الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ} (14)

قوله : { بَصِيرَةٌ } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها خبرٌ عن " الإِنسانُ " و " على نفسِه " متعلِّقٌ ب " بَصيرةٌ " والمعنى : بل الإِنسانُ بَصيرةٌ على نفسِه ، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاءُ فيه للمبالغةِ . وقال الأخفش : " هو كقولِك : فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ " . وقيل : المرادُ بالإِنسان الجوارِحُ ، فكأنَّه قال : بل جوارِحُه بصيرة أي : شاهدةٌ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، و " على نفسِه " خبرُها . والجملةُ خبرٌ عن " الإِنسانُ " ، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها : أنْ يكونَ " بصيرةٌ " صفةً لمحذوفٍ أي : عينٌ بصيرةٌ ، قاله الفراء . وأنشد :

كأن على ذي العقْل عَيْناً بَصيرةً *** بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ

يُحاذِرُ حتى يَحْسَبَ الناسَ كلَّهمْ *** من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهْ

الثاني : أنَّ المعنى : جوارح بَصيرة . الثالث : أنَّ المعنى : ملائكةٌ بصيرة ، والتاءُ على هذا للتأنيثِ . وقال الزمخشري : " بَصيرة : حُجَّةٌ بَيِّنة ، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قولِه : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] . قلت : هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإِنسانِ ، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ . أمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ . الثالث من الأوجه السابقة : أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ ، و " بصيرةٌ " فاعلٌ به ، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإِخبارِ الإِفرادُ .