أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو عمر بكر بن محمد المزني ، أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الحفيد ، أنا الحسين بن الفضل البجلي ، أنا عفان ، أنا همام ، أنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا يظلم مؤمنا حسنةً ، يعطى بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة ) .
قال : وأما الكفار فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أبو الطيب الربيع بن محمد بن أحمد بن حاتم البزار الطوسي ، أنا أحمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن يحيى حدثهم ، أخبرنا عبد الرزاق( ح ) وأخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن يزيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا ، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار ) . قال : يقولون ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ، ويصومون معنا ، ويحجون معنا ، فأدخلتهم النار ، قال : فيقول الله لهم : اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم ، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل النار صورهم ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم ، فيقولون : ربنا قد أخرجنا من أمرتنا ، قال : ثم يقول : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرة من خير ، قال أبو سعيد رضي الله عنه : من لم يصدق هذا فليقرأ هذه الآية : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } قال : فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا فلم يبق في النار أحد فيه خير ، ثم يقول الله عز وجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيون ، وشفع المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ، قال : فيقبض قبضة من النار ، -أو قال : قبضتين من النار- فيخرج منها قوما لم يعملوا لله خيراً قط قد احترقوا حتى صاروا حمماً ، فيؤتى بهم إلى ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، قال : فتخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ ، في أعناقهم الخاتم مكتوب فيه : هؤلاء عتقاء الله ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة ، فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم ، قال : فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ؟ قال : فيقول فإن عندي لكم أفضل منه ، فيقولون : ربنا وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : رضاي عنكم ، فلا أسخط عليكم أبداً .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن ليث بن سعد حدثني عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن المعافري ثم الجيلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعةً وتسعين سجلاً ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول الله : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : ألك عذر أو حسنة ؟ فبهت الرجل ، قال : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة ، وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : احضر وزنك ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : فلا يثقل مع اسم الله شيء .
وقال قوم : هذا في الخصوم . وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد : ألا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه ، فيفرح المرء أن يذوب له الحق على والده ، أو ولده ، أو زوجته ، أو أخيه ، فيأخذ منه وإن كان صغيرا .
ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } ، ويؤتى بالعبد فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان بن فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقه فيأخذه ، ويقال : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله عز وجل لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها ، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة : ربنا بقى له مثقال ذرة من حسنة ، فيقول : ضعفوها لعبدي وادخلوه بفضل رحمتي الجنة . ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنةً يضاعفها } .
وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة : إلهنا فنيت حسناته ، وبقي طالبون ، فيقول الله عز وجل : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكاً في النار .
فمعنى الآية على هذا التأويل ، إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم بل يأخذ له منه ، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له ، بل يثيبه عليها ويضعفها له ، قوله تعالى : { وإن تك حسنةً يضاعفها } ، قرأ أهل الحجاز{ حسنة } بالرفع ، أي : وإن توجد حسنة ، وقرأ الآخرون بالنصب على معنى : وإن تك زنة الذرة حسنةً يضاعفها ، أي : يجعلها أضعافاً كثيرة .
قوله تعالى : { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } . قال أبو هريرة رضي الله عنه : إذا قال الله تعالى ( أجراً عظيماً ) فمن يقدر قدره ؟
ثم بين - سبحانه - أنه منزه عن الظلم بعد أن أقام الحجة على الظالمين ، ودعاهم إلى سلوك طريق الخير ، فقال { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } .
والمثقال : مفعال من الثقل . ويطلق على الشئ القليل الذى يحتمل الوزن .
والذرة : تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذى يتطاير من التراب عند النفخ .
وهذا أحقر ما يقدر به الشئ ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى .
والمراد : أن الله - تعالى - لا ينقص أحدا من ثواب عمله شيئا مهما ضؤل هذا الشئ وحقر ، فخرج الكلام على أصغر شئ يعرفه الناس . كما قال - تعالى - { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما فى قوله - تعالى - { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }
ومفعول يظلم محذوف والتقدير : لا يظلم أحدا مثقال ذرة .
وقوله { مِثْقَالَ } منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أى لا يظلم أحد ظلما وزن ذرة . كما تقول : لا أظلم قليلا ولا كثيرا .
وقوله { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } بيان لسعة جوده - سبحانه - وعظيم رحمته وعفوه .
وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حَسَنَةً } - بالضم - على أن { تَكُ } مضارع كان التامة أى وإن توجد أو تحصل حسنة يضاعفها .
وقرأ الباقون { حَسَنَةً } - بالنصب - على أنها خبر لقوله { تَكُ } المشتقة من كان النقاصة . وأصل { تَكُ } تكن فحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة ، وتخفيفا لكثرة الاستعمال .
والضمير المستتر فى الفعل " تلك " يعود إلى المثقال . وجئ به مؤنثا مراعاة للفظ ذرة الذى أضيف إليه لفظ مثقال ؛ لأن لفظ مثقال مبهم لا يميزه إلا لفظ ذرة فكان كالمستغنى عنه .
وقيل : إنما جئ به مؤنثا حملا على المعنى ، لأنه بمعنى : وإن تك زنة ذرة حسنة يضاعفها .
وقيل : إنما جئ به كذلك لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه كما فى نحو قولهم : كما شرقت صدر القناة من الدم . .
والمعنى : إن الله - تعالى - بفضله وجوده لا يظلم الناس شيئا ، ولا ينقصهم أى نقص من ثواب أعمالهم بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } أى وإن تك الفعلة الحسنة بالغة فى القلة مثقال ذرة يضاعف ثوابها بكرمه وجوده أضعافا كثيرة . وفوق ذلك فإنه - سبحانه - يعطى من يشاء إعطاءه عطاء عظيما من عنده ولا يعلم مقدار هذا العطاء إلا هو - سبحانه .
وفى إضافة هذا العطاء العظيم إلى ذاته - تعالى - فى قوله { مِن لَّدُنْهُ } تشريف له ، وتهويل من شأنه .
وسماه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح الذى عمله عباده المؤمنون الصادقون . هذا ، وقد أورد الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث فى معنى هذه الآية ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة الطويل وفيه : فيقول الله - تعالى - لملائكته ! ارجعوا . فمن وجدتم فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقا كثيرا . ثم يقول أبو سعيد : اقرؤا إن شئتم قوله - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } .
وروى أبو دواد الطيالسى فى مسنده عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة . يثاب عليها الرزق فى الدنيا . ويجزى بها فى الآخرة . وأما الكافر فيطعم بها فى الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " .
والله عليم بهم بما أنفقوا وبما استقر في قلوبهم من بواعث . والله لا يظلم مثقال ذرة فلا خشية من الجهل بإيمانهم وإنفاقهم . ولا خوف من الظلم في جزائهم . . بل هناك الفضل والزيادة ، بمضاعفة الحسنات ، والزيادة من فضل الله بلا حساب ؟
إن طريق الإيمان أضمن وأكسب - على كل حال وعلى كل احتمال - وحتى بحساب الربح المادي والخسارة المادية ، فإن الإيمان - في هذه الصورة - يبدو هو الأضمن وهو الأربح ! فماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ إنهم لا ينفقون من شيء خلقوه لأنفسهم خلقا ؛ إنما هو رزق الله لهم . ومع ذلك يضاعف لهم الحسنة ؛ ويزيدهم من فضله ، وهم من رزقه ينفقون ويعطون ! فياله من كرم ! وياله من فيض ! ويالها من صفقة لا يقعد عنها إلا جاهل خسران !
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاَخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ، فإن الله لا يبخس أحدا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه من ثواب نفقته في الدنيا ولا من أجرها يوم القيامة { مِثْقَالَ ذَرّةٍ } أي ما يزنها ويكون على قدر ثقلها في الوزن ، ولكنه يجازيه به ، ويثيبه عليه . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أنه تلا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } قال : لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان بعض أهل العلم يقول : لأن تفضل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذرّة أحبّ إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعا .
وأما الذرّة ، فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها ، كما :
حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { مِثْقالَ ذَرّةٍ } قال : رأس نملة حمراء .
قال لي إسحاق بن وهب : قال يزيد بن هارون : زعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن . وبنحو الذي قلنا في ذلك صحت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً ، يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا وُيجْزَى بها فِي الاَخِرَةِ¹ وأمّا الكافِرُ فَيُطْعَمُ بها فِي الدّنْيا ، فإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ لَمْ تَكُنْ لَه حَسَنَةً » .
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، قال : أخبرنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : «وَالّذِي نَفْسي بِيَدِهِ ما أحَدُكُمْ بِأشَدّ مُناشَدَةً فِي الحَقّ يَرَاه مُصيبا لَه ، مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي إخْوَانِهِمْ إذَا رأوْا أنْ قَدْ خَلَصُوا مِنَ النّار يَقُولُونَ : أيْ رَبّنا إخْوَانُنا كانُوا يُصَلّونَ مَعَنا وَيَصُومُونَ مَعَنا وَيحُجّونَ مَعَنا ويُجاهِدُونَ مَعَنا ، قَدْ أخَذَتْهُمُ النّارُ ! فَيَقُولُ اللّهُ لَهُمْ : اذْهَبُوا فَمَنْ عَرَفْتُمْ صورَتَه فأخْرِجُوه ! ويحَرّمُ صورَتهُمْ على النّارِ ، فَيَجِدونَ الرّجُلَ قَدْ أخَذَتْه النّارُ إلى أنْصَاف ساقَيْهِ وإلى رُكْبَتَيْهِ وإلى حَقْوَيْهِ ، فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَيَقُولُ : اذْهَبُوا لِمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ قِيرَاطِ خَيْرٍ فأخْرِجُوهُ ! فَيُخْرِجُونَ مِنْها بَشَرا كَثِيرا ، ثُمّ يَعُودُونَ فَيَتَكَلّمُونَ ، فَلا يَزَالُ يَقولُ لَهُمْ ذَلِكَ حتى يَقُولَ : اذْهَبُوا ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقالَ ذَرّةٍ فأخْرِجُوهُ ! » فكان أبو سعيد إذا حدّث بهذا الحديث ، قال : إن لم تصدّقوا فاقرءوا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عظيما } فيقولون : «رَبّنا لم نَذَرْ فيها خَيْرا » .
وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث عن خالد بن يزيد ، عن ابن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، قال : أتيت ابن مسعود ، فقال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والاَخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : «ألا من كان يطلب مظلمة ، فليجىءْ إلى حقه فليأخذه ! » قال : فيفرح والله الصبيّ أن يذوب له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته ، فيأخذه منه وإن كان صغيرا . ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى : { فإذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلا أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيقال له : «آت هؤلاء حقوقهم » أي أعطهم حقوقهم . فيقول : أي ربّ من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله لملائكته : أي ملائكتي انظروا في أعماله الصالحة ، وأعطوهم منها ! فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك منها : يا ربنا أعطيْنا كلّ ذي حقّ حقه ، وبقي له مثقال ذرّة من حسنة . فيقول للملائكة : ضعّفوها لعبدي ، وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة ! ومصداق ذلك في كتاب الله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطيها . وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته ، قالت الملائكة وهو أعلم بذلك : إلهنا فنيت حسناته وبقي سيئاته ، وبقي طالبون كثير ! فيقول الله : ضعوا عليها من أوزارهم واكتبوا له كتابا إلى النار ! قال صدقة : «أو صكّا إلى جهنم » ، شكّ صدقة أيتهما قال .
وحُدثت عن محمد بن عبيد ، عن هارون بن عنترة ، عن عبد الله بن السائب ، قال : سمعت زاذان يقول : قال عبد الله بن مسعود : يأخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة ، فينادي منادٍ على رؤوس الأوّلين والاَخرين : هذا فلان ابن فلان ، من كان له حقّ فليأت إلى حقه ! فتفرح المرأة أن يذوب لها الحقّ على أبيها ، أو على ابنها ، أو على أخيها ، أو على زوجها ، ثم قرأ ابن مسعود : { فَلا أنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ } فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصب للناس فيقول : آتوا إلى الناس حقوقهم ! فيقول : ربّ فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم ؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مظلمته ، فإن كان وليا لله ، ففضل له مثقال ذرّة ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة ! ثم قرأ علينا : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ } وإن كان عبدا شقيا قال الملك : ربّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير . فيقول : خذوا من سيئاتهم ، فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكّوا له صَكّا إلى النار .
قال أبو جعفر : فتأويل الاَية على تأويل عبد الله هذا : إن الله لا يظلم عبدا وجب له مثقال ذرّة قِبَل عبد له آخر في معاده ويوم لقائه فما فوقه فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه ، ولكنه يأخذه منه له ، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَلَهُ . { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها } يقول : وإن توجد له حسنة يضاعفها ، بمعنى : يضاعف له ثوابها وأجرها . { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } يقول : ويعطه من عنده أجرا عظيما . والأجر العظيم : الجنة على ما قاله عبد الله .
ولكلا التأويلين وجه مفهوم ، أعنى التأويل الذي قاله ابن مسعود والذي قاله قتادة . وإنما اخترنا التأويل الأوّل لموافقته الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته ، إذ كان في سياق الاَية التي قبلها ، التي حثّ الله فيها على النفقة في طاعته ، وذمّ النفقة في طاعة الشيطان ، ثم وصل ذلك بما وعد المنافقين في طاعته بقوله : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } . فقرأت ذلك عامة قرّاء العراق : { وَإنْ تَكُ حَسَنَةً } بنصب الحسنة ، بمعنى : وإن تك زنة الذرّة حسنة يضاعفها . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة : «وَإنْ تَكُ حَسَنَةٌ » برفع الحسنة ، بمعنى : وإن توجد حسنة على ما ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك . وأما قوله : { يُضَاعِفْها } فإنه جاء بالألف ، ولم يقل : «يضعفها » ، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية : يضاعفها أضعافا كثيرة¹ ولو أريد به في قوله يضعف ذلك ضعفين لقيل : «يضعّفها » بالتشديد .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الاَية ما وعدهم فيها ، فقال بعضهم : هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم . واعتلوا في ذلك بما :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن مبارك بن فضالة ، عن عليّ بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، قال : لقيت أبا هريرة فقلت له : إنه بلغني أنك تقول : إن الحسنة لتضاعف ألف ألف حسنة ! قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعته يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ اللّهَ لَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ ألْفَيْ ألْفِ حَسَنَةَ » .
وقال آخرون : بل ذلك المهاجرون خاصة دون أهل البوادي والأعراب . واعتلوا في ذلك بما :
حدثني محمد بن هارون أبو نشيط ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : نزلت هذه الاَية في الأعراب : { مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فَلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } قال : فقال رجل : فما للمهاجرين ؟ قال : «ما هُوَ أعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : { إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرّةٍ وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها وَيُؤتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } وإذَا قال الله لشيءٍ عَظِيمٌ فهَوُ عَظِيم » .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى بهذه الاَية المهاجرين دون الأعراب . وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضا ، فإذا كان صحيحا وعد الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له ، وكان الخبران اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحين ، كان غير جائز إلا أن يكون أحدهما مجملاً والاَخر مفسرا ، إذ كانت أخباره صلى الله عليه وسلم يصدّق بعضها بعضا . وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن خبر أبي هريرة معناه : إن الحسنة لتضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألف حسنة ، وللأعراب منهم عشر أمثالها ، على ما رَوَى ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ وأن قوله : { مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا } يعني : من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم يضاعف له ، ويؤته الله من لدنه أجرا ، يعني : يعطه من عنده أجرا عظيما ، يعني : عوضا من حسنته عظيما . وذلك العوض العظيم : الجنة¹ كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا صدقة بن أبي سهل ، قال : حدثنا أبو عمرو ، عن زاذان ، عن ابن مسعود : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } : أي الجنة يعطها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عباد بن أبي صالح ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : الأجر العظيم : الجنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرا عَظِيما } قال : أجرا عظيما : الجنة .
{ مثقال } مفعال من الثقل ، و «الذرة » : الصغيرة الحمراء من النمل ، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول ، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى ، تقول العرب : أفعى جارية ، وهي أشدها ، وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
من الْقَاصِرات الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحِولٌ مِنَ الذَّرِّ فَوقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرا{[4036]}
فالمحول الذي أتى عليه حول . وقال حسان : [ الخفيف ]
لو يَدبُّ الحوليُّ من ولد الذ *** ر عليها لأنْدَبَتْها الكلومُ{[4037]}
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء » وهي عبارة فاسدة ، وروي عن ابن عباس : «الذرة » رأس النملة ، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة »{[4038]} و { مثقال } مفعول ثان ل { يظلم } ، والأول مضمر التقدير ، أن الله لا يظلم أحداً مثقال و { يظلم } لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد ، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما يتعدى إلى مفعولين ، كأنه قال : إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب ، ويصح أن يكون نصب { مثقال } على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي ، فيجيء على هذا نعتاً لمصدر محذوف ، التقدير : إن الله لا يظلم ظلماً مثقال ذرة ، كما تقول : إن الأمير لا يظلم قليلاً ولا كثيراً ، أي لا يظلم ظلماً قليلاً ولا كثيراً ، فعلى هذا وقف { يظلم } على مفعول واحد ، وقال قتادة عن نفسه ، ورواه عن بعض العلماء ، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليَّ من الدنيا جميعاً ، وحذفت النون من { تكن } لكثرة الاستعمال ، وشبهها خفة بحروف المد واللين ، وقرأ جمهور السبعة «حسنةً » بالرفع على نقصان «كان » واسمها مضمر تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة ، وقرأ نافع وابن كثير «حسنةٌ » بالرفع على تمام «كان » التقدير : وإن تقع حسنة أو توجد حسنة ، و { يضاعفها } جواب الشرط ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها » مشددة العين بغير ألف ، قال ابو علي : المعنى فيهما واحد ، وهما لغتان ، وقرأ الحسن «يضْعفها » بسكون الضاد وتخفيف العين ، ومضاعفة الشيء في كلام العرب : زيادة مثله إليه ، فإذا قلت : ضعفت فقد أتيت ببنية التكثير ، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي{[4039]} مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد ، وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير ، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين فما زاد ، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه ، وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب المجاز : أن «ضاعفت » يقتضي مراراً كثيرة ، وضعفت يقتضي مرتين ، وقال مثله الطبري ومنه نقل ، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى ما قرىء به في قوله { فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } {[4040]} ، فإنه قرىء «يضاعفه ويضعفه » وما قرىء به في قوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين }{[4041]} [ الأحزاب : 30 ] فإنها قرىء «يضعف لها العذاب ضعفين » وقال بعض المتأولين : هذه الآية خص بها المهاجرون ، لأن الله أعلم في كتابه : أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار ، وأعلم في هذه : أنها مضاعفة مراراً كثيرة جداً حسب ما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة ، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف مرة{[4042]} ، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران ، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين ، حسبما روى عبد الله بن عمر : أنها لما نزلت { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها }{[4043]} في الناس كافة قال رجل : فما للمهاجرين ؟ فقال ما هو أعظم من هذا { إن الله لا يظلم }{[4044]} الآية فخصوا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف سبعمائة مرة{[4045]} ، ولا يقع تضاد في الخبر ، وقال بعضهم : بل وعد بذلك جميع المؤمنين ، وروي في ذلك أحاديث ، وهي : أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فينادي هذا فلان بن فلان ، فمن كان له عنده حق فليقم قال : فيحب الإنسان لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه ، فيأتي كل من له حق فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف ، ولا يبقى له إلا وزن الذرة ، فيقول الله تعالى : أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة{[4046]} ، وهذا يجمع معاني ما روي مما لم نذكره ، والآية تعم المؤمنين والكافرين فأما المؤمنون فيجازون في الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم ، و { لدنه } معناه من عنده ، قال سيبويه : ولدن : هي لابتداء الغاية ، فهي تناسب أحد مواضع من ، ولذلك التأما ودخلت { من } عليها{[4047]} ، والأجر العظيم : الجنة ، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد ، والله إذا منَّ بتفضله بلغ بعبده الغاية{[4048]} .
استئناف بعد أن وصف حالهم ، وأقام الحجّة عليهم ، وأراهم تفريطهم مع سهولة أخذهم بالحيطة لأنفسهم لو شاءوا ، بيّن أنّ الله منزّه عن الظلم القليل ، بله الظلم الشديد ، فالكلام تعريض بوعيد محذوف هو من جنس العقاب ، وأنّه في حقّهم عدل ، لأنّهم استحقّوه بكفرهم ، وقد دلّت على ذلك المقدّر أيضاً مقابلته بقوله : { وإن تك حسنة } ولمّا كان المنفي الظلم ، على أنّ ( مثقال ذرّة ) تقدير لأقلّ ظلم ، فدلّ على أنّ المراد أنّ الله لا يؤاخذ المسيء بأكثر من جزاء سيّئته .
وانتصب { مثقال ذرة } بالنيابة عن المفعول المطلق ، أي لا يظلم ظُلما مقدّراً بمثقال ذرّة ، والمثقال ما يظهر به الثِّقَل ، فلذلك صيغَ على وزن اسم الآلة ، والمراد به المقدار .
والذَّرة تطلق على بيضة النمْلة ، وعلى ما يتطاير من التراب عند النفخ ، وهذا أحقر ما يقدُر به ، فعلم انتفاء ما هو أكثر منه بالأولى . وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر { حسنة } بالرفع على أنّ ( تك ) مضارع كان التامّة ، أي إن تُوجَدْ حسنةٌ . وقرأه الجمهور بنصب { حسنة } على الخبرية ل { تَكُ } على اعتبار كان ناقصة ، واسم كان المُسْتتر عائد إلى مثقال ذرّة ، وجيء بفعل الكون بصيغة فِعل المؤنث مراعاةً لفظ ذرّة الذي أضيف إليه مثقالُ ، لأنّ لفظ مثقال مبهم لا يميّزه إلاّ لفظ ذرّة فكان كالمستغنى عنه .
والمضاعفة إضافة الضّعف بكسر الصاد أي المِثْل ، يقال : ضاعف وضَعَّف وأضْعَفَ ، وهي بمعنى واحد على التحقيق عند أيمّة اللغة ، مثل أبي علي الفارسي . وقال أبو عُبيدة ضاعف يقتضي أكثر من ضِعْفٍ واحد وضعّف يقتضي ضعفين . وردّ بقوله تعالى : { يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] . وأمّا دلالة إحدى الصيغ الثلاث على مقدار التضعيف فيؤخذ من القرائن لحكمة الصيغة . وقرأ الجمهور : { يضاعفها } ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر : { يُضَعِّفها } بدون ألف بعد العين وبتشديد العين .
والأجر العظيم ما يزاد على الضعف ، ولذلك أضافه الله تعالى إلى ضمير الجلالة ، فقال : { من لدنه } إضافة تشريف . وسمّاه أجرا لكونه جزاء على العمل الصالح ، وقد روي أنّ هذا نزل في ثواب الهجرة .