اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ} (14)

قوله : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } . يجوز في «بَصِيرة » أوجه :

أحدها : أنها خبر عن الإنسان ، و «على نفسه » متعلق ب «بصيرة » ، والمعنى : بل الإنسان بصيرة على نفسه .

وعلى هذا فلأيّ شيء أنَّث الخبر .

وقد اختلف النحويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاء فيه للمبالغة .

وقال الأخفش : هو كقولك : «فلان عِبْرة وحُجَّة » .

وقيل : المراد بالإنسان الجوارح ، فكأنه قال : بل جوارحه بصيرة ، أي شاهدة .

والثاني : أنَّها مبتدأ ، و «على نفسه » خبرها ، والجملة خبر عن الإنسان .

وعلى هذا ففيها تأويلان :

أحدهما : أن تكون «بصيرة » صفة لمحذوف ، أي عين بصيرة . قاله الفراء ؛ وأنشد : [ الطويل ]

4992 - كَأنَّ عَلَى ذِي العَقْلِ عَيْناً بَصِيرَةً*** بِمقْعدِهِ أو مَنْظَرٍ هُو نَاظِرُهْ

يُحَاذِرُ حتَّى يَحْسبَ النَّاسُ كُلُّهُم*** مِنَ الخَوْفِ لا تَخْفَى عليْهِمْ سَرائِرُهْ{[58677]}

الثاني : أن المعنى جوارحُ بصيرة .

الثالث : أنَّ المعنى ملائكة بصيرة ، وهم الكاتبون ، والتاء على هذا للتَّأنيث .

وقال الزمخشري : «بصيرة » : حُجَّة «بينة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] .

قال شهاب الدين{[58678]} : " هذا إذا لم تجعل الحُجَّة عبارة عن الإنسان ، أو تجعل دخول التاء للمبالغة أمَّا إذا كانت للمبالغة فنسبة الإبصار إليها حقيقة " .

الوجه الثالث : يكون الخبر الجار والمجرور و " بصيرة " فاعل به ، وهو أرجح مما قبله ؛ لأن الأصل في الأخبار الإفراد .

فصل في تفسير الآية

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : " بصيرة " : أي : شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه : يداه بما يبطش بهما ، ورجلاه بما يمشي عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما والبصيرة : الشاهد{[58679]} ، كما أنشد الفراء ، ويدل عليه قوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] .

قال الواحدي : هذا يكون من صفات الكفار ، فإنهم ينكرون ما عملوا ، فيُختم على أفواههم ، وتنطق جوارحهم .


[58677]:يروى ذي الظن بدل ذي العقل. ينظر معاني القرآن للفراء 3/211، والقرطبي 19/65، والبحر المحيط 8/377، والدر المصون 6/428، وروح المعاني 29/177، وفتح القدير 5/338.
[58678]:ينظر الدر المصون 6/429.
[58679]:في أ: الساعة.