{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك يا محمد ، وعندهم التوراة فيها حكم الله . ويعني بقوله : كَتَبْنا : فرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النفس إذا قتلت نفسا بغير حقّ بالنفس ، يعني : أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة . والعَيْنَ بالعَيْن يقول : وفرضنا عليهم فيها أن يفقئوا العين التي فقأ صاحبها مثلها من نفس أخرى بالعين المفقوءة ، ويجدع الأنف بالأنف ، ويقطع الأذن بالأذن ، ويقلع السنّ بالسنّ ، ويقتصّ من الجارح غيره ظلما للمجروح . وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود ، وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوّته وإدباره عنه بعد إقباله ، وتعريف منه له جراءتهم قديما وحديثا على ربهم وعلى رسل ربهم وتقدمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل يقول تعالى ذكره له : وكيف يرضى هؤلاء اليهود يا محمد بحكمك إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصَنين ، وقضائي بينهم أن من قتل نفسا ظلما فهو بها قَوَد ، ومن فقأ عينا بغير حقّ فعينه بها مفقوءة قصاصا ، ومن جدع أنفا فأنفه به مجدوع ، ومن قلع سنَا فسنه بها مقلوعة ، ومن جرح غيره جرحا فهو مقتصّ منه مثل الجرح الذي جرحه ، ثم هم مع الحكم الذي عنده في التوراة من أحكامي يتولون عنه ويتركون العمل به يقول : فهم بترك حكمك وبسخط قضائك بينهم أحرى وأولى .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما رأت قُرَيظة النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم ، نهضت قريظة ، فقالوا : يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دم قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت النضير يتعزّزون على بني قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير ، وكانت الدية من وُسُوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة . فقال : «دَمُ القُرَضِيّ وَفَاءٌ مِنْ دَمه النّضِيريّ » . فغضب بنو النضير ، وقالوا : لا نطيعك في الرجم ، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنا عليها فنزلت : أفَحُكْمَ الجاهِلِيّةِ يَبْغونَ ، ونزل : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالَعيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْفِ وَالأُذُنَ بالأُذُنِ وَالسّنّ بالسّنّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : فما بالهم يخالفون ، يقتلون النفسين بالنفس ، ويفقئون العينين بالعين ؟ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا خلاد الكوفيّ ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن السديّ ، عن أبي مالك ، قال : كان بين حَيّين من الأنصار قتال ، فكان بينهم قتلي ، وكان لأحد الحَيّين على الاَخر طَوْلٌ . فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجعل يجعل الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والمرأة بالمرأة فنزلت : الحُرّ بالحُرّ وَالعَبْدُ بالعَبْدِ . قال سفيان : وبلغني عن ابن عباس أنه قال : نسختها : النّفْسَ بالنّفس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قا : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ فيها في التوراة ، وَالعينَ بالعينِ حتى : وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ قال مجاهد عن ابن عباس ، قال : كان علي بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح . قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : وكَتَبْا عَلَيْهِمْ فِيها في التوراة ، فخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فجعل عليم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة ، فمن تصدّق به فهو كفارة له .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ وَالعَيْنَ بالعَيْنِ وَالأنْفَ بالأنْف والأُذُن بالأذُن وَالسّنّ بالسّنّ والجُرُوحَ قِصَاصٌ قال : إن بني إسرائيل لم يجعل لهم دية فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت ، أو جرح ، أو سنّ ، أو عين ، أو أنف ، إنما هو القصاصُ أو العفو .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أبي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي في التوراة ، أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسي قوله : وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنّ النّفْسَ بالنّفْسِ . . . حتى بلغ : والجُرُوحَ قَصَاصٌ بعضها ببعض .
حدثني المثنى ، قا : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : أنّ النّفْسما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ .
اختلف أهل التأويل في المعنّى به : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ فقال بعضهم : عُني بذلك المجروحُ وولىّ القتيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهثيم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه يعني المجروح مثل ذلك من ذنوبه .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو بنحوه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن الهيثم بن الأسود أبي العريان ، قال : رأيت معاوية قاعدا على السرير وإلى جنبه رجل آخر كأنه مولى ، وهو عبد الله بن عمرو ، فقال في هذه الاَية : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : يُهدم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة بن أبي حفصة ، عن أبي عقبة ، عن جابر بن زيد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني حِرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني عمارة ، عن رجل قال حرمي : نسيت اسمه عن جابر بن زيد بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : للمجروح .
حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السفر ، قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار ، فاندقت ثَنِيّته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية . فلما ألحّ عليه الرجل ، قال معاوية : شأنَك وصاحَبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَيَهَبُهُ إلاّ رَفَعَهُ اللّهُ بِهِ دَرَجَةً وَحَطّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً » . فقال له الأنصاريّ : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعتْه أذناني ووعاه قلبي . فخّلى سبيل القرشيّ ، فقال معاوية : مروا له بمال .
حدثنا محمود بن خِداش ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : قال ابن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدّقَ بِها ، كُفّرَ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمِثْلِ ما تَصَدّقَ بِهِ » .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمجروح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن زكريا ، قال : سمعت عامرا يقول : كفارة لمن تصدّق به .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : لوليّ القتيل الذي عفا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني شبيب بن سعيد ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم ، عن الهيثم أبي العريان ، قال : كنت بالشام ، وإذا برجل مع معاوية قاعد على السرير كأنه مولى ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال فمن تصدّق به هدم الله عنه مثله من ذنوبه . فإذا هو عبد الله بن عمرو .
وقال آخرون : عَنَى بذلك الجارحَ ، وقالوا معنى الاَية : فمن تصدّق بما وجب له من قَوَدَ أو قصاص على من وجب ذلك له عليه ، فعفا عنه ، فعفوه ذلك عن الجاني كفارة لذنب الجاني المجرم ، كما القصاص منه كفارة له قالوا : فأما أجر العافي المتصدّق فعلى الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للجارح ، وأجر الذي أصبب على الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت مجاهدا يقول لأبي إسحاق : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يا أبا إسحاق ؟ قال أبو إسحاق : للمتصدّق . فقال مجاهد : للمذنب الجارح .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : قال مغيرة ، قال مجاهد : للجارح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا هناد وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ومجاهد : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قالا : الذي تصدّق عليه ، وأجر الذي أصبيب على الله . قال هناد في حديثه ، قالا : كفارة للذي تصدّق به عليه .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبد بن حميد ، عن منصور ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن زكريا ، عن عامر ، قال : كفارة لمن تصدق به عليه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وإبراهيم ، قالا : كفارة للجارج ، وأجر الذي أصيب على الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سمعت زيد أسلم يقول : إن عفا عنه أو اقتصّ منه ، أو قبل منه الدية ، فهو كفارة له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : كفارة للجارح وأجر للعافي ، لقوله : فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ على اللّهِ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : كفارة للمتصدّق عليه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : حدثنا حصين ، عن ابن عباس : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : هي كفارة للجارح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهه فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ قال : فالكفارة للجارح ، وأجر المتصدّق على الله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : للقاتل ، وأجر للعافي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عمران بن ظبيان ، عن عديّ بن ثابت ، قال : هُتِم رجل على عهد معاوية ، فأُعطي دية فلم يقبل ، ثم أُعطي ديتين فلم يقبل ، ثم أُعطي ثلاثا فلم يقبل . فحدّث رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قوله : «فمن تَصَدّقَ بِدَمٍ فما دُونَهُ ، كانَ كَفّارَةً له مِنْ يَوْمِ تَصَدّقَ إلى يَوْمِ وُلِدَ » . قال : فتصدّق الرجل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ يقول : من جُرح فتصدّق بالذي جرح به على الجارح ، فليس على الجارح سبيل ولا قود ولا عقل ولا جرح عليه من أجل أنه تصدّق عليه الذي جرح ، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظلم .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عني به : فمن تصدّق به فهو كفارة له المجروح ، فلأن تكون الهاء في قوله «له » عائدة على من أولى من أن تكون من ذكر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح وأحرى ، إذ الصدقة هي المكفرة ذنب صاحبها دون المتصدّق عليه في سائر الصدقات غير هذه ، فالواجب أن يكون سبيل هذه سبيل غيرها من الصدقات .
فإن ظنّ ظانّ أن القصاص إذ كان يكفر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلما ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أخذ البيعة على أصحابه : «أنْ لا تَقْتُلُوا وَلا تَزْنُوا وَلا تَسْرِقوا » ثم قال : «فَمَنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدّهُ ، فَهُوَ كَفّارَتُه » . فالواجب أن يكون عفو العافي المجني عليه أو وليّ المقتوقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، ومعصيته التي أتاها ، وذلك ما لا نعلم قائلاً من أهل العلم يقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندكقوله . فإذ كان غير جائز أن يكون ترك المقذوف الذي وصفنا أمره أخذ قاذفهُ بالواجب له من الحدّ كفارة للقاذف من ذنبه الذي ركبه ، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذ الجارح بحقه من القصاص كفارة للجارح من ذنبه الذي ركبه .
فإن قال قائل : أو ليس لمجروح عندك أخذ جارحه بدية جرحه مكان القصاص ؟ قيل له : بلى . فإن قال : أفرأيت لو اختار الدية ثم عفا عنها ، أكانت له قِبَله في الاَخرة تبعة ؟ قيل له : هذا كلام عندنا محال ، وذلك أنه لا يكون عندنا مختار الدية إلا وهو لها آخذ . فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم . وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غير هذا بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . إلا أن يكون مرادا بذلك هبتها لمن أخذت منه بعد الأخذ ، مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صحّ لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوّ له عنها بريئا من عقوبة ذنبه عند الله لأن الله تعالى ذكره أو عد قاتل المؤمن بما أوعده به ، إن لم يتب من ذنبه ، والدية مأخوذة منه ، أحبّ أم سَخِط ، والتوبة من التائب إنما تكون توبة إذا اختارها وأرادها وآثرها على الإصرار . فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك ، فقد يجب أن يكون له كفارة كما جاز القصاص كفّارة فإنا إنما جعلنا القصاص له كفّارة مع ندمه وبذله نفسه لأخذ الحقّ منها تنصلاً من ذنبه ، بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأما الدية إذا اختارها المجروح ثم عفا عنها فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه ، فيكون ممن دخل في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله : «فمن أُقيم عليه الحَدّ فهو كَفّارَتُهُ » . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك ، الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «فمن تَصَدّق بدَمٍ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل . وقد يجوز أن يكون القائلون أنه عنى بذلك الجارح ، أرادوا المعنى الذي ذكر عن عروة بن الزبير ، الذي :
حدثني به الحرث بن محمد ، قال : حدثنا ابن سلام ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : إذا أصاب رجل رجلاً ولا يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب ، قال : وكان مجاهد يقول عند هذا : أصاب عروة ابن الزبير عين إنسان عند الركن فيما يستلمون ، فقال له : يا هذا أنا عروة بن الزبير ، فإن كان بعينك بأس فأنا بها .
وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعل على غير عمد ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه فعفا له المصاب بذلك عن حقه قبله ، فلا تبعة له حينئذٍ قبل المصيب في الدنيا ولا في الاَخرة لأن الذي كان وجب له قبله مال لا قصاص وقد أبرأه منه ، فإبراؤه منه كفّارة له من حقه الذي كان له أخذه به ، فلا طلبة له بسبب ذلك قبله في الدنيا ولا في الاَخرة ، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه من أصابه ، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به فيكون بفعله إنما يستحقّ به العقوبة من ربه لأن الله عزّ وجلّ قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطئوا فيه ولم يتعمدوه من أفعالهم ، فقال في كتابه : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما أخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ ما تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ . وقد يراد في هذا الموضع بالدم : العفو عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ لمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ .
يقول تعالى ذكره : ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوارة من قود النفس القائلة قصاصا بالنفس المقتولة ظلما . ولم يفقأ عين الفاقيء بعين المفقوءة ظلما قصاصا ممن أمه الله به بذلك في كتابه ، ولكن أقاد من بعض ولم يُقِد من بعض ، أو قتل في بعضِ اثنين بواحد ، وإن من يفعل ذلك من الظالمين ، يعني ممن جاء على حكم الله ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعا .