قوله عز وجل :{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالآيات والحجج ، { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } يعني : العدل . وقال مقاتل بن سليمان : هو ما يوزن به ، أي : ووضعنا الميزان كما قال : { والسماء رفعها ووضع الميزان }( الرحمن- 7 ) { ليقوم الناس بالقسط } ، ليتعاملوا بينهم بالعدل . { وأنزلنا الحديد } روي عن ابن عمر يرفعه : إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد ، والنار ، والماء ، والملح . وقال أهل المعاني معنى قوله : { أنزلنا الحديد } أنشأنا وأحدثنا ، أي : أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعه بوحيه . وقال قطرب هذا من النزل كما يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً ، فمعنى الآية : أنه جعل ذلك نزلاً لهم . ومثله قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج }( الزمر- 6 ) . { فيه بأس شديد } قوة شديدة ، يعني : السلاح للحرب . قال مجاهد : فيه جنة وسلاح يعني آلة الدفع وآلة الضرب ، { ومنافع للناس } مما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحوها ، إذ هو آلة لكل صنعة ، { وليعلم الله } أي : أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليعلم الله وليرى الله ، { من ينصره } أي : دينه ، { ورسله بالغيب } أي : قام بنصرة الدين ولم ير الله ولا الآخرة ، وإنما يحمد ويثاب من أطاع الله بالغيب ، { إن الله قوي عزيز } قوي في أمره ، عزيز في ملكه .
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يرسل رسله إلى الناس ، ليهدوهم إلى طريق الحق ، وأن الناس منهم من اتبع الرسل ، ومنهم من أعرض عنهم ، ومنهم من ابتدع أموراً من عند نفسه لم يرعها حق رعايتها . . . . فقال - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا . . . } .
المراد بالبينات فى قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } الحجج والدلائل التى تشهد لهم بأنهم رسل من عند الله - تعالى - وتدخل فيها المعجزات دخولا أوليا .
والمراد بالكتاب : جنس الكتب . وتشمل التوراة والإنجيل وغيرهما .
والميزان : الآلة المعروفة بين الناس لاستعمالها فى المكاييل وغيرها . . . والمراد بها العدل بين الناس فى أحكامهم ومعاملاتهم .
وشاع إطلاق الميزان على العدل ، باستعارة لفظ الميزان على العدل ، على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد بإنزاله ، تبليغه ونشره بين الناس .
أى : بالله لقد أرسلنا رسلنا ، وأيدناهم بالحجج والبراهين الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم كبتنا السماوية ، بأن بلغناهم إياها عن طريق وحينا ، وأنزلنا معهم العدل بأن أرشدناهم إلى طرقه ، وإلى إعطاء كل ذى حق حقه .
قال ابن كثير : يقول الله - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } أى : بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } وهو النقل الصدق { والميزان } وهو العدل أو وهوالحق الذى تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة .
وأكد - سبحانه - هذا الإرسال ، للرد على أولئك الجاحدين الذين أنكروا نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - ولبيان أنه واحد من هؤلاء الرسل الكرام ، وأن رسالته إنما هى امتداد لرسالتهم . . . وقوله - تعالى - : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } علة لما قبله . أى : أرسلنا الرسل . وأنزلنا الكتاب وشرعنا العدل ، ليقوم الناس بنشر ما يؤدى إلى صلاح بالهم ، واستقامة أحوالهم ، عن طريق التزامهم بالحق والقسط فى كل أمورهم .
قال الآلوسى : " والقيام بالقسط " أى : بالعدل ، يشمل التسوية فى أمور التعامل باستعمال الميزان ، وفى أمور المعاد باحتذاء الكتاب ، وهو - أى : القسط - لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغى الاتصاف به ، معاشا ومعادا .
وقوله - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } معطوف على ما قبله .
والمراد بإنزال الحديد : خلقه وإيجاده . وتهيئته للناس ، والإنعام به عليهم ، كما فى قوله - سبحانه - { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } والمراد بالبأس الشديد : القوة الشديدة التى تؤدى إلى القتل وإلحاق الضرر بمن توجه إليه ، أى : لقد أرسلنا رسلنا بالأدلة الدالة على صدقهم ، وأنزلنا معهم ما يرشد الناس إلى صلاحهم .
وأوجدنا الحديد ، وأنعمنا به عليكم ، ليكون قوة شديدة لكم فى الدفاع عن أنفسكم ، وفى تأديب أعدائكم ، وليكون كذلك مصدر منفعة لكم فى مصالحكم وفى شئون حياتكم .
فمن الحديد تكون السيوف وآلات الحرب . . ومنه - ومعه غيره - تتكون القصور الفارهة ، والمبانى العالية الواسعة ، والمصانع النافعة . . . وآلات الزراعة والتجارة .
فالآية الكريمة تلفت أنظار الناس إلى سنة من سنن الله - تعالى - قد أرسل الرسل وزودهم بالهدايات السماوية التى تهدى الناس إلى ما يسعدهم .
. . وزودهم - أيضا - بالقوة المادية التى تحمى الحق الذى جاءوا به ونرد كيد الكائدين له فى نحورهم ، وترهب كل من يحاول الاعتداء عليه ، كما قال - تعالى - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } ورحم الله الإمام ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : ما ملخصه : أى : وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق ، وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمكة ثلاث عشرة سنة ، تنزل عليه السور المكية ، لبيان أن دين الله حق .
فلما قامت الحجة على من خالفه ، شرع الله القتال بعد الهجرة ، حماية للحق ، وأمرهم بضرب رقاب من عاند الحق وكذبه .
وقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بعث بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له . وجعل رزقى تحت ظل رمحى ، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم " .
ولهذا قال - تعالى - : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعنى السلاح كالسيف والحراب .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أى : فى معايشهم كالفأس والقدوم . . . وغير ذلك .
هذا ، ومن المفسرين الذين فصلوا القول فى منافع الحديد ، وفى بيان لماذا خصه الله - تعالى - بالذكر : الإمام الفخر الرازى فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة ، جعله الله سهل الوجدان ، كثير الوجود . والذهب لما كانت حاجة الناس إليه قليلة ، جعله الله - تعالى - عزيز الوجود .
وبهذا تتجلى رحمة الله على عباده ، فإن كل شىء كانت حاجتهم إليه أكثر جعل الحصول عليه أيسر .
فالهواء - وهو أعظم ما يحتاج الإنسان إليه - جعل الله تعالى - الحصول عليه سهلا ميسورا . . . فعلمنا من ذلك أن كل شىء كانت الحاجة إليه أكثر ، كان وجدانه أسهل .
ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله - تعالى - أشد من الحاجة إلى كل شىء ، فنرجوه من فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، كما قال الشاعر :
سبحان من خص العزيز بعزة . . . والناس مستغنون عن أجناسه
وأذل أنفاس الهواء وكل ذى . . . نفس ، فمحتاج إلى أنفاسه
وقوله : - سبحانه - : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب . . } معطوف على محذوف يدل عليه السياق .
والمراد بقوله : { وَلِيَعْلَمَ } أى : وليظهر علمه - تعالى - للناس ، حتى يشاهدوا آثاره .
أى : وأنزل - سبحانه - الحديد لكى يستعملوه فى الوجوه التى شرعها الله وليظهر - سبحانه - أثر علمه حتى يشاهد الناس ، من الذى سيتبع الحق منهم ، فينصر دين الله - تعالى - وينصر رسله ، ويستعمل نعمه فيما خلقت له حالة كونه لا يرى الله - تعالى - بعينيه ، وإنما يتبع أمره ، ويؤمن بوحدانيته ووجوده وعلمه وقدرته .
. . عن طريق ما أوحاه - سبحانه - إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - .
فقوله : { بالغيب } حال من فاعل { يَنصُرُهُ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أى : أن الله - تعالى - هو المتصف بالقوة التى ليس بعدها قوة وبالعزة التى لا تقاربها عزة .
وختمت الآية بهذا الختام ، لأنه هو المناسب لإرسال الرسل ، ولإنزال الكتب والحديد الذى فيه بأس شديد ومنافع للناس .
فكان هذا الختام تعليل لما قبله . أى : لأن الله - تعالى - قوى فى أخذه عزيز فى انتقامه فعل ما فعل من إرسال الرسل ، ومن إنزال الحديد .
وفي النهاية يجيء المقطع الأخير في السورة ، يعرض باختصار خط سير الرسالة ، وتاريخ هذه العقيدة ، من لدن نوح وإبراهيم ؛ مقررا حقيقتها وغايتها في دنيا الناس ؛ ملما بحال أهل الكتاب وأتباع عيسى - عليه السلام - بصفة خاصة .
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب . إن الله قوي عزيز . ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ، فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون . ثم قفينا على آثارهم برسلنا ، وقفينا بعيسى ابن مريم ، وآتيناه الإنجيل ، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ، إلا ابتغاء رضوان الله ، فما رعوها حق رعايتها ، فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
فالرسالة واحدة في جوهرها ، جاء بها الرسل ومعهم البينات عليها ، ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق . وبعضهم أنزل عليه كتاب . والنص يقول : ( وأنزلنا معهم الكتاب )بوصفهم وحدة ، وبوصف الكتاب وحدة كذلك ، إشارة إلى وحدة الرسالة في جوهرها .
( والميزان ) . . مع الكتاب . فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزانا ثابتا ترجع إليه البشرية ، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والرجال ؛ وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة ، وتصادم المصالح والمنافع . ميزانا لا يحابي أحدا لأنه يزن بالحق الإلهي للجميع ، ولا يحيف على أحد لأن الله رب الجميع .
هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل والاضطرابات والخلخلة التي تحيق بها في معترك الأهواء ومضطرب العواطف ، ومصطخب المنافسة وحب الذات . فلا بد من ميزان ثابت يثوب إليه البشر ، فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة . ( ليقوم الناس بالقسط ) . . فبغير هذا الميزان الإلهي الثابت في منهج الله وشريعته ، لا يهتدي الناس إلى العدل ، وإن اهتدوا إليه لم يثبت في أيديهم ميزانه ، وهي تضطرب في مهب الجهالات والأهواء !
( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . .
والتعبير [ بأنزلنا الحديد ] كالتعبير في موضع آخر بقوله : ( وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) . كلاهما يشير إلى إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث ، فهي منزلة بقدره وتقديره . فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الآية ، وهو جو تنزيل الكتاب والميزان ، فكذلك ما خلقه الله من شيء مقدر تقدير كتابه وميزانه .
أنزل الله الحديد ( فيه بأس شديد ) . . وهو قوة في الحرب والسلم ( ومنافع للناس ) . . وتكاد حضارة البشر القائمة الآن تقوم على الحديد . ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) . وهي إشارة إلى الجهاد بالسلاح ؛ تجيء في موضعها في السورة التي تتحدث عن بذل النفس والمال .
ولما تحدث عن الذين ينصرون الله ورسله بالغيب ، عقب على هذا بإيضاح معنى نصرهم لله ورسله ، فهو نصر لمنهجه ودعوته ، أما الله سبحانه فلا يحتاج منهم إلى نصر : ( إن الله قوي عزيز ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِيّ عَزِيزٌ } .
يقول تعالى ذكره : لقد أرسلنا رسلنا بالمفصّلات من البيان والدلائل ، وأنزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع ، والميزان بالعدل . كما :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة الكِتابَ وَالمِيزَانَ قال : الميزان : العدل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْزَلْنا مَعَهُمْ الكِتابَ والميزان بالحق قال : الميزان : ما يعمل الناس ، ويتعاطون عليه في الدنيا من معايشهم التي يأخذون ويعطون ، يأخذون بميزان ، ويعطون بميزان ، يعرف ما يأخذ وما يعطي . قال : والكتاب فيه دين الناس الذي يعملون ويتركون ، فالكتاب للاَخرة ، والميزان للدنيا .
وقوله : لِيَقُومَ النّاسُ بالقِسْطِ يقول تعالى ذكره : ليعمل الناس بينهم بالعدل .
وقوله : وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يقول تعالى ذكره : وأنزلنا لهم الحديد فيه بأس شديد : يقول : فيه قوّة شديدة ، ومنافع للناس ، وذلك ما ينتفعون به منه عند لقائهم العدوّ ، وغير ذلك من منافعه . وقد :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن علباء بن أحمر ، عن عكرِمة عن ابن عباس ، قال : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم صلوات الله عليه : السندان والكلبتان ، والميقعة ، والمطرقة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْزَلْنا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ قال : البأس الشديد : السيوف والسلاح الذي يقاتل الناس بها وَمَنافِعُ للنّاسَ بعد ، يحفرون بها الأرض والجبال وغير ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قوله : وأنْزَلْنا الْحْدَيدَ فِيهِ بأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وجُنَة وسلاح ، وأنزله ليعلم الله من ينصره .
وقوله : وَلِيَعْلَمَ اللّهَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغَيْبِ يقول تعالى ذكره : أرسلنا رسلنا إلى خلقنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعدلوا بينهم ، وليعلم حزب الله من ينصر دين الله ورسله بالغيب منه عنهم .
وقوله : إنّ اللّهَ قَويّ عَزيزٌ يقول تعالى ذكره : إن الله قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة ، وخالف أمره ونهيه ، عزيز ف انتقامه منهم ، لا يقدر أحد على الانتصار منه مما أحلّ به من العقوبة .
استئناف ابتدائي ناشىء عما تقدم من التحريض على الإِنفاق في سبيل الله وعن ذكر الفتح وعن تذييل ذلك بقوله : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } [ الحديد : 24 ] ، وهو إعذار للمتولين من المنافقين ليتداركوا صلاحهم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتدبر في هدي القرآن وإنذار لهم إن يرعووا وينصاعوا إلى الحجة الساطعة بأنه يكون تقويم عوجهم بالسيوف القاطعة وهو ما صرح لهم به في قوله في سورة [ الأحزاب : 60 ، 61 ] { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } وقوله في سورة [ التحريم : 9 ] { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } لئلا يحسبوا أن قوله : { ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } [ الحديد : 24 ] مجرد متاركة فيطمئنوا لذلك .
وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق راجع إلى ما تضمنه الخبر من ذكر ما في إرسال رسل الله وكتبه من إقامة القسط للناس ، ومن التعريض بحمل المعرضين على السيف إن استمروا على غلوائهم .
وجمع ( الرسل ) هنا لإِفادة أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل ، وأن مكابرة المنافقين عماية عن سنة الله في خلقه فتأكيد ذلك مبني على تنزيل السامعين منزلة من ينكر أن الله أرسل رسلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأن حالهم في التعجب من دعواه الرسالة كحال من ينكر أن الله أرسل رسلاً من قبل . وقد تكرر مثل هذا في مواضع من القرآن كقوله تعالى : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } [ آل عمران : 183 ] .
والبينات : الحجج الدالّة على أن ما يدعون إليه هو مراد الله ، والمعجزات داخلة في البينات .
وتعريف { الكتاب } تعريف الجنس ، أي وأنزلنا معهم كتباً ، أي مثل القرآن .
وإنزال الكتاب : تبليغ بواسطة المَلك من السماء ، وإنزال الميزان : تبليغ الأمر بالعدل بين الناس .
والميزان : مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما ، قال تعالى : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [ النساء : 58 ] . وهذا الميزان تبيّنه كُتب الرسل ، فذكره بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام أمور البشر كقوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } [ النساء : 105 ] وليس المراد أن الله ألهمهم وضع آلات الوزن لأن هذا ليس من المهم ، وهو مما يشمله معنى العدل فلا حاجة إلى التنبيه عليه بخصوصه .
ويتعلق قوله : { ليقوم الناس بالقسط } بقوله : { وأنزلنا معهم } .
والقيام : مجاز في صلاح الأحوال واستقامتها لأنه سبب لتيسير العمل وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في أوائل [ البقرة : 3 ] .
والقسط : العدل في جميع الأمور ، فهو أعم من الميزان المذكور لاختصاصه بالعدل بين متنازعين ، وأما القسط فهو إجراء أمور الناس على ما يقتضيه الحق فهو عدل عام بحيث يقدر صاحب الحق منازعاً لمن قد احتوى على حقه .
ولفظ القسط مأخوذ في العربية من لفظ قسطاس اسم العدل بلغة الرُّوم ، فهو من المعرّب وروي ذلك عن مجاهد .
والباء للملابسة ، أي يكون أمر الناس ملابساً للعدل ومماشياً للحق ، وإنزال الحديد : مستعار لخلق معدنه كقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] ، أي خلق لأجلكم وذلك بإلهام البشر استعماله في السلاح من سيوف ودروع ورماح ونبال وخُوذ وَدَرَق ومَجَانّ . ويجوز أن يراد بالحديد خصوص السلاح المتخذ منه من سيوف وأسنة ونبال ، فيكون إنزاله مستعاراً لمجرد إلهام صنعه ، فعلى الوجه الأول يكون ضمير { فيه بأس شديد } عائداً إلى الحديد باعتبار إعداده للبأس فكأن البأس مظروف فيه .
والبأس : الضر . والمراد بأس القتل والجرح بآلات الحديد من سيوف ورماح ونبال ، وبأسُ جُرأة الناس على إيصال الضر بالغير بواسطة الواقيات المتخذة من الحديد .
والمنافع : منافع الغالب بالحديد من غنائم وأسرى وفتح بلاد .
ويتعلق قوله : { للناس } بكلَ من { بأس } و { منافع } على طريقة التنازع ، أي فيه بأس لِنَاس ومنافع لآخرين فإن مصائب قوم عند قوم فوائد .
والمقصود من هذا لفت بصائر السامعين إلى الاعتبار بحكمة الله تعالى من خَلق الحديد وإلهامِ صنعه ، والتنبيه على أن ما فيه من نفع وبأس إنما أريد به أن يوضع بأسه حيث يستحق ويوضع نفعه حيث يليق به لا لتجعل منافعه لمن لا يستحقها مثل قطّاع الطريق والثوار على أهل العدل ، ولتجهيز الجيوش لحماية الأوطان من أهل العدوان ، وللادخار في البيوت لدفع الضاريات والعاديات على الحُرم والأموال .
وكان الحكيم ( انتيثنوس ) اليوناني تلميذ سقراط إذا رأى امرأة حالية متزينة في أثينا يذهب إلى بيت زوجها ويسأله أن يريه فرسه وسلاحه فإذا رآهما كاملين أذن لامرأته أن تتزين لأن زوجها قادر على حمايتها من داعرٍ يغتصبها ، وإلا أمرها بترك الزينة وترك الحلي .
وهذا من باب سد الذريعة ، لا ليجعل بأسه لإِخضاد شوكة العدل وإرغام الآمرين بالمعروف على السكوت ، فإن ذلك تحريف لما أراد الله من وضع الأشياء النافعة والقارة ، قال تعالى : { والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] ، وقال على لسان أحد رسله { إن أُريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] .
وقد أومَا إلى هذا المعنى بالإِجمال قوله : { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } ، أي ليظهر للناس أثر علم الله بمن ينصره ، فأطلق فعل { ليعلم } على معنى ظُهور أثر العلم كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلتُ والخطيُّ يخطر بيننا *** لأَعْلَمَ مَن جَبانُها من شُجاعها
أي ليظهر للناس الجبان والشجاع ، أي فيعلموا أني شجاعهم .
ونصرُ الناس الله هو نصرهم دينه ، وأما الله فغني عن النصر ، وعطف { ورسله } ، أي من ينصر القائمين بدينه ، ويدخل فيه نصر شرائع الرسول صلى الله عليه وسلم بعده ونصر ولاة أمور المسلمين القائمين بالحق .
وأعظم رجل نصر دين الله بعد وفاة رسوله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق في قتاله أهل الردة رضي الله عنه .
وقوله : { بالغيب } يتعلق ب { ينصره } ، أي ينصره نصراً يدفعه إليه داعي نفسه دون خشية داع يدعوه إليه ، أو رقيب يرقب صنيعه والمعنى : أنه يجاهد في سبيل الله والدفاع عن الدين بمحض الإِخلاص .
وقد تقدم ذكر الحديد ومعدنه وصناعته في تفسير قوله تعالى : { آتوني زبر الحديد } في سورة [ الكهف : 96 ] .
وجملة { إن الله قوي عزيز } تعليل لجملة { أرسلنا رسلنا بالبينات } إلى آخرها ، أي لأن الله قوي عزيز في شؤونه القدسية ، فكذلك يجب أن تكون رسله أقوياء أعزة ، وأن تكون كتبه معظمة موقرة ، وإنما يحصل ذلك في هذا العالم المنوطة أحداثه بالأسباب المجعولة بأن ينصره الرسل وأقوام مخلصون لله ويُعينوا على نشر دينه وشرائعه .
والقوي العزيز : من أسمائه تعالى . فالقوي : المتصف بالقوة ، قال تعالى : { ذو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] وتقدم القوي في قوله : { إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] .
والعزيز : المتصف بالعزة ، وتقدمت في قوله : { إن العزة لله جميعاً } في سورة يونس وقوله : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 209 ] .