معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها } ، أي : أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة .

قوله تعالى : { أن النفس بالنفس } ، يعني : من نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً يقتل به . قوله تعالى : { والعين بالعين } ، تفقأ بها .

قوله تعالى : { والأنف بالأنف } ، يجدع به .

قوله تعالى : { والأذن بالأذن } ، تقطع بها ، قال ابن عباس : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو : أن النفس بالنفس ، واحدة بواحدة إلى آخرها ، فما بالهم يخافون فيقتلون بالنفس النفسين ، ويفقؤون بالعين العينين ، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن ، ونقلها الآخرون .

قوله تعالى : { والسن بالسن } ، تقلع بها ، وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص . قوله تعالى : { والجروح قصاص } ، فهذا تعميم بعد تخصيص ، لأنه ذكر العين ، والأنف ، والأذن ، والسن ثم قال : { والجروح قصاص } ، أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد ، والرجل ، واللسان ، ونحوها . وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم ، أو جرح لحم ، كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه ، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته ، وقرأ الكسائي : { والعين } وما بعدها بالرفع ، وقرأ ابن كثير وابن عامر ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو : { والجروح } بالرفع فقط ، وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس .

قوله تعالى : { فمن تصدق به } ، أي بالقصاص .

قوله تعالى : { فهو كفارة له } ، قيل : الهاء في { له } كناية عن المجروح ، وولي القتيل ، أي : كفارة للمتصدق ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة .

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري ، أنا عمر ابن الخطاب ، أنا عبد الله بن الفضل ، أخبرنا أبو خيثمة ، أنا جرير عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه ) .

وقال جماعة : هي كناية عن الجارح والقاتل ، يعني : إذا عفا المجني عليه عن الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني ، لا يؤاخذ به في الآخرة ، كما أن القصاص كفارة له ، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل ، قال الله تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] ، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو قول إبراهيم ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم .

قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

ثم بين - سبحانه - بعض ما اشتملت عليه التوراة من أحكام فقال { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .

فالآية الكريمة معطوفة على ما سبقها وهو قوله - تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة } .

وقوله : ( كتبنا ) بمعنى فرضنا وقررنا . والمراد بالنفس : الذات .

أي : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونوراً لبني إسرائيل ، وفرضنا عليهم ( أن النفس بالنفس ) أي : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق . وأن { والعين } مفقوءة { العين } وأن { والأنف } مجدوع { بالأنف } وأن { والأذن } مقطوعة { بالأذن } وأن { والسن } مقلوعة { بالسن } وأن { والجروح قِصَاصٌ } أي : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه - ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته - ففهي حكومة عدل .

وعبر - سبحانه - عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : ( كتبنا ) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقاً وقوة .

قال القرطبي ما ملخصه : قوله - تعالى - { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف .

وقرأ ابن كثير وانب عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به - أي أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره .

وقرأ الكسائي وأبو عبيد : { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح } بالرفع فيها كلها .

قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ } .

والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر . والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع ( أن النفس ) لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث - قاله الزجاج - يكون عطفا على المضمر في النفس . لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي .

وقوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ترغيب في العفو والصفح .

والضمير في ( به ) يعود إلى القصاص . والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس ، وإلى فتح باب التسامح بين الناس .

وقوله : ( فهو ) يعود إلى التصدق المدلول عليه بالفعل ( تصدق ) والضمير في قوله ( له ) يعود إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو من يقوم مقامه .

والمعنى : { فَمَن تَصَدَّقَ } بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني فإن هذا التصدق يكون كفارة لذنوب هذا المتصدق ، حيث قدم العفو مع تمكنه من القصاص .

وقيل إن الضمير في ( له ) يعود على الجاني فيكون المعنى : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص ، بأن عفا عن الجاني ، فإن هذا التصدق يكون كفارة له . أي لذنوب الجاني ، بأن لا يؤاخذه الله بعد ذلك العفو . وأما المتصدق فأجره على الله .

وقد رجح ابن جرير عودة الضمير إلى العافي المتصدق وهو المجني عليه أو ولى دمه فقال : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب : قول من قال : عني به : فمن تصدق به فهو كفارة له أي المجروح ، ولأنهلأن تكون الهاء في قوله ( له ) عائدة على ( من ) أولى من أن تكون عائدة على ما لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدق عليه في سائر الصدقات .

وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } تذييل قصد به التحذير من مخالفة حكم الله . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ، حيث تركوا الحكم العدل واتجهوا إلى الحكم الجائر الظالم .

قال الرازي : وفيه سؤال وهو أنه - تعالى - . قال : أولا : { فأولئك هُمُ الكافرون } وثانياً { هُمُ الظالمون } والكفر أعظم من الظلم ، فلماذا ذكر أعظم التهديدات أولا وأي فائدة في ذكر الأخف بعده ؟

وجوابه : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس . ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق - سبحانه - وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه .

هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية ما يأتي :

1 - أن الآية الكريمة - ككثيرة غيرها - تنعى على بني إسرائيل إهمالهم لأحكام الله - تعالى - وتهافتهم على ما يتفق مع أهوائهم .

قال ابن كثير : هذه الآية وبخت به اليهود أيضاً وقرعت عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس . وقد خالفوا حكم ذلك عمداً وعناداً فأقادوا النضرى من القرظى ، ولم يقيدوا القرظي من النضرى وعدولا إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن ، وعدولا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإِشهار . ولهذا قال هناك { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعناداً وعمداً . وقال هنا في تتمة الآية { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخانوا وظلموا وتعدى بعضهم على بعض .

ثم قال : واستدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا بهذه الآية . وذلك إذا حكى مقررا ولم ينسخ . والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة .

2 - استدل جمهور الفقهاء بعموم هذه الآية على أن الرجل يقتل بالمرأة . ويؤيد ذلك ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : أن الرجل يقتل بالمرأة . . وفي رواية للإِمام أحمد أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب ديتها .

قال الآلوسي : واستدل بعموم { أَنَّ النفس بالنفس } من قال : يقتل المسلم بالكافر ، والحر بالعبد ، والرجل بالمرأة ومن خالف استدل بقوله - تعالى :

{ الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وبقوله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مؤمن بكافر " .

وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه . والمراد بما روى في الحديث الكافر الحربي وق دروى أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمى .

3 - استدل العلماء بجريان القصاص في الأطراف لقوله - تعالى - { والعين بالعين } { والأنف بالأنف } إلخ . إلا أنهم قالوا بوجوب استيفاء ما يماثل فعل الجاني بدون تعد أو ظلم فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها ، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى .

وقالوا : إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمداً . فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية : إن أصاب العينين معاً خطأ ففيهما الدية الكاملة .

ويرى بعضهم أن في عين الدية كاملة لأن منفعته بها كمنفعة ذي عينين أو قريبة منها .

وقد توسع الإِمام القرطبي في بسط هذه المسائل فارجع إليه إن شئت .

4 - أخذ العلماء من هذه الآية أن الله - تعالى - رغب في العفو ، وحض عليه ، وأجزل المثوبة لمن يقوم به فقد قال - تعالى - { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } .

أي : فمن تصدق بما ثبت له من حق القصاص فتصدقه كفارة لذنوبه .

وقد وردت في الحض على العفو نصوص كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } وقوله - تعالى - { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين } وروى الإِمام أحمد عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " .

وروى ابن جرير عن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته . فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألح عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبوالدرداء عند معاوية . فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي - فخلى سبيل القرشي . فقال معاوية : " مروا له بمال " .

ومن هذه الآية وغيرها نرى أن الإِسلام قد جمع فيما شرع من عقوبات بين العدل والرحمة فقد شرع القصاص زجراً للمعتدى . وإشعاراً له بأن سوط العقاب مسلط عليه إذا ما تجاوز حده ، جبرا لخاطر المعتدى عليه ، وتمكينا له من أخذ حقه ممن اعتدى عليه .

ومع هذا التمكين التام للمجني عليه من الجاني فقد رغب الإِسلام المجني عليه في العفو عن الجاني حتى تشيع المحبة والمودة بين أفراد الأمة ، ووعده على ذلك بتكفير خطاياه ، وارتفاع درجاته عند الله - تعالى - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

41

وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله ، يعود السياق ، لعرض نماذج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا - بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء :

( وكتبنا عليهم فيها : أن النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ) . .

وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام ، وأصبحت جزءا من شريعة المسلمين ، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان . وإن كانت لا تطبق إلا في دار الإسلام ، لاعتبارات عملية بحتة ؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام . وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة تنفيذها وتطبيقها ، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة ، للأزمان كافة ، كما أرادها الله .

وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى :

( فمن تصدق به فهو كفارة له ) . .

ولم يكن ذلك في شريعة التوارة . إذ كان القصاص حتما ؛ لا تنازل فيه ، ولا تصدق به ، ومن ثم فلا كفارة . .

ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال .

أول ما تقرره شريعة الله في القصاص ، هو مبدأ المساواة . . المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة . . ولم تكن شريعة أخرى - غير شريعة الله - تعترف بالمساواة بين النفوس ، فتقتص للنفس بالنفس ، وتقتص للجوارح بمثلها ، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس . .

النفس بالنفس . والعين بالعين . والأنف بالأنف . والأذن بالأذن . والسن بالسن . والجروح قصاص . . لا تمييز . ولا عنصرية . ولا طبقية . ولا حاكم . ولا محكوم . . كلهم سواء أمام شريعة الله . فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله .

إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد " الإنسان " الإنسان الذي يستمتع كل فرد فيه بحق المساواة . . أولا في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد . وثانيا في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة .

وهو أول إعلان . . وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي .

ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم - التوراة - عنه ؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب ، حيث كانوا يقولون : " ليس علينا في الآميين سبيل بل فيما بينهم هم أنفسهم . على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة ، وبني النضير العزيزة ؛ حتى جاءهم محمد [ ص ] فردهم إلى شريعة الله - شريعة المساواة . . ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء !

والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل ، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر ، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه ، وما زينه له اندفاعه ؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه ، أو طبقته ، أو جنسه - وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة . إذا قطع يدا أو رجلا قطعت يده أو رجله ؛ وإذا أتلف عينا أو أذنا أو سنا ، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه . . وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن - طالت مدة السجن أو قصرت - فالألم في البدن ، والنقص في الكيان ، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير الآم السجن . . على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة . . والقصاص على هذا الأساس العظيم - فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان - هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس ، وجراحات القلوب ، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة ، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية . . وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات . ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص . .

وشرع الله في الإسلام يلحظ الفطرة - كما لحظها شرع الله في التوراة - حتى إذا ضمن لها القصاص المريح . . راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو - عفو القادر على القصاص :

( فمن تصدق به فهو كفارة له )

من تصدق بالقصاص متطوعا . . سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل [ والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص ، أو بالتنازل عن الدم والدية معا وهذا من حق الولي ، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تغزيز القاتل بما يراه ] أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروج كلها ، فتنازل عن القصاص . . من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه ؛ يحط بها الله عنه .

وكثيرا ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو ، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته . نفوسا لا يغنيها العوض المالي ؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت . . فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل ؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد ؟ . . إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل ، وتأمين الجماعة . . ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله . .

روى الإمام أحمد . قال : حدثنا وكيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال " كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار . فاستعدى عليه معاوية . فقال معاوية : سنرضيه . . فألح الأنصاري . . فقال معاويه : شأنك بصاحبك ! - وأبو الدرداء جالس - فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله [ ص ] يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة ، أو حط به عنه خطيئة " . . فقال الأنصارى : فإني قد عفوت " . .

وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له به التعويض . .

وتلك شريعة الله العليم بخلقة ؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر ، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها ؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام .

وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة ، التي صارت طرفا من شريعة القرآن ، يعقب بالحكم العام :

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) . .

والتعبير عام ، ليس هناك ما يخصصه ؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو( الظالمون ) .

وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضا لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم . فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة ، وتعرضها لعقاب الكفر . وبتعريض حياة الناس - وهو معهم - للفساد .

وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله ) . . فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول ؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو ( من ) المطلق العام .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد ، وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : كَتَبْنا : فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حقّ بالنفس ، يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . والعَيْنَ بالعَيْن يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة ، ويجدع الأنف بالأنف ، ويقطع الأذن بالأذن ، ويقلع السنّ بالسنّ ، ويقتصّ من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود ، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوّته وإدباره عنه بعد إقباله ، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصَنين ، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قَوَد ، ومن فقأ عينا بغير حقّ فعينه بها مفقوءة قصاصا ، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سنَا فسنه بها مقلوعة ، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتصّ منه مثل الجرح الذي جرحه ، ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما رأت قُرَيظة النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم ، نهضت قريظة ، فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعزّزون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير ، وكانت الدية من وُسُوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : «دَمُ القُرَضِيّ وَفَاءٌ مِنْ دَمه النّضِيريّ » . فغضب بنو النضير ، وقالوا : لا نطيعك في الرجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت : أفَحُكْمَ الجاهِلِيّةِ يَبْغونَ ، ونزل : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . الاَية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالَعيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْفِ وَالأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : فما بالهم يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقئون العينين بالعين ؟ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خلاد الكوفيّ ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان بين حَيّين من الأنصار قتال ، فكان بينهم قتلي ، وكان لأحد الحَيّين على الاَخر طَوْلٌ . فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يجعل الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والمرأة بالمرأة فنزلت : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : النّفْسَ بالنّفس .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قا : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ فيها في التوراة ، وَالعينَ بالعينِ حتى : وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال مجاهد عن ابن عباس ، قال : كان علي بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : وكَتَبْا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة ، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تصدّق به فهو كفارة له .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْف والأُذُن بالأذُن وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سنّ ، أو عين ، أو أنف ، إنما هو القصاصُ أو العفو .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أبي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسي قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .

حدثني المثنى ، قا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ .

اختلف أهل التأويل في المعنّى به : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك المجروحُ وولىّ القتيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهثيم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو بنحوه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان ، قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى ، وهو عبد الله بن عمرو ، فقال في هذه الاَية : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني حِرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن رجل قال حرمي : نسيت اسمه عن جابر بن زيد بمثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .

حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار ، فاندقت ثَنِيّته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل ، قال معاوية : شأنَك وصاحَبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلاّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً » . فقال له الأنصاريّ : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعتْه أذناني ووعاه قلبي . فخّلى سبيل القرشيّ ، فقال معاوية : مروا له بمال .

حدثنا محمود بن خِداش ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدّقَ بِها ، كُفّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ ما تَصَدّقَ بِهِ » .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمجروح .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، قال : سمعت عامرا يقول : كفارة لمن تصدّق به .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : لوليّ القتيل الذي عفا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان ، قال : كنت بالشام ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال فمن تصدّق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو .

وقال آخرون : عَنَى بذلك الجارحَ ، وقالوا معنى الاَية : فمن تصدّق بما وجب له من قَوَدَ أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له قالوا : فأما أجر العافي المتصدّق فعلى الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصبب على الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدّق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : قال مغيرة ، قال مجاهد : للجارح .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا هناد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قالا : الذي تصدّق عليه ، وأجر الذي أصبيب على الله . قال هناد في حديثه ، قالا : كفارة للذي تصدّق به عليه .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد بنحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : كفارة لمن تصدق به عليه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : كفارة للجارج ، وأجر الذي أصيب على الله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتصّ منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفارة له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كفارة للجارح وأجر للعافي ، لقوله : فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمتصدّق عليه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا حصين ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : هي كفارة للجارح .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدّق على الله .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : للقاتل ، وأجر للعافي .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عديّ بن ثابت ، قال : هُتِم رجل على عهد معاوية ، فأُعطي دية فلم يقبل ، ثم أُعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أُعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدّث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : «فمن تَصَدّقَ بِدَمٍ فما دُونَهُ ، كانَ كَفّارَةً له مِنْ يَوْمِ تَصَدّقَ إلى يَوْمِ وُلِدَ » . قال : فتصدّق الرجل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : من جُرح فتصدّق بالذي جرح به على الجارح ، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه من أجل أنه تصدّق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدّق به فهو كفارة له المجروح ، فلأن تكون الهاء في قوله «له » عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدّق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات .

فإن ظنّ ظانّ أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : «أنْ لا تَقْتُلُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِقوا » ثم قال : «فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدّهُ ، فَهُوَ كَفّارَتُه » . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو وليّ المقتوقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها ، وذلك ما لا نعلم قائلاً من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .

فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندكقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .

فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها ، أكانت له قِبَله في الاَخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال ، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صحّ لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوّ له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لأن الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به ، إن لم يتب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحبّ أم سَخِط ، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفّارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفّارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحقّ منها تنصلاً من ذنبه ، بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله : «فمن أُقيم عليه الحَدّ فهو كَفّارَتُهُ » . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «فمن تَصَدّق بدَمٍ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير ، الذي :

حدثني به الحرث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : إذا أصاب رجل رجلاً ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب ، قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها .

وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذٍ قبل المصيب في الدنيا ولا في الاَخرة لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه ، فإبراؤه منه كفّارة له من حقه الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الاَخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحقّ به العقوبة من ربه لأن الله عزّ وجلّ قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .

يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قود النفس القائلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقيء بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمه الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يُقِد من بعض ، أو قتل في بعضِ اثنين بواحد ، وإن من يفعل ذلك من الظالمين ، يعني ممن جاء على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .