نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِي وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوٓاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (5)

ولما كان التخلف عن أمر الله تعالى والغفلة عن شيء يؤدي تركه إلى التهاون به والإخلال بأدب من آدابه موجباً للكون في صف الشيطان ومفارقة حزب الرحمن ، فيكون أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيوجب ذلك الشقاء كله لأنه جدير بأن يجر إلى أكبر منه إلى أن تحيط الخطايا فتبيح{[64850]} الرزايا ، وكان للتذكير بالمشاهدات والأمور الواقعات ما ليس لغيره في التأديب{[64851]} ومرجع الترهيب ، ذكر بما كان لبني إسرائيل ترهيباً من مثل{[64852]} حالهم ، لئلا يوقع في نكالهم ، حين تقاعسوا عما أمروا به من فتح بيت المقدس من الله تعالى غضب من فعلهم ذلك فسماهم فاسقين وضربهم بالتيه أربعين سنة ، وأمات في تلك الأربعين كل من توانى منهم في ذلك ، فلم يدخل إلى بيت المقدس منهم أحد ، فحرموا{[64853]} البلاد التي{[64854]} تقاعدوا عن فتحها ، وهي بعد مكة والمدينة خير بلاد الله تعالى ومهاجر أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومواطن أبويهما{[64855]} إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام وأنزه الأرض ، وأكثرها خيراً وأبركها ، مع ما كانوا فيه من الضيق والنكد من التيه الذي هو طرد عن جناب الله بما أراد - بما أشار إليه التعبير عن زمنه بالسنين - إلى ما أبقوا بعدهم من سوء كر وشناعة القالة إلى آخر الدهر فقال تعالى : { وإذ } عطفاً على ما تقديره : اذكروا ما فعل بعضكم - بما أشرت إليه أول هذه الآيات من الآداب من تنبيه الكفار بما قد يمنع من الفتح أو يكون سبباً في عسره أو في{[64856]} إهلاك خلق كثير{[64857]} من عبادي الذين{[64858]} خلقتهم في أحسن تقويم من المؤمنين وغيرهم ، أو من الفرار من الكفار عند المقارعة ، أو التقاعس عن{[64859]} اللقاء عند البعث عليه ، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أذاه من أذى الله فحلم عنكم ، وقبل بما له من بليغ الرحمة بكم والشفقة عليكم منكم{[64860]} ، وكان أنهى ما عاتبكم به مرسله سبحانه النداء بما هو أدنى الأسنان في الإيمان في نظير إطلاقه على بني إسرائيل الفسق بالوصف المؤذن بالرسوخ : واذكروا حين { قال موسى لقومه } وهم - مع كونه منهم - ممن له قوة على ما يحاولونه : { يا قوم } استعطافاً لهم واستنهاضاً إلى رضى ربهم { لم تؤذونني } أي تجددون إذائي مع الاستمرار بالتواني في أمر الله والتقاعد عن فتح بيت المقدس مع قولي عن الله أنكم فاتحوها إن أطعمتموه وأن الله أقسم لآبائكم أنه ما نحكموها لا محالة .

ولما كان هذا الاستفهام الإنكار موجباً لتوقع ما يأتي بعده من موجب التعظيم بدل الأذى ، والتبجيل والانقياد موضع التوقف والإباء ، قال محققاً بحرف التحقيق مضمون الكلام : { وقد } أي والحال أنكم { تعلمون } أي علمتم قطعياً مع تجدده لكم في كل{[64861]} وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات وبالكتاب الحافظ لكم من الزيغ { أني رسول الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ورسوله أيضاً يعظم{[64862]} ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم { إليكم } لا أقول لكم شيئاً إلا عنه ، ولا أنطق عن الهوى ، فعصياني عصيانه مع أني ما قلت لكم شيئاً إلا تم ، وإن كنتم قاطعين بخلافه فهي معصيته لا حامل عليها أصلاً إلا رداءة الجبلات .

ولما تحنن إليهم واستعطفهم وذكرهم ما يعلمون من رسليته وصلته بالله بما شاهدوا من الآيات التي هي أعظم الإحسان إليهم ، أعلم أنهم أوشكوا العصيان ، فقال معبراً عن ذلك بالفاء تسبيباً عن هذا القول الذي هو أهل لأن{[64863]} يسبب الثبات وتعقيباً وتقريباً : { فلما زاغوا } أي تحقق{[64864]} زيغهم عن قرب عن أوامر الله في الكتاب الآتي إليهم بما أبوا من قبول أمره في الإقدام على الفتح { أزاغ الله } أي الذي له الأمر كله { قلوبهم } من الاستواء ، وجمع الكثرة يدل على{[64865]} أنه لم يثبت منهم إلا القليل فهزمهم بين يدي{[64866]} أعدائهم وضربهم بالتيه لأنهم فسقوا عن أمر الله { فالله{[64867]} } - لا يهديهم ، فأسند الذنب إليهم والعقوبة إليه وإن كان الكل فعله تعليماً لعباده الأدب وإعلاماً بأن أفعالهم الاختيارية ينسب إليهم كسبها ويقوم به الحجة عليهم لعدم علمهم بالعاقبة { والله } أي الملك الأعظم الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات{[64868]} الكمال { لا يهدي } أي بالتوفيق بعد هداية البيان { القوم الفاسقين * } أي العريقين في الفسق{[64869]} الذين لهم قوة المحاولة فلم يحملهم على الفسق ضعف ، فاحذروا{[64870]} أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم - انتهى .


[64850]:- من ظ وم، وفي الأصل: فتنتج.
[64851]:- من ظ وفي الأصل وم: التادب.
[64852]:- من م، وفي الأصل وظ: مثله.
[64853]:- من ظ وم، وفي الأصل: فرموا.
[64854]:-من ظ وم، وفي الأصل: "و".
[64855]:- من ظ وم، وفي الأصل: أبيهما.
[64856]:- زيد من م.
[64857]:- زيد من م.
[64858]:- من ظ وم، وفي الأصل: الذي.
[64859]:- من ظ وم، وفي الأصل: عند.
[64860]:- من ظ وم، وفي الأصل: من.
[64861]:- سقط من ظ وم.
[64862]:- سقط من ظ و م.
[64863]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا.
[64864]:- زيد في الأصل وظ: منكم، ولم تكن الزيادة في م فحذفناها.
[64865]:- سقط من م.
[64866]:- من م، وفي الأصل وظ: أيدي.
[64867]:- زيد من م.
[64868]:- من م، وفي الأصل وظ: الصفات.
[64869]:- من ظ وم، وفي الأصل: فسق.
[64870]:- من م، وفي الأصل وظ: كما حذروا.