قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } . أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : إذ قال له ربه أسلم { قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكما قال : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران :83 ] وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة ، منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] . وقال الحسن والسدي : أراد به محمداً ، صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً } [ النحل :120 ] .
قوله تعالى : { للذين هادوا } ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادو . ويقل هو على موضعه ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال { وإن أسأتم فلها } أي : فعليها ، وقال : { أولئك لهم اللعنة } [ الرعد :25 ] أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا ، فحذف أحدهما اختصارً . قوله تعالى : { والربانيون والأحبار } ، يعني العلماء ، واحدها حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم في الشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال ، بفتح الحاء وكسرها ، في الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود .
قوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } أي ، استودعوا من كتاب الله .
قوله تعالى : { وكانوا عليه شهداء } ، . أنه كذلك .
قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة ، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم . وقال ابن عباس وطاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله به كافر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر . قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق ، وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا ورد نص حكم الله عياناً عمدا ، فأما من خفي عليه ، أو أخطأ في تأويل فلا .
وبعد أن وصف الله - تعالى - اليهود وأشباههم بجملة من الصفات القبيحة ، كمسارعتهم في الكفر . وكثرة سماعهم للكذب ، وتحريفهم للكلم عن مواضعه ، وتهافتهم على أكل السحت . وبعد أن خير رسوله صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم إذا ما تحاكموا إليه ، وبعد أن عجب كل عاقل من أحوالهم . بعد كل ذلك شرع - سبحانه - في بيان منزلة التوراة وفي بيان بعض ما اشتملت عليه من أحكام فقال - تعالى - :
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا . . . }
قوله - تعالى - : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } بيان لشرف التوراة قبل أن تمتد إليها الأيدي الأثيمة بالتحريف والتبديل . ويدل على شرفها وعلو مقامها أن الله - تعالى - هو الذي أنزلها لا غيره ، وأنه - سبحانه - جعلها مشتملة على الهدى والنور . والمراد بالهدى ، ما اشتملت عليه من بيان للأحكام والتكاليف والشرائع التي تهدي الناس إلى طريق السعادة .
والمراد بالنور : ما اشتملت عليه من بيان للعقائد السليمة ، والمواعظ الحكيمة ، والأخلاق القويمة .
والمعنى إنا أنزلنا التوراة على نبينا موسى - عليه السلام - مشتملة على ما يهدي الناس إلى الحق من أحكام وتكاليف وعلى ما يضئ لهم حياتهم من عقائد ومواعظ وأخلاق فاضلة .
ثم بين - سبحانه - بعض الوظائف التي جعلها للتوراة فقال : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } .
والمراد بقوله : { النبيون } من بعثهم الله في بني إسرائيل من بعد موسى لإِقامة التوراة .
وقوله : الذين أسلموا صفة للنبيين . أي : أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة والطاعة .
وعن الحسن والزهري وقتادة : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه حكم على اليهوديين الذين زنيا بالرجم ، وكان هذا حكم التوراة . وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له .
وقال ابن الأنباري : هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون : الأنبياء كلهم يهود أو نصارى - فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } يعني أن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية أو النصرانية ، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه .
وقوله : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي : رجعوا عن الكفر . والمراد بهم اليهود . واللام للتعليل .
وقوله : { والربانيون } معطوف على ( النبيون ) وهو جمع رباني . وهم - كما يقول ابن جرير - العلماء والحكماء البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم ، والقيام بمصالحهم .
وقوله : ( الأحبار ) معطوف أيضاً على ( النبيون ) .
قال القرطبي ما ملخصه : والأحبار : قال ابن عباس : هم الفقهاء . والحبر بالفتح والكسر - الرجل العالم وهو مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، قفهم يحبرون العلم .
أي : يبينونه ، وهو محبر في صدورهم .
والباء في قوله : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } متعلقة بقوله { يَحْكُم } .
وقوله { استحفظوا } من الاستحفاظ بمعنى طلب الحفظ بعناية وفهم ، إذ أن السين والتاء للطلب ، والضمير في { استحفظوا } يعود على النبيين والربانيين والأحبار .
والمعنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هداية للناس إلى الحق ، وضاء لهم من ظلمات الباطل ، وهذه التوراة يحكم بها بين اليهود أنبياءهم الذين أسلموا وجوههم لله ، وأخلصوا له العبادة والطاعة ، ويحكم أيضاً بينهم الربانيون والأحبار الذين هم خلفاء الأنبياء . وكان هذا الحكم منهم بالتوراة بين اليهود ، بسبب أنه - تعالى - حملهم أمانة حفظ كتابه ، وتنفيذ احكامه وشرائعه وتعاليمه .
ويصح أن يكون قوله { بِمَا استحفظوا } متعلقا بالربانيين والأحبار ، وأن يكون الضمير عائدا عليهم وحدهم . أي : على الربانيين والأحبار ويكون الاستحفاظ بمعنى أن الأنبياء قد طلبوا منهم حفظه وتطبيق أحكامه .
والمعنى : كذلك الربانيون والأحبار كانوا يحكمون بالتوراة بين اليهود . بسبب أمر أنبيائهم إياهم بأن يحفظوا كتاب الله من التغيير والتبديل .
وقوله : { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } معطوف على { استحفظوا } .
أي : وكان الأنبياء والربانيون والأحبار شهداء على الكتاب الذي أنزله الله - وهو التوراة - بأنه حق ، وكانوا رقباء على تنفيذ حدوده ، وتطبيق أحكامه حتى لا يهمل شيء منها .
قال الفخر الرازي قوله : { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } : حفظ كتاب الله على وجهين :
وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من وجهين .
أحدهما : أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم .
والثاني : ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه .
وقوله : { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها من التحريف والتغيير .
ثم أمر الله - تعالى - اليهود - ولا سيما علماءهم وفقهاءهم - أن يجعلوا خشيتهم منه وحده .
وألا يبيعوا دينهم بدنياهم فقال - تعالى - : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
والخشية - كما يقول الراغب - خوف يشوبه تعظيم ، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه ، ولذلك خص العلماء بها في قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } وكأن الراغب - رحمه الله - يريد أن يفرق بين الخوف والخشية فهو يرى أن الخشية خوف يشوبه تعظيم ومحبة للمخشى بخلاف الخوف فهو أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب أو مرهوب مبغوض مذموم .
والفاء في قوله { فَلاَ تَخْشَوُاْ } للإِفصاح عن كلام مقدر .
والمعنى : إذا كان الأمر كما ذكر من أن الله - تعالى - قد أنزل التوراة لتنفيذ أحكامها ، وتطبيق تعاليمها . . فمن الواجب عليكم يا معشر اليهود أن تقتدوا بأنبيائكم وصلحائكم في ذلك ، وأن تستجيبوا للحث الذي جاء به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلوا خشيتكم منى وحدي لا من أحد من الناس ، فأنا الذي بيدي نفع العباد وضرهم .
وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } معطوف على قوله { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } والاشتراء هنا المراد به الاستبدال .
والمراد بالآيات : ما اشتملت عليه التوراة من أحكام وتشريعات وبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالثمن القليل : حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه وما إلى ذلك من متع الحياة الدنيا .
أي : ولا تستبدلوا بأحكام آياتي التي اشتملت عليها التوراة احكاماً أخرى وتغريرها وتخالفها ، لكي تأخذوا في مقابل هذا الاستبدال ثمنا قليلا من حظوظ الدنيا وشهواتها كالمال والجاه وما يشبه ذلك .
وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل في مقابل استبدال الآيات ؛ لأنه لا يكون إلا قليلا - وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا - بالنسبة لطاعة الله ، والرجاء في رحمته ورضاه .
وهذا النهي الذي اشتملت عليه هاتان الجملتان الكريمتان : { فَلاَ تَخْشَوُاْ } { وَلاَ تَشْتَرُواْ } وإن كان موجها في الأصل إلى رؤساء اليهود وأحبارهم . إلا أنه يتناول الناس جميعا في كل زمان ومكان ، لأنه نهى عن رذائل يجب أن يبتعد عنها كل إنسان يتأتى له الخطاب .
وإلى هذا المعنى أشار الآلوسي بقوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات - إذ انتقل من الحديث عن الأحبار السابقين منهم إلى خطاب هؤلاء المعاصين للنبي صلى الله عليه وسلم ويتناول غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة .
ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان سوء عاقبة من يفعل فعل اليهود ، فيحكم بغير شريعة الله فقال - تعالى - { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } .
أي : كل من رغب عن الحكم بما أنزل الله : وقضى بغيره من الأحكام ، فأولئك هم الكافرون بما أنزله - سبحانه - لأنهم كتموا الحق الذي كان من الواجب عليهم إظهاره والعمل به . والجملة الكريمة - كما يقول الآلوسي - تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير ، وتحذير من الإِخلال به أشد تحذير .
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية ما يأتي :
1 - سمو منزلة التوراة التي أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام ، فقد أضاف - سبحانه - إنزالها إليه ، فكان لهذه الإِضافة مالها من الدلالة على علو مقامها ، كما بين - سبحانه - شرفها الذاتي بذكر ما اشتملت عليه من هداية إلى الحق ، ومن نور يكشف للناس ما اشتبه عليهم من أمور دينهم ودنياهم .
وهذا السمو إنما هو للتوراة التي لم تمتد إليها أيدي اليهود بالتحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان . أما تلك التوراة التي بين أيديهم الآن ، والتي دخلها من التحريف ما دخلها فهي عارية عن الثقة في كثير مما اشتملت عليه من قصص وأحكام .
2 - قال الفخر الرازي : " دلت الآية على أنه يحكم بالتوارة النبيون والربانيون والأحبار ، وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالا من الأحبار ، فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين . والأحبار كآحاد العلماء .
ثم قال : وقد احتج جماعة بأن شرع من قبلنا لازم علينا - إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا - بهذه الآية ، وتقريره أنه - تعالى - قال في التوراة هدى ونوراً ، والمراد كونها هدى ونورا في أصول الشرع وفروعه ، ولو كان ما فيها منسوخا غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور ، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط ، لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معا ما يتعلق بأصول الدين للزم التكرار ، وأيضاً فإن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بد وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها لأنا - وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا - لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها .
3 - استدل العلماء بهذه الآية على أن الحاكم من الواجب عليه أن ينفذ أحكام الله دون أن يخشى أحدا سواه ، وأن عليه كذلك أن يبتعد عن أكل المحرم بكل صورة وأشكاله ، وألا يغير حكم الله في نظير أي عرض من أعراض الدنيا ، لأن الله - تعالى - يقوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
وقد أشار إلى هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله : قوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكومتهم ، وادهانهم فيها - أي ومصانعتهم فيها - وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الأقرباء والأصدقاء وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلبا للرياسة فهلكوا .
4 - قال بعض العلماء : في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه ، حيث علق عليه الكفر هنا والظلم والفسق بعد . وكفر الحاكم لحكمه بغير ما أنزل الله مقيد بقيد الاستهانة به . والجحود له ، وهذا ما سار عليه كثير من العلماء وأثروه عن عكرمة وابن عباس .
وعن عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . أي : أن كفر المسلم وظلمه وفسقه ليس مثل كفر الكافر وظلمه وفسقه . فإن كفر المسلم قد يحمل على جحود النعمة .
وقال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف : قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } : اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية والآيتان بعدها . فقيل في اليهود خاصة وقيل : في الكفار عامة . وقيل : الأولى في هذه الأمة والثانية في اليهود . والثالثة في النصارى والكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ ، لا على الكفر الذي ينقل عن الملة . والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أريد منهما العتو التمرد في الكفر . وعن ابن عباس : من لم يحكم بما أنزل الله جاهدا به فهو كافر .
ومن أقربه ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .
وقال الآلوسي ما ملخصه : واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن .
ووجه استدلالهم بها أن كلمة ( من ) في قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله فيدخل الفاسق المصدق أيضاً لأنه غير حاكم وغير عامل بما أنزل الله .
وأجيب عن شبهتهم بأن الآية متروكة الظاهر فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله - تعالى .
والذي يبدو لنا أن هذه الجملة الكريمة عامة في اليهود وفي غيرهم فكل من حكم بغير ما أنزل الله ، مستهيناً بحكمه - تعالى - أو منكراً له ، يعد كافراً لأن فعله هذا جحود وإنكار واستهزاء بحكم الله ومن فعل ذلك كان كافراً .
أما الذي يحكم بغير حكم الله مع إقراره بحكم الله واعترافه به ، فإنه لا يصل في عصيانه وفسقه إلى درجة الكفر .
ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم . . فالآن يجيء حكمه - تعالى - على الحاكمين ، الذين لا يحكمون بما أنزل الله . الحكم الذي تتوافى جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور . يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار ، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ؛ فلا تخشوا الناس واخشون ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص . فمن تصدق به فهو كفارة له . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .
لقد جاء كل دين من عندالله ليكون منهج حياة . منهج حياة واقعية . جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية ، وتنظيمها ، وتوجيهها ، وصيانتها . ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ؛ ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدي في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ؛ ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس ؛ ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ؛ ويؤاخذ الناس على مخالفتها ، ويؤخذون بالعقوبات .
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ؛ يملك السلطان على الضمائر والسرائر ، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك . ويجزي الناس وفق شرائعة في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابة في الحياة الآخرة .
فأما حين تتوزع السلطة ، وتتعدد مصادر التلقي . . حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الانظمة والشرائع . . وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا . . حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين ، وبين اتجاهين مختلفين ، وبين منهجين مختلفين . . وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) . . ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . . ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) . .
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة . وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى ، أو لأمة من الأمم ، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها ، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة ، إلى جانب العقيدة التي تنشى ء التصور الصحيح للحياة ، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله . . وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله . حيثما جاء دين من عند الله . لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة .
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى ، التي ربما جاءت لقرية من القرى ، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل ، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة . . وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى . . اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام . .
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة :
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ) :
فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله . وطريقهم في الحياة . . وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد . وتحمل شعائر تعبدية شتى . وتحمل كذلك شريعة :
( يحكم بها النبيون الذين أسلموا ، للذين هادوا ، والربانيون والأحبار ، بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) .
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب . ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج . ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله ؛ فليس لهم في أنفسهم شيء ؛ إنما هي كلها لله ؛ وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ؛ وهم قضاتهم وعلماؤهم . وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله ، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء ، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم ، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته ، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم .
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة ، يلتفت إلى الجماعة المسلمة ، ليوجهها في شأن الحكم بكتابالله عامة ، وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم ، وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف ، وجزاء نكوله أو مخالفته :
( فلا تخشوا الناس واخشون ؛ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا . ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه - في كل زمان وفي كل أمة - معارضة من بعض الناس ؛ ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام . . ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث . ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه ؛ ويرد الألوهية لله خالصة ، حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم للناس مما لم يأذن به الله . . وستواجهة معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت . ذلك أن شريعة الله العادلة لن تبقي على مصالحهم الظالمة . . وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال . ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها . . وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك ؛ ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض .
علم الله - سبحانه - أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات ؛ وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة ؛ وأن يصمدوا لها ، وإن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال . . فهو يناديهم :
( فلا تخشوا الناس واخشون ) . .
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله . سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله ، ويرفضون الإقرار - من ثم - يتفرد الله - سبحانه - بالألوهية . أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه . أو تلك الجموع المضللة او المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها . . لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعا ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة . فالله - وحده - هو الذي يستحق أن يخشوة . والخشية لا تكون إلا لله . .
كذلك علم الله - سبحانه - أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين ؛ قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا ؛ وهم يجدون أصحاب السلطان ، وأصحاب المال ، وأصحاب الشهوات ، لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعا ، طمعا في عرض الحياة الدنيا - كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان وفي كل قبيل ؛ وكما كان ذلك واقعا في علماء بني إسرائيل .
( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلًا ) . .
وذلك لقاء السكوت ، أو لقاء التحريف ، أو لقاء الفتاوي المدخولة !
وكل ثمن هو في حقيقته قليل . ولو كان ملك الحياة الدنيا . . فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقابا ومصالح صغيرة ؛ يباع بها الدين ، وتشترى بها جهنم عن يقين ؟ !
إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن ؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد . والذين يحملون عنوان : " رجال الدين " يخونون ويفرطون ويدلسون ، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، لموافأة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله . .
بهذا الحسم الصارم الجازم . وبهذا التعميم الذي تحمله ( من ) الشرطية وجملة الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان ، وينطلق حكما عاما ، على كل من لم يحكم بما أنزل الله ، في أي جيل ، ومن أي قبيل . .
والعلة هي التي أسلفنا . . هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله ، إنما يرفض ألوهية الله . فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية . ومن يحكم بغير ما أنزل الله ، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب ، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك ؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان ، والعمل - وهو أقوى تعبيرا من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان ؟ !
إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل ، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد .
{ إِنّآ أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنا أنزلنا التوراة فيها بيان ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين ، ونُورٌ يقول : وفيها جلاء ما أظلم عليهم وضياء ما التبس من الحكم . يَحْكُمُ بها النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا يقول : يحكم بحكم التوراة في ذلك : أي فيما احتكموا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه من أمر الزانيين النبيون الذين أسلموا ، وهم الذين أذعنوا الحكم الله وأقرّوا به . وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم ، وفي تسويته بين دم قتلى النضير وقُريظة في القصاص والدية ، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّا أنْزَلْنا التّوْرَاةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النّبِيّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الاَية : «نَحْنُ نَحْكُمُ على اليَهُودِ وَعلى مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أهْلِ الأدْيانِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، قال : حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبيّ فإنه نبيّ بعث بتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا : فتيا نبيّ من أنبيائك قال : فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة ، حتى أتى بيت المِدْراس ، فقام على الباب ، فقال : «أَنْشُدُكُمْ باللّهِ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ما تَجِدُونَ فِي التّوْرَاةِ على مَنْ زَنى إذَا أُحْصِنَ ؟ » قالوا : يُحَمّمم ويُجَبّهُ ويجلد والتجبيه : أن يحمل الزانيان على حمار تقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما وسكت شاب ، فلما رآه سكت ألظّ به النّشْدة ، فقال : اللهمّ إذ نَشَدْتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَمَا أوّلُ ما ارْتُخِصَ أمْرُ اللّهِ ؟ » قال : زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ، ثم زني رجل في أسرة من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا : لا ترجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه ، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فإنّى أحْكُم بِمَا فِي التّوْرَاةِ » . فأمِر بهما فرجما . قال الزهري : فبلغنا أن هذه الاَية نزلت فيهم إنّا أنْزَلْنا التّوْرَاةَ فِيها هُدّى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النّبِيّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا فكان النبيّ منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : يَحْكُمُ بِها النّبِيّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحقّ .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : يَحْكُمُ بِها النّبِيّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم . لِلّذِينَ هادُوا يعني اليهود ، فاحكم بينهم ولا تخشهم .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالرّبانِيّونَ وَالأحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ .
يقول تعالى ذكره : ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنزل الله فيها في كلّ زمان على ما أمر بالحكم به فيها مع النبيين الذين أسلموا ، الربانيون والأحبار . والربانيون : جمع ربانيّ ، وهم العلماء الحكماء ، البصراء بسياسة الناس وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم . والأحبار : هم العلماء . وقد بينا معنى الربانيين فيما مضى بشواهده ، وأقوال أهل التأويل فيه . وأما الأحبار : فإنهم جمع حبر ، وهو العالم المحكم للشيء ، ومنه قيل لكعب : كعب الأحبار . وكان الفرّاء يقول : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار : حِبر بكسر الحاء .
وكان بعض أهل التأويل يقول : عُنى بالربانيين والأحبار في هذا الموضع : ابنا صوريا اللذان أقرّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى في التوراة على الزانيين المحصنين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان رجلان من اليهود أخوان يقال لهما ابنا صوريا ، وقد اتبعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسلما ، وأعطياه عهدا أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به . وكان أحدهما رِبّيّا ، والاَخر حبرا ، وإنما اتبعا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه . فدعاهما فسألهما ، فأخبراه الأمر كيف كان حين زنى الشريف وزنى المسكين ، وكيف غيروه . فأنزل الله : إنّا أنْزَلْنا التّوْرَاةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِها النّبِيّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا للّذِينَ هادُوا يعني : النبيّ صلى الله عليه وسلم والربانيون والأحبار : هما ابنا صوريا . لِلّذِينَ هادُوا . ثم ذكر ابنى صوريا ، فقال : وَالرّبانِيّونَ وَالأحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ وكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ .
والصواب من القول في ذلك عندي ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أن التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود والربانيون من خلقه والأحبار . وقد يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما ، غير أنه قد دخل في ظاهر التنزيل مسلمو الأنبياء وكلّ رباني وحبر ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على أنه معنىّ به خاصّ من الربانيين والأحبار ، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها ، فكلّ رباني وحبر داخل في الاَية بظاهر التنزيل .
وبمثل الذي قلنا في تأويل الأحبار قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : الربانيون والأحبار : قرّاؤهم وفقهاؤهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الحسن : الربانيون والأحبار : الفقهاء والعلماء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الربانيون العلماء الفقهاء ، وهم فوق الأحبار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : الربانيون : فقهاء اليهود ، والأحبار : علماؤهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا سُنيد بن داود ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة : والرّبّانِيّونَ والأَحْبَارُ كلهم يحكم بما فيها من الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الربانيون : الولاة ، والأحبار : العلماء .
وأما قوله : بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللّهِ فإن معناه : يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة ، والربانيون والإحبار يعني العلماء بما استودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة . والباء في قوله : بِما اسْتُحْفِظُوا من صلة الأحبار .
وأما قوله : وكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فإنه يعني أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسملوا للذين هادوا ، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنزله على نبيه موسى وقضائه عليهم . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وكانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ يعني الربانيين والأحبار هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال أنه حقّ جاء من عند الله ، فهو نبيّ الله محمد ، أتته اليهود فقضى بينهم بالحقّ .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً .
يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم : لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي وإمضائه عليهم على ما أمرت ، فإنهم لا يقدرون لكم على ضرّ ولا نفع إلا بإذني ، ولا تكتموا الرجم الذي جعلته حكما في التوراة على الزانيين المحصنين ، ولكن اخشوني دون كلّ أحد من خلقي ، فإن النفع والضرّ بيدي ، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استحفظتم من كتابي . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ يقول : لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت .
وأما قوله : وَلا تَشْتَرُوا بآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً يقول : ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى أيها الأحبار عوضا خسيسا ، وذلك هو الثمن القليل . وإنما أراد تعالى ذكره نهيهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزّانيين المحصنين ، وغير ذلك من الأحكام التي بدّلوها ، طلبا منهم للرشا كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تَشْتَرُوا بآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً قال : لا تأكلوا السحت على كتابي . وقال مرّة أخرى ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تَشْتَرُوا بآياتِي ثَمَنا قال : لا تأخذوا به رشوة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلا تَشْتَرُوا بآياتِي ثَمَنا قَلِيلاً : ولا تأخذوا طُعْما قليلاً على أن تكتموا ما أنزلت .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ .
يقول تعالى ذكره : ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه ، وجعله حكما بين عباده فأخفاه ، وحكم بغيره ، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم ، وكتمانهم الرجم ، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية ، وفي الأشراف بالقصاص وفي الأدنياء بالدية ، وقد سوّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ يقول : هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه ، ولكن بدّلوا وغيروا حكمه وكتموا الحقّ الذي أنزله في كتابه . هُمُ الكَافِرُونَ يقول : هم الذين ستروا الحقّ الذي كان عليهم كشفه وتبيينه وغَطّوه عن الناس وأظهروا لهم غيره وقضوا به لسحت أخذوه منهم عليه .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الكفر في هذا الموضع . فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك ، من أنه عنى به اليهود الذين حرّفوا كتاب الله وبدّلوا حكمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن البراء بن عازب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقونَ في الكافرين كلها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن القاسم ، قال : حدثنا أبو حيان ، عن أبي صالح ، قال : الثلاث الاَيات التي في المائدة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ، فَأُولَئِكَ هُم الظّالِمُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ ليس في أهل الإسلام منها شيء ، هي في الكفار .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ والظالمون والفاسقون قال : نزلت هؤلاء الاَيات في أهل الكتاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، قال : أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس ، فقالوا : يا أبا مجلز ، أرأيت قول الله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ أحقّ هو ؟ قال : نعم . قالوا : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ أحَقّ هو ؟ قال : نعم . قالوا : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ أحقّ هو ؟ قال : نعم . قال : فقالوا : يا أبا مجلز ، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله ؟ قال : هو دينهم الذي يدينون به ، وبه يقولون ، وإليه يُدْعَوْنَ ، فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا . فقالوا : لا والله ، ولكنك تَعْرَفّ . قال : أنتم أولى بهذا مني لا أرى وإنكم ترون هذا ولا تحرّجون ، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك . أو نحوا من هذا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عمران بن حدير ، قال : قعد إلى أبي مِجْلَز نفر من الإباضية ، قال : فقالوا له : يقول الله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ . قال أبو مجلز : إنهم يعملون ما يعملون يعني الأمراء ويعلمون أنه ذنب . قال : وإنما أنزلت هذه الاَية في اليهود والنصارى . قالوا : أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم ، ولكنك تخشاهم . قال : أنتم أحقّ بذلك منا ، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ولكنكم تعرفونه ، ولكن يمنعكم أن تُمضوا أمركم من خشيتهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البَختري ، عن حذيفة في قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لكم كلّ حلوة ولهم كلّ مرّة ، ولتسلكنّ طريقهم قدر الشراك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي حيان ، عن الضحاك : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ والظّالمون والفَاسِقُون قال : نزلت هؤلاء الاَيات في أهل الكتاب .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، قال : قيل لحذيفة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ثم ذكر نحو حديث ابن بشار ، عن عبد الرحمن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، قال : سأل رجل حذيفة ، عن هؤلاء الاَيات : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ قال : فقيل : ذلك في بني إسرائيل ؟ قال : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كانت لهم كلّ مرّة ، ولكم كلّ حُلْوة ، كلا والله لتسلكنّ طريقهم قدر الشراك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن رجل ، عن عكرمة قال : هؤلاء الاَيات في أهل الكتاب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ ذكر لنا أن هؤلاء الاَيات أنزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ والظالمون والفاسقون ، لأهل الكتاب كلهم لمَا تركوا من كتاب الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن البراء بن عازب ، قال : مُرّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّم مجلود ، فدعاهم فقال : «هَكَذَا تَجِدُونَ حَدّ مَنْ زَنَى ؟ » قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال : «أَنْشُدكَ اللّهَ الّذِي أنْزَلَ التّوْرَاةَ على مُوسَى ، هَكَذَا تَجِدُونَ حَدّ الزّانِي في كِتابِكُمْ ؟ » قال : لا ، ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حدّه في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ ، فقلنا تعالوا فلنجتمع جميعا على التحميم والجلد مكان الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ أنّي أوّلُ مَنْ أحْيا أمْرَكَ إذْ أماتُوهُ » . فأمر به فرجم ، فأنزل الله : يا أيّها الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ . . . إلى قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ يعني اليهود ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ يعني اليهود ، فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ للكفار كلها .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : من حكم بكتابه الذي كتب بيده وترك كتاب الله وزعم أن كتابه هذا من عند الله ، فقد كفر .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن البراء بن عازب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث القاسم ، عن الحسن . غير أن هنادا قال في حديثه : فقلنا : تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم . وسائر الحديث نحو حديث القاسم .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : حدثنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، فذكر رجل عنده : وَمَنْ لَم يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ فقال عبيد الله : أما والله إن كثيرا من الناس يتأوّلون هؤلاء الاَيات على ما لم ينزلن عليه ، وما أنزلن إلا في حيين من يهود . ثم قال : هي قريظة والنضير وذلك أن إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكلّ قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مئة وسق . فأعطوهم فَرَقا وضَيمْا . فقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك ، فذلت الطائفتان بمقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما . فبينما هما على ذلك أصابت الذليلة من العزيزة قتيلاً ، فقالت العزيزة : أعطونا مائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان هذا قطّ في حيين دينهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم ضعف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا فرقا منكم وضَيْما ، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدا صلى الله عليه وسلم فتراضيا على أن يجعلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بينهم . ثم إن العزيزة تذاكرت بينها ، فخشيت أن لا يعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطي أصحابها منها ، فدسوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين ، فقالوا لهم : اخبُروا لنا رأى محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أعطانا ما نريد حكمناه ، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه فذهب المنافق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأعلم الله تعالى ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله . قال عبيد الله : فأنزل الله تعالى ذكره فيهم : يا أيّها الرّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الكُفْرِ هؤلاء الاَيات كلهن ، حتى بلغ : وَلْيَحْكُمْ أهْلخ الإنْجِيلِ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فِيهِ . . . إلى الفاسِقُونَ قرأ عبيد الله ذلك آية آية وفسرها على ما أنزل ، حتى فرغ من تفسير ذلك لهم في الاَيات ، ثم قال : إنما عنى بذلك يهود ، وفيهم أنزلت هذه الصفة .
وقال بعضهم : عنى بالكافرين أهل الإسلام ، وبالظالمين : اليهود ، وبالفاسقين : النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : نزلت «الكافرون » في المسلمين ، و«الظالمون » في اليهود ، و«الفاسقون » في النصارى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبيّ ، قال : «الكافرون » في المسلمين ، و«الظالمون » في اليهود ، و«الفاسقون » في النصارى .
حدثنا ابن وكيع وأبو السائب ، وواصل بن عبد الأعلى ، قالوا : حدثنا ابن فضيل ، عن ابن شبرمة ، عن الشعبيّ ، قال : آية فينا ، وآيتان في أهل الكتاب : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ فينا وفيهم : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ و«الفاسقون » في أهل الكتاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، مثل حديث زكريا عنه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : هذا في المسلمين . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ قال : النصارى .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبيّ ، قال في هؤلاء الاَيات التي في المائدة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : فينا أهل الإسلام . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ قال : في اليهود . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولُئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ قال : في النصارى .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي في قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : نزلت الأولى في المسلمين ، والثاني في اليهود ، والثالثة في النصارى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن زكريا ، عن الشعبيّ ، بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يعلى ، عن زكريا ، عن عامر ، بنحوه .
وقال آخرون : بل عُنى بذلك : كفردون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ قال : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن عطاء ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن عطاء بن أبي رباح بنحوه .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، بنحوه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن سعيد المكيّ ، عن طاوس : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن معمر بن راشد ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُون قال : هي به كفر ، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله .
حدثني الحسن ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : قال رجل لابن عباس في هذه الاَيات : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فمن فعل هذا فقد كفر ؟ قال ابن عباس : إذا فعل ذلك فهو به كفر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الاَخر وبكذا وكذا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سئل ابن عباس عن قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافرون قال هي به كفر قال ابن طاووس به كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : سئل ابن عباس عن قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافرون قال كفر لا ينقل عن الملة قال وقال قال عطاء : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَيات في أهل الكتاب ، وهي مراد بها جميع الناس مسلموهم وكفارهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : نزلت هذه الاَيات في بني إسرائيل ، ورضي لهذه الأمة بها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : نزلت في بني إسرائيل ، ورضي لكم بها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مصور ، عن إبراهيم في هذه الاَية : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : نزلت في بني إسرائيل ، ثم رضي بها لهؤلاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليم ، عن سلمة بن كهيل ، عن علقمة ومسروق : أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة ، فقال : من السحت . قال : فقالا : أفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر . ثم تلا هذه الاَية : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ يقول : ومن لم يحكم بما أنزلتُ فتركه عمدا وجار وهو يعلم فهو من الكافرين .
وقال آخرون : معنى ذلك : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به ، فأما الظلم والفسق فهو للمقرّ به ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالم فاسق .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : نزلت هذه الاَيات في كافر أهل الكتاب ، لأن ما قبلها وما بعدها من الاَيات ففيهم نزلت وهم المعِنيون بها ، وهذه الاَيات سياق الخبر عنهم ، فكونها خبرا عنهم أولى .
فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله ، فكيف جعلته خاصّا ؟ قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون . وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به ، هو بالله كافر ، كما قال ابن عباس لأنه بجحوده حكمَ الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوّة نبيه بعد علمه أنه نبيّ .
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } يهدي إلى الحق . { ونور } يكشف عما استبهم من الأحكام . { يحكم بها النبيون } يعني أنبياء بني إسرائيل ، أو موسى ومن بعده إن قلنا شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ ، وبهذه الآية تمسك القائل به . { الذين أسلموا } صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها بشأن المسلمين . وتعريضا باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واقتفاء هديهم . { للذين هادوا } متعلق بأنزل ، أو بيحكم أي يحكمون بها في تحاكمهم وهو يدل على أن النبيين أنبياؤهم . { والربانيون والأحبار } زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم عطف على النبيون { بما استحفظوا من كتاب الله } بسبب أمر الله إياهم بأن يحفظوا كتابه من التضييع والتحريف ، والراجع إلى ما محذوف ومن للنبيين . { وكانوا عليه شهداء } رقباء لا يتركون أن يغير ، أو شهداء يبينون ما يخفى منه كما فعل ابن صوريا . { فلا تخشوا الناس واخشون } نهي للحكام أن يخشوا غير الله في حكوماتهم ويداهنوا فيها خشية ظالم أو مراقبة كبير . { ولا تشتروا بآياتي } ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتها . { ثمنا قليلا } هو الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به منكرا له . { فأولئك هم الكافرون } لاستهانتهم به وتمردهم بأن حكموا بغيره ، ولذلك وصفهم بقوله { الكافرون } و{ الظالمون } و{ الفاسقون } ، فكفرهم لإنكاره ، وظلمهم بالحكم على خلافه ، وفسقهم بالخروج عنه . ويجوز أن يكون كل واحدة من الصفات الثلاث باعتبار حال انضمت إلى الامتناع عن الحكم به ملائمة لها ، أو لطائفة كما قيل هذه في المسلمين لاتصالها بخطابهم ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .
لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها . ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عَالياً ، كما تقدّم غير مرّة .
والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهُدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية . حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما . ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة ، كقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 132 ] ، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم .
والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده . فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء . ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : { فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] كما تقدّم هنالك . وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه : { توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } [ يوسف : 101 ] . والمقصود من الوصف بقوله : { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء . ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له .
واللام في قوله : { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم . والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين ، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : { إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة ( 62 ) .
والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى . فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعَر ، ولحياني لعظيم اللّحية . وقيل : الربّاني العالم المُربي ، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره . ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران ( 79 ) .
والأحبار جمع حَبْر ، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة ، وهو بفتح الحاء وكسرها ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به . وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين .
والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته .
استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه .
فالباء في قوله { بما استحفظوا } للملابسة ، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى . ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان . ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في « المدارك » ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوماً فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن : { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمُحاملي ، فقال : لا أحْسَنَ من هذا الكلام .
و { من } مبيّنة لإبهام ( ما ) في قوله : { بما استحفظوا } . و { كتاب الله } هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى .
وضميرُ { وكانوا } للنبيئين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف ( على ) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ( على ) الّذي يتعدّى به فعل شَهِد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحِقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ( حفظ ورقب ) ونحوهما ، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به .
ولذلك عقّبه بجملة { فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن } المتفرّعة بالفاء على قوله : { وكانوا عليه شهداء } ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه . فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : { فلا تخشوا النّاس } ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس . والتّفريع ناشىء عن مضمون قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى .
وتقدّم الكلام في معنى { ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } في سورة البقرة ( 41 ) .
وقولُه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : { فلا تخشوا النّاس واخشون } ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة .
وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم .
و ( مَن ) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم . والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق . ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر . وقد اقتضى هذا قضيتين :
إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله .
فأمَّا القضيةُ الأولى : فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا . لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم . وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة . وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في « صحيحه » . فعلى هذا تكون ( مَنْ ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته . وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر . وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع .
وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له ، أو استخفافاً به ، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمِعه المكلّف بنفسه . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، ف { من } شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر . وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية .
وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله . ٍ
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس « أكره الكُفر في الإسلام » أي الزّنى ، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس . وقال طاووس « هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان » . وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير .
وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين . وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله { بل أولئك هم الظّالمون } في سورة النّور ( 48 50 ) .
وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام .
واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله . وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دَعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم . فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله .