{ وإذ قال موسى لقومه } من بني إسرائيل : { يا قوم لم تؤذونني } وذلك حين رموه بالأدرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والرسول يعظم ويحترم . { فلما زاغوا } عدلوا عن الحق ، { أزاغ الله قلوبهم } أمالها عن الحق ، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } قال الزجاج : يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق .
ثم ساق - سبحانه - جانبا مما قاله موسى - عليه السلام - لقومه . وكيف أنهم عندما انصرفوا عن الحق ، عاقبهم - سبحانه - بما يستحقون من عقاب فقال : { وَإِذْ قَالَ موسى . . . } .
موسى - عليه السلام - هو انب عمران ، وهو واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى إبراهيم - عليه السلام - .
وقد أرسله الله - تعالى - إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل ، وقد لقى - عليه السلام - من الجميع أذى كثيرا .
ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر ، وبأنه مهين ، ولا يكاد يبين .
وأن بنى إسرائيل قالوا له عندما أمرهم بطاعته : وسمعنا وعصينا ، وقالوا له : أرنا الله جهرة وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . . . وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
وقالوا عنه : إنه مصاب فى جسده بالأمراض ، فبرأه الله - تعالى - مما قالوا .
قال ابن كثير : وفى هذا تسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال : " رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر " .
وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، أو يوصلوا إليه أذى ، كما قال - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا ، وقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم .
{ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي } : قال لهم : يا أهلى ويا عشيرتى لماذا تلحقون الأذى بى ؟ .
" وقد " فى قوله - تعالى - : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } للتحقيق ، والجملة حالية ، وجىء بالمضارعة بعد " قد " للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات .
قال الجمل : قوله : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } قد للتحقيق . أى : تحقيق علمهم . أى : لا للتقريب ولا للتقليل ، وفائدة ذكرها التأكيد ، والمضارع بمعنى الماضى .
أى : وقد علمتم ، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال ، وعلى أنها مقررة للإنكار . فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه ، ويمنع إيذاءه ؛ لأن من عرف الله - تعالى - وعظمته ، عظَّم رسوله .
ثم بين - سبحانه - ما ترتب على إيثارهم الغى على الهدى ، فقال : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } .
والزيغ : هو الميل عن طريق الحق ، يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا ، إذا مال عن الجادة ، وأزاغ فلان فلانا ، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر .
أى : فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به . واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ فى قلوبهم . . . أمال الله - تعالى - قلوبهم عن قبول الهدى .
لإيثارهم الباطل على الحق والضلالة على الهداية .
كما قال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } وقوله - سبحانه - : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تذييل قصد به التقرير لما قبله ، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية ، وبيان سنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن من استحب العمى على الهدى ، وأصر على ذلك . . . كانت عاقبه الخسران .
أى : وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق ، إلى ما يسعدهم فى حياتهم وبعد مماتهم ، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء ، وأصروا على سولكها .
بعدئذ يذكر قصة هذا المنهج الإلهي ومراحلها في الرسالات قبل الإسلام .
( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ? فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
وإذ قال عيسى بن مريم : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . .
وإيذاء بني إسرائيل لموسى - وهو منقذهم من فرعون وملئه ، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم - إيذاء متطاول متعدد الألوان ، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق . ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء .
كانوا يتسخطون على موسى وهو يحاول مع فرعون إنقاذهم ، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له ! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين : ( أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ) ! كأنهم لا يرون في رسالته خيرا ، أو كأنما يحملونه تبعة هذا الأذى الأخير !
وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون . . حتى مالوا إلى عبادة فرعون وقومه . . ( فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) . . وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح ، حتى أضلهم السامري : ( فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا : هذا إلهكم وإله موسى فنسي ! ) . .
ثم جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء : المن والسلوى . فقالوا : ( يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها ) !
وفي حادث البقرة التي كلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون : ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ) . . ( ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ) . . ( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ) . . ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) !
ثم طلبوا يوم عطلة مقدسا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه .
وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى : ( قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) . . فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا : ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . .
ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد ، والاتهام الشخصي بالباطل كما جاء في بعض الأحاديث .
وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة :
( يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ? ) . .
وهم كانوا يعلمون عن يقين . . إنما هي لهجة العتاب والتذكير . .
وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة ، فزادهم الله زيغا ، وأزاغ قلوبهم فلم تعد صالحة للهدى . وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدا : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله ، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر ، وهم على هذا الزيغ والضلال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تّعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّا زَاغُوَاْ أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إذْ قالَ مُوسَى بن عمران لِقَوْمِهِ يا قَوْم لِمَ تُوءْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ حقا أنُى رَسُولُ اللّهُ إلَيْكُمْ .
وقوله : { فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } يقول : فلما عدلوا وجاروا عن قصد السبيل أزاغ الله قلوبهم : يقول : أمال الله قلوبهم عنه وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، قال : حدثنا أبو غالب ، عن أبي أمامة في قوله : { فَلَمّا زَاغُوا أزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ } قال : هم الخوارج .
{ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ }يقول : والله لا يوفّق لإصابة الحقّ القوم الذين اختاروا الكفر على الإيمان .
{ وإذ قال موسى لقومه }مقدرا بأذكر أو كان كذا { يا قوم لم تؤذونني } بالعصيان والرمي بالادرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه وقد لتحقيق العلم ، { فلما زاغوا }عن الحق{ أزاغ الله قلوبهم }صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب ، { والله لا يهدي الفاسقين }هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة .
ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و { زاغوا } ف { أزاغ الله قلوبهم } ، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان ، وقول الباطل إلى مثل حالهم ، وقال أبو أمامة : هم الخوارج ، وقال سعد بن أبي وقاص : هم الحرورية ، المعنى : أنهم أشباههم في أنهم لما { زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ، وقوله :{ لم تؤذونني } تقرير ، والمعنى { تؤذونني } بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم ، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل ، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة{[11072]} ، كما قال الله تعالى : { نسوا الله فأنساهم أنفسهم }{[11073]} [ الحشر : 19 ] وهذا يخالف قوله تعالى : { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[11074]} [ التوبة : 118 ] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين }{[11075]} [ الشعراء : 80 ] ، و { زاغ } معناه : مال ، وصار عرفها في الميل عن الحق ، و { أزاغ الله قلوبهم } معناه : طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق ، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب ، وأمال ابن أبي إسحاق : { زاغوا } .