معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

قوله تعالى : { وظللنا عليكم الغمام } . في التيه يقيكم حر الشمس ، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل الله تعالى غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر ، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن لهم قمر .

قوله تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } . أي في التيه ، الأكثرون على أن المن هو الترنجبين ، وقال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد ، وقال وهب : هو الخبز الرقاق ، قال الزجاج : جملة المن ما يمن الله به من غير تعب .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم ، أنا أبو سفيان ، عن عبد الملك هو ابن عمير ، عن عمرو بن حريث ، عن سعيد بن زيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .

قالوا فكان المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج ، لكل إنسان منهم صاع ، فقالوا : يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم . فأنزل الله تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني ، وقيل : هو السماني بعينه ، بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء ، بعضه على بعض .

وقال المؤرخ : السلوى : العسل ، فكان الله ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت .

قوله تعالى : { كلوا } . أي : وقلنا لهم : كلوا .

قوله تعالى : { من طيبات } . حلالات .

قوله تعالى : { ما رزقناكم } . ولا تدخروا لغد ، ففعلوا ، فقطع الله ذلك عنهم ، ودود وفسد ما ادخروا ، فقال الله تعالى : { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . أي وما بخسوا بحقنا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي ، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ، ولم يختز اللحم ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

ثامناً : نعمة تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم :

ثم عطف - سبحانه - على نعمة بعثهم من بعد موتهم نعمة أخرى بل نعمتين ، وهما تظليلهم بالغمام ومنحهم المن والسلوى ، فقال تعالى :

{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

الغمام : جمع غمامة ، وهي السحابة ، وخصه بعض علماء اللغة بالسحاب الأبيض .

والمن : اسم جنس لا واحد من لفظه ، وهو - على أرجح الأقوال - مادة صمغية تسقط على الشجر تشبه حلاوته حلاوة الغسل .

والسلوى : اسم جنس جمعي ، واحدته سلواة ، وهر طائر بري لذيذ اللحم ، سهل الصيد يسمى بالسماني ، كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء ، فيمسكونه قبضاً بدون تعب .

وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، كان في مدة تيههم بين مصر والشام المشار إليه بقوله - تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال السدي : " لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى - عليه السلام - كيف لنا بما ها هنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجرة النجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه فقالوا هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر الله - تعالى - موسى أن يضرب بعصاه الحجر فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل ؟ فظلل الله عليهما الغمام . قالوا : هذا الظل فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتمزق لهم توب ، فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى . . . }

ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل من بين نعمي عليكم نعمة إظلالكم بالغمام وأنتم في التيه ليقيكم حر الشمس ، وحرارة الجو ، ولولا منحى إياكم الطعام اللذيذ المشتهي بدون تعب منكم في تحصيله لهلكتم ، وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الذي رزقكم هذه النعم ، ولكنكم كفرتم بها ، فظلمتم أنفسكم دون أن ينالنا من ذلك شيء ، لأن الخلق جميعاً لن يبلغوا ضرى فيضروني ولن يبلغوا نفعي فينفعوني .

فالآية الكريمة قد أشارت إلى جحودهم النعمة بقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .

وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوف على محذوف ، أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر .

ويرى البعض أنه لا حاجة إلى التقدير ، وأن جملة { وَمَا ظَلَمُونَا } معطوفة على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل .

والتعبير عن ظلمهم لأنفسهم بكلمة { كانوا } والفعل المضارع { يَظْلِمُونَ } يدل على أن ظلمهم لأنفسهم كان يتكرر منهم ، لأنك لا تقول في ذم إنسان كان يسيء إلى الناس إلا إذا كانت الإِساءة تصدر منه المرة تلو الأخرى .

قال الإِمام ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ما ملخصه : ( هذا من الذي استغنى بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ، ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا فاكتفى بما ظهر عما ترك ، وقوله { وَمَا ظَلَمُونَا } أي : ما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها فإن الله - تعالى - لا تضره معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل ، بل نفسَه يظلم الظالم وحظَّها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل ) .

وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة من أعظم النعم وهي تظليلهم بالغمام بإنزال المن والسلوى عليهم ، ولكن بني إسرائيل لم يشكروا الله على نعمه ، ولذا أرسل الله عليهم رجزاً من السماء بسبب ظلمهم وفسقهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

40

ويذكرهم برعايته لهم في الصحراء الجرداء حيث يسر لهم طعاما شهيا لا يجهدون فيه ولا يكدون ، ووقاهم هجير الصحراء وحر الشمس المحرق بتدبيره اللطيف :

( وظللنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى . كلوا من طيبات ما رزقناكم . وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .

وتذكر الراويات أن الله ساق لهم الغمام يظللهم من الهاجرة . والصحراء بغير مطر ولا سحب ، جحيم يفور بالنار ، ويقذف بالشواظ . وهي بالمطر والسحاب رخية ندية تصح فيها الأجسام والأرواح . . وتذكر الروايات كذلك أن الله سخر لهم ( المن ) يجدونه على الأشجار حلوا كالعسل ، وسخر لهم ( السلوى ) وهو طائر السماني يجدونه بوفرة قريب المنال . وبهذا توافر لهم الطعام الجيد ، والمقام المريح ، وأحلت لهم هذه الطيبات . . ولكن أتراهم شكروا واهتدوا . . إن التعقيب الأخير في الآية يوحي بأنهم ظلموا وجحدوا . وإن كانت عاقبة ذلك عليهم ، فما ظلموا إلا أنفسهم !

( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلََكِن كَانُوَاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ عطف على قوله : ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فتأويل الآية : ثم بعثناكم من بعد موتكم ، وظللنا عليكم الغمام ، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم لعلهم يشكرون . والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة ، والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين ، وكل مغطّى فإن العرب تسميه مغموما . وقد قيل : إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ليس بالسحاب .

وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة لم يكن إلا لهم .

وحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : هو بمنزلة السحاب .

وحدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : هو غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله : في ظلل من الغمام ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس : وكان معهم في التيه . وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا مما غمّ السماء من شيء فغطى وجهها عن الناظر إليها ، فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل فوصفه بأنه كان غماما بأولى بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء ، وقد قيل : إنه ما ابيضّ من السحاب .

القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ .

اختلف أهل التأويل في صفة المنّ . فقال بعضهم بما :

حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : وَأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ قال : المن : صمغة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنا عبد الرزاق ، قال : أنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ وَالسّلْوَى يقول : كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج .

وقال آخرون : هو شراب . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : المنّ : شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ، ثم يشربونه .

وقال آخرون : المن : عسل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : المنّ : عسل كان ينزل لهم من السماء .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المنّ .

وقال آخرون : المنّ : خبز الرقاق . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا وسئل ما المنّ ، قال : خبز الرقاق ، مثل الذرة ، ومثل النّقْي .

وقال آخرون : المنّ : الترنجبين . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : المنّ كان يسقط على شجر الترنجبين .

وقال آخرون : المنّ هو الذي يسقط على الشجر الذي تأكله الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان المنّ ينزل على شجرهم فيغدون عليه فيأكلون منه ما شاءوا .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد . عن عامر في قوله : وأنْزلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ قال : المنّ : الذي يقع على الشجر .

وحدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : المنّ قال : المن : الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : المنّ : هذا الذي يقع على الشجر . وقد قيل إن المنّ : هو الترنجبين .

وقال بعضهم : المنّ : هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر ، وهو حلو كالعسل ، وإياه عنى الأعشى ميمون بن قيس بقوله :

لَوْ أُطْعِمُوا المَنّ وَالسّلْوَى مكانَهُمُ *** ما أبْصَرَ النّاسُ طُعْما فِيهمُ نَجَعا

وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الكمأةُ مِنَ المَنّ ، وماؤها شِفاءٌ للْعَيْنِ » . وقال بعضهم : المنّ : شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه . وأما أمية بن أبي الصلت فإنه جعله في شعره عسلاً ، فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه :

فَرأى اللّهُ أنّهُمْ بِمَضيعٍ *** لا بِذِي مَزْرَعٍ وَلا مَثْمُورَا

فنساها عَلَيْهِمُ غَادِياتٍ *** ومَرَى مُزْنَهُمْ خَلايا وخُورَا

عَسَلاً ناطِفا ومَاءً فُرَاتا *** وَحَليبا ذَا بَهْجَةٍ مَمْرُورَا

الممرور : الصافي من اللبن ، فجعل المنّ الذي كان ينزل عليهم عسلاً ناطفا ، والناطف : هو القاطر .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالسّلْوَى والسلوى : اسم طائر يشبه السمانَي ، واحده وجماعه بلفظ واحد ، كذلك السمانَي لفظ جماعها وواحدها سواء . وقد قيل : إن واحدة السلوى سلواة . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثني عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : السلوى : طير يشبه السمانَي .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : كان طيرا أكبر من السماني .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : السلوى : طائر كانت تحشرها عليهم ريح الجنوب .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : السلوى : طائر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : السلوى : طير .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا سئل : ما السلوى ؟ فقال : طير سمين مثل الحمام .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : السلوى : طير .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : السلوى : كان طيرا يأتيهم مثل السماني .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : السلوى : السماني .

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو السماني .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : أخبرنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن مجالد ، عن عامر ، قال : السلوى : السماني .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الضحاك ، قال : السمانَى هو السلوى .

فإن قال قائل : وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام وإنزاله المنّ والسلوى على هؤلاء القوم ؟ قيل : قد اختلف أهل العلم في ذلك ، ونحن ذاكرون ما حضرنا منه .

فحدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما تاب الله على قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم ، أمرهم الله بالمسير إلى أريحا ، وهي أرض بيت المقدس . فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا . وكان من أمرهم وأمر الجبارين ، وأمر قوم موسى ما قد قصّ الله في كتابه ، فقال قوم موسى لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ فغضب موسى ، فدعا عليهم قال : رَبّ إني لا أمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وأخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ فكانت عجلة من موسى عجلها فقال الله تعالى : إِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ . فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى ، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه ، فقالوا له : ما صنعت بنا يا موسى ؟ فلما ندم أوحى الله إليه أنْ لا تأسَ على القَوْمِ الفاسقِينَ أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين . فلم يحزن . فقالوا : يا موسى كيف لنا بماء ههنا ، أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المنّ ، فكان يسقط على شجر الترنجبين ، والسلوى : وهو طير يشبه السماني ، فكان يأتي أحدهم ، فينظر إلى الطير إن كان سمينا ذبحه ، وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه . فقالوا : هذا الطعام ، فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الطعام والشراب ، فأين الظلّ ؟ فظلل عليهم الغمام ، فقالوا : هذا الظلّ فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ، ولا يتخرّق لهم ثوب ، فذلك قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمَامَ وأنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ وَالسّلْوَى وقوله : وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا قَدْ عَلِمَ كلّ أُناسِ مَشْرَبَهُمْ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل ، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة ، وقال : إنني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلاً ، فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدوّ فإني ناصركم عليهم فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عزّ وجل ، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظلّ ، دعا موسى ربه حين آذاهم الحر ، فظلل عليهم بالغمام ، ودعا لهم بالرزق ، فأنزل الله لهم المنّ والسلوى .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس . وحدثت عن عمار بن الحسن ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمْ الغَمامَ قال : ظلل عليهم الغمام في التيه : تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة ، كلما أصبحوا ساروا غادين ، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه ، فكانوا كذلك حتى مرّت أربعون سنة . قال : وهم في ذلك ينزل عليهم المنّ والسلوى ولا تبلى ثيابهم ، ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم ، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : حدثني عبد الصمد ، قال : سمعت وهبا يقول : إن بني إسرائيل لما حرّم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض شكوا إلى موسى ، فقالوا : ما نأكل ؟ فقال : إن الله سيأتيكم بما تأكلون . قالوا : من أين لنا إلا أن يمطر علينا خبزا ؟ قال : إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا . فكان ينزل عليهم المنّ . سئل وهب : ما المنّ ؟ قال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي قالوا : وما نأتدم ، وهل بدّلنا من لحم ؟ قال : فإن الله يأتيكم به . فقالوا : من أين لنا إلا أن تأتينا به الريح ؟ قال : فإن الريح تأتيكم به ، وكانت الريح تأتيهم بالسلوى فسئل وهب : ما السلوى ؟ قال : طير سمين مثل الحمام كانت تأتيهم فيأخذون منه من السبت إلى السبت قالوا : فما نلبس ؟ قال : لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة . قالوا : فما نحتذي ؟ قال : لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة ، قالوا : فإن فينا أولادا فما نكسوهم ؟ قال : ثوب الصغير يشب معه . قالوا : فمن أين لنا الماء ؟ قال : يأتيكم به الله . قالوا : فمن أين ؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر . فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر . قالوا : فبم نبصر ؟ تغشانا الظلمة . فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم أضاء عسكرهم كله ، قالوا : فبم نستظل ؟ فإن الشمس علينا شديدة قال : يظلكم الله بالغمام .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، فذكر نحو حديث موسى بن هارون عن عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي .

حدثني القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال : عبد الله بن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن . قال : وقال ابن جريج : إن أخذ الرجل من المنّ والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا .

القول في تأويل قوله تعالى : كُلُوا مِنْ طَيّبات ما رزَقْنَاكُمْ .

وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه ، وذلك أن تأويل الآية : وظللنا عليكم الغمام ، وأنزلنا عليكم المن والسلوى ، وقلنا لكم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . فترك ذكر قوله : «وقلنا لكم . . . » لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه . وعنى جل ذكره بقوله : كُلُوا مِنْ طَيّباتِ مَا رزَقْنَاكُمْ كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه . وقد قيل عنى بقوله : مِنْ طَيبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ من حلاله الذي أبحناه لكم ، فجعلناه لكم رزقا . والأول من القولين أولى بالتأويل لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم ، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنه حلال مباح . و«ما » التي مع «رزقناكم » بمعنى «الذي » كأنه قيل : كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه .

القول في تأويل قوله تعالى : ومَا ظَلَمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .

وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه . وذلك أن معنى الكلام : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، فخالفوا ما أمرناهم به ، وعصوا ربهم ثم رسولنا إليهم ، وما ظلمونا . فاكتفى بما ظهر عما ترك . وقوله : وَما ظَلَمُونَا يقول : وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم ، وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . ويعني بقوله : وَمَا ظَلَمُونَا : وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرّة علينا ومنقصة لنا ، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة عليها ومنقصة لها . كما :

حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَما ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قال : يضرّون . وقد دللنا فيما مضى على أن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية ، فأغنى ذلك عن إعادته . وكذلك ربنا جل ذكره لا تضرّه معصية عاص ، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم ، ولا تنفعه طاعة مطيع ، ولا يزيد في ملكه عدل عادل بل نفسه يظلم الظالم ، وحظها يبخس العاصي ، وإياها ينفع المطيع ، وحظها يصيب العادل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

{ وظللنا عليكم الغمام } سخر الله لهم السحاب يظلهم من الشمس حين كانوا في التيه .

{ وأنزلنا عليكم المن والسلوى } الترنجبين والسماني . قيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع ، وتبعث الجنوب عليهم السماني ، وينزل بالليل عمود نار يسيرون في ضوئه ، وكانت ثيابهم لا تتسخ ولا تبلى . { كلوا من طيبات ما رزقناكم } على إرادة القول .

{ وما ظلمونا } فيه اختصار ، وأصله فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالكفران لأنه لا يتخطاهم ضرره .