني أنه في غاية المعرفة لأحوال نفسه؛ فإنه إذا تأمل وأنعم النظر ولم يقف مع الحظوظ، عرف جيد فعله من رديئه، أما في الدنيا فلان الفطر الأولى شاهدة بالخير والشر- كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وترددت فيه النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك " رواه الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " -رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأما في الآخرة فإن الله يعطيه في ذلك اليوم قوة الذكرى حتى تصير أعماله كلها بين عينيه لأنه تعالى ينفي عنه الشواغل البدنية ويكشف عنه الحجب النفسانية حتى تصير أعماله ممثلة له كأنه يراها ولا تنفعه معذرته، لأن كل شيء يعتذر به عن نفسه يعرف كذبه بنفس وجوده لا بشيء خارج عنه تارة يكون خالقه أوجده على ما هو عليه من العلم وسلامة الأسباب المزيلة للعلل وتارة بإنطاق جوارحه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه، فلن يقبل منها عذر، لأن نفسه موكولة إليه، وهو موكل بها، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها. فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)

ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير: الفقر. والفواصل. والإيقاع الموسيقي. والمشاهد الخاطفة. وكذلك عملية الحساب: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) هكذا في سرعة وإجمال.. ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب!