مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ} (14)

قوله تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } .

اعلم أنه تعالى لما قال : ( ينبئ الإنسان ) يومئذ بأعماله ، قال : بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره ، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلا لتلك الأفعال ، مقدما عليها ، ثم في قوله : { بصيرة } وجهان ( الأول ) قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال : فلان جود وكرم ، فهاهنا أيضا كذلك ، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة ، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة ، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء ( والثاني ) أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه ، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم } وقوله : { وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم } وقوله : { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } فأما تأنيث البصيرة ، فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح كأنه قيل : بل جوارح الإنسان ، كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصيرة ، وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله : رجل راوية وطاغية وعلامة .

واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله . ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل ، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم .