قوله تعالى : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } : الآية . " عليهم " الضمير للذين هادُوا ، و " فيها " للتوراةِ و " أن النفس بالنفس " : " أن " واسمُا وخبرُها في محلِّ نصبٍ على المفعولية ب " كتبنا " والتقدير : وكتبنا عليهم أَخْذَ النفسِ بالنفس . وقرأ الكسائي و " العينُ " وما عطف عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر بالنصب فيما عدا " الجروح " فإنهم يرفعونها . فأما قراءة الكسائي فوجَّهَها أبو علي الفارسي بثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسية على جملةٍ فعليةٍ فَتَعْطِفُ الجملَ كما تعطِفُ المفردات ، يعني أنَّ قولَه : " والعين " مبتدأ ، و " بالعين " خبره ، وكذا ما بعدها والجملةُ الاسميةُ عطفٌ على الفعليةِ من قولِه : " وكتبنا " وعلى هذا فيكون ذلك ابتداءَ تشريع ، وبيانَ حكمٍ جديد غير مندرجٍ فيما كتب في التورة ، قالوا : وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى . وعَبَّر الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف ، قال : " أو للاستنئافِ ، والمعنى : فَرَضْنا عليهم أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفسِ مقتولةٌ بها إذا قَتَلتْها بغيرِ حقٍّ ، وكذلك العينُ مفقوءةٌ بالعينِ ، والأنفُ مجدوعٌ بالأنف ، والأذنُ مصلومةٌ أو مقطوعة بالأذن ، والسنُّ مقلوعةٌ بالسن ، والجروحُ قصاصٌ وهو المُقاصَّة " وتقديرُه : أنَّ النفسَ مأخوذةٌ بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قَدَّر ذلك في جميعِ المجروراتِ ، أي : والعينُ مأخوذةٌ بالعين إلى آخره ، والذي قَدَّره الزمخشري مناسبٌ جداً ، فإنه قَدَّر متعلَّق كلِّ مجرور بما يناسِبُه : فالفَقْءُ للعينِ ، والقلعُ للسنِّ ، والصَّلْمُ للأذن ، والجَدْعُ للأنف . إلا أنَّ الشيخ كأنه غَضَّ منه حيث قَدَّر الخبرَ تعلَّق به المجرورُ كوناً مقيداً . والقاعدةُ في ذلك إنما يقدِّر كوناً مطلقاً ، قال : " وقال الحوفي : " بالنفس " يتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه يجب أو يستقر ، وكذا العينُ بالعينِ وما بعدها ، فقدَّر الكونَ المطلقَ ، والمعنى : يستقر قَتْلُها بقتل النفس " إلا أنه قال قبلَ ذلك : " وينبغي أَنْ يُحمل قولُ الزمخشري على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الاعراب " ثم قال : " فقدَّر - يعني الزمخشري - ما يقرب من الكونِ المطلق وهو : " مأخوذٌ " فإذا قلت : " بعت الشياه شاةً بدرهم فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ " .
الوجه الثاني من توجيه الفارسي : أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسمية على الجملة من قوله : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } لكنْ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، فإنَّ معنى " كَتَبْنا عليهم أنَّ النفس بالنفس " قلنا لهم النفس بالنفس ، فالجملُ مندرجةٌ تحت الكَتْبِ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ .
وقال ابنُ عطية : " ويُحْتمل أن تكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى ، وذكر ما تقدم ، ثم قال : " ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قوله : { يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين } يُمْنحون عَطَفَ " وحوراً عينا " عليه ، فنظَّر هذه الآية بتلك لا شتراكِهما في النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ . قال الشيخ : " وهذا من العطف على التوهُّم ، إذ توهَّم في قوله { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } : النفسُ بالنفسِ / وضعَّفه بأن العطفَ على التوهُّمِ لا ينقاس . والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عَبَّر بعبارةٍ آخرى فقال : " الرفع [ للعطف ] على محلِّ " أنَّ النفسَ " لأن المعنى : " وكتبنا عليهم النفسُ : إمَّا لإِجراء " كتبنا " " مُجْرى " قُلْنا ، وإمَّا أن معنى الجملة التي هي " النفس بالنفس " مِمَّا يقع عليه الكَتْب كما تقع عليه القراءة تقول : كَتَبْتُ : الحمدُ لله ، وقرأت : سورةٌ أَنْزلناها ، ولذلك قال الزجاج : " لو قُرئ إنَّ النفسَ بالنفسِ بالكسر لكانَ صحيحاً " قال الشيخ : " هذا هو [ الوجهُ ] الثاني من توجيه أبو عليّ ، إلا أنه خَرَج عن المصطلح حيث جَعَله من العطفِ على المحلِّ وليس منه ، لأنَّ العطف على المحل هو العطفُ على الموضعِ ، وهو محصورٌ ليس هذا منه ، ألا ترى أنَّا لا نقول : " أنَّ النفسَ بالنفس " في محلِّ رفعٍ لأنَ طالبَه مفقودٌ ، بل " أن " وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ لفظُه وموضعُه نصبٌ ، إذ التقديرُ : كَتَبْنا عليهم أَخْذَ النفسِ " قلت : والزمخشري لم يَعْنِ أنَّ " انَّ " وما في حَيِّزها في محل رفع فعطف عليها المرفوعَ حتى يُلْزِمَه الشيخُ بأنَّ لفظها ومحلَّها نصبٌ ، إنما عَنَى أنَّ اسمَها محلُّه الرفعُ قبلَ دخولِها ، فراعى العطفَ عليه كما راعاه في اسم " إنَّ " المكسورة . وهذا الردُّ ليس للشيخِ ، بل سَبَقَه إليه أبو البقاء فأخذه منه . قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكونَ معطوفاً على " أَنَّ " وما عملت فيه ؛ لأنها وما عملت فيه في موضع نصب " انتهى . وليس بشيءٍ لما تقدم .
قال الشيخ شهاب الدين أو شامة : " فمعنى الحديثِ : قُلْنا لهم : النفسُ بالنفسُ ، فَحَمَل " العين بالعين " على هذا ، لأنَّ " أنَّ " لو حُذِفت لاستقام المعنى بحذفِها كما اسقام بثبوتِها ، وتكون " النفس " مرفوعةً فصارت " أنَّ " هنا ك " إنَّ " المكسورة في أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجملةِ ، فجاز العطفُ على محل اسمِها كما يجوزُ على محلِّ اسم المكسورة ، وقد حُمِل على ذلك : { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] قال الشيخ أبو عمرو - يعني أن الحاجب - ورسولُه بالرفع معطوف على اسم " انَّ " وإنْ كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة ، وهذا موضعٌ لم يُنَبِّه عليه النحويون " قلت : بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك واختلفوا فيه ، فجوَّزه بعضهم وهو الصحيحُ ، وأكثرُ ما يكون ذلك بعد " علم " أو ما في معناه كقوله :
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتمْ *** بُغاةٌ ما بَقِينا في شقاق
وقوله : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ } [ التوبة : 3 ] الآية ؛ لأنَّ الأذانَ بمعنى الإِعلام .
الوجه الثالث : أنَّ " العين " عطفٌ على الضمير المرفوع المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً ، إذ التقديرُ : أنَّ النفسَ بالنفس هي والعينُ ، وكذا ما بعدها ، والجارُّ والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينةً للمعنى ، إذ المرفوعُ هنا مروفوعٌ بالفاعلية لعطفِه على الفاعل المستتر ، وضُعِّفَ هذا بأنّ هذه أحوالٌ لازمةٌ ، والأصلُ أن تكون منتقلةً ، وبأنه يلزَمُ العطفُ على الضميرِ المرفوع المتصلِ من غير فصلٍ بين المتعاطفينِ ولا تأكيدٍ ولا فصلٍ ب " لا " بعد حرف العطف كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةً ، قال أبو البقاء : " وجاز العطفُ من غيرِ توكيدٍ كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] قلت : قام الفصلُ ب " لا " بين حرف العطف والمعطوف مقامَ التوكيدِ فليس نظيرَه . وللفارسي [ بحثٌ في قوله : { ما أشركنا ولا آباؤنا } مع سيبويه ، فإنَّ سيبويه يجعلُ طولَ الكلامِ ب " لا " عوضاً عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال ] الكلامُ في قولهم : " حضر القاضيَ اليومَ امرأةٌ " قال الفارسي : " هذا يستقيمُ إذا كان قبل حرف العطف ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : " حضر امرأة القاضي اليوم " لم يُغْنِ طولُ الكلامِ في غير الموضعِ الذي ينبغي أن يقع فيه " . قال ابنُ عطية : " وكلامُ سيبويهِ متجهٌ على النظرِ النحوي وإن كان الطول قبل حرفِ العطف أَتَمَّ ، فإنه بعد حرفِ العطفِ مؤثِّرٌ لا سيما في هذه الآيةِ لأن " لا " رَبَطتِ المعنى ، إذ قد تَقدَّمها نفيٌ ونَفَتْ هي أيضاً عن الآباءِ فيمكن العطفُ " .
واختار أبو عبيد قراءةَ رفعِ الجميع ، وهي روايةٌ الكسائي ، لأن أَنَساً رواها قراءةً للنبي صلى الله عليه وسلم . ورَوَى أنس عنه السلام أيضاً " أنْ النفسُ بالنفس " تبخفيف " أَنْ " ورفعِ النفس وفيها تأويلان ، أحدهما : أَنْ تكونَ " أَنْ " مخففةً من الثقيلة واسمُها ضميرُ الأمر والشأن محذوفٌ ، و " النفسُ بالنفس " مبتدأ وخبر ، في محلِّ رفع خبراً ال " أَنْ " المخففة ، كقوله : { أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ، فيكون المعنى كمعنى المشددة . والثاني : أنها " أَنْ " المفسرةُ لأنها بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه وهو " كَتَبْنا " والتقديرُ : أي النفسُ بالنفس ، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزَمُ من الأولِ وقوعُ المخففةِ بعد غيرِ العلمِ وهو قليل أو ممنوعٌ ، وقد يُقال : إن " كتبنا " لَمَّا كان بمعنى " قضينا " قَرُبَ من أفعال اليقين .
وأمَّا قراءةُ نافع ومَنْ معه فالنصبُ على اسم " أَنَّ " لفظاً وهي النفس والجارُّ بعدَه خبرُه ، و " قصاصٌ " خبر " الجروح " أي : وأنَّ الجروحَ قصاص ، وهذا من عطفِ الجملِ ، عَطَفنا الاسمَ على الاسم والخبرَ على الخبر ، كقولك " إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق " عطفْتَ " عمراً " على " زيداً " و " منطلق " على " قائم " ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع ، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكونَ " قصاص " خبراً على المنصوباتِ أجمعَ فإنه قال : " وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصبِ ذلك كلِّه ، و " قصاص " خبرُ أَنَّ " وهذا وإنْ كان يَصْدُقُ أنَّ أَخْذَ النفسِ بالنفسِ والعينَ بالعينِ قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح ، وهو محلُّ نظر .
وأمَّا قراءة أبي عمرو ومَنْ معه فالمنصوبُ كما تقدَّم في قراءة نافع ، لكنهم لم يَنْصِبُوا " الجروح " قطعاً له عَمَّا قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيهِ قراءة الكسائي ، وقد تقدَّم إيضاحُه . والرابع : أنه مبتدأ وخبره " قصاص " يعني أنه ابتداءُ تشريعٍ ، وتعريفُ حكمٍ جديد ، قال أبو عليّ " فأمَّا والجروحُ قصاص : فمن رفعه يَقْطَعْه عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الأوجهَ الثلاثةَ التي ذكرناها في قراءة مَنْ رفع " والعينُ بالعين " ويجوز أن يُستأنف : " والجروحُ قصاص " ليس على أنه مما كُتِب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف وابتداءِ تشريع " انتهى . إلا أنَّ أبا شامة قال : قبل أن يَحْكي عن الفارسي هذ الكلامَ - " ولا يستقيم في رفع الجروح الوجهُ الثالث وهو أنه عطفٌ على الضمير الذي في خبر " النفس " وإنْ جاز فيما قبلها ، وسببُه استقامةُ المعنى في قولك : مأخوذةٌ هي بالنفس ، والعينُ هي مأخوذة بالعين ، ولا يَسْتقيم : والجروحُ مأخوذةٌ قصاص ، وهذا معنى قولي " لَمَّا خلا قولُه " الجروح قصاص " عن الباءِ في الخبر خالَف الأسماءَ التي قبلها فخولِفَ بينهما في الاعراب " قلت : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبَّه لم كثيرٌ من المُعْرِبين .
وقال بعضُهم : " إنما رُفِع " الجروح " ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لِما قبله فرقاً بين المجملِ والمفسرِ " يعني أنَّ قَولَه " النفس بالنفس والعينَ بالعين " مفسَّرٌ غيرُ مجملٍ ، بخلاف " الجروح " فإنها مجملةٌ ؛ إذ ليس كلُّ جرح يَجْرَي فيه قصاصٌ : بل ما كان يُعْرَفُ فيه المساواةُ وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه . وقال بعضُهم : خُولِف في الإِعراب لاختلافِ الجراحات وتفاوتِها ، فإذن الاختلافُ في ذلك كالخلاف المشارِ إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمةَ بين مخالفة الإِعراب ومخالفةِ الأحكامِ المشار إليها بوجهٍ من الوجوهِ ، وإنما ذَكَرْتُها تنبيهاً على ضَعْفِها .
وقرأ نافع : " والأذْن بالأذْن " سواء كان مفرداً أم مثنى كقوله : { كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] بسكون الذال وهو تخفيفٌ للمضوم كعُنْق في " عُنُق " والباقون بضمِّها ، وهوا لأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه تقديرُه : وحكمُ الجروحِ قصاصٌ ، أو : والجروحُ ذاتُ قصاص .
والقِصاص : المُقاصَّةُ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب " النفس " والأربعة بعدها و " أنِ الجروحُ " بزيادة " أن " الخفيفة ، ورفع " الجروحُ ، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ ، بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنس عنه عليه السلام بتخفيف " أن " ورفعِ " النفس " حيث جَوَّزْنا فيها الوجهين ، وذلك / لأنه لو قَدَّرْتها التفسيريةَ وجَعَلْتَها معطوفةً على ما قبلَها فَسَدَ من حيث إنَّ " كتبنا " يقتضي أَنْ يكونَ عاملاً لأجل " أنَّ " المشددة غيرُ عامل لأجل " أَنْ " التفسيرية ، فإذا انتفى تسلُّطُه عليها انتفى تشريكُها مع ما قبلها ، لأنه إذا لم يكن عملٌ فلا تشريكٌ ، فإذا جعلتها المخففةَ تسلَّط عملُه فاقتضى العملُ التشريكَ في انصبابِ معنى الكَتْب عليهما . وقرأ أبيّ : " فهو كفارتُه له " أي : التصدُّق كفارةٌ ، يعني الكفارة التي يستحفها له لا ينقصُ منها ، وهو تعظيمٌ لِما فَعَلَ كقوله : { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] .
قوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاصِ المتعلِّق بالنفس أو بالعين أو بما بعدَها ، فهو أي : فذلك التصدقُ عاد الضمير على المصدر لدلالة فعلِه عليه ، وهو كقوله تعالى : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] . والضميرُ في " له " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها - وهو الظاهر - : أنه يعود على المتصدِّق والمرادُ به مَنْ يستحِقُّ القِصاصَ مِنْ مصابٍ أو وليّ ، أي : فالتصدقُ كفارةٌ لذلك المتصدِّق بحقه ، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمَنْ بعدَهم . والثاني : أنَّ الضميرَ يُراد به الجاني ، والمراد بالمتصدِّق كما تقدم مستحقُ القصاص ، والمعنى : انه إذا تصدَّق المستِحقُّ على الجاني كان ذلك التصدُّقُ كفارةً للجاني حيث لم يُؤَاخَذْ به . قال الزمخشري : " وقيل : فهو كفارةٌ له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحبُ الحق سَقَط عنه ما لَزِمه " وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين . والثالث : أن الضميرَ يعودُ على المتصدِّق أيضاً ، لكن المرادَ به الجاني نفسه ، ومعنى كونِه متصدِّقاً أنه إذا جنى جنايةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّف هو بنفسه كان ذلك الاعترافُ بمنزلةِ التصدُّق الماحي لذنبِه وجنايِته ، قاله مجاهد ، ويُحْكى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه فلم يَعْرف الرجلُ مَنْ أصابه ، فقال له عروة : " أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير ، فإنْ كان يعنيك شيءٌ فيها أنا ذا " ، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون " تصدَّق " من الصدَقة وأن يكون من الصِدْق .
قلت : الأول واضح ، والثاني معناه أنه يتَكَلَّفُ الصدق ، لأن ذلك مما يَشُقُّ . وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يجوزُ في " مَنْ " أن تكونَ شرطيةٌ ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، والفاءُ في الخبر زائدةٌ لشبهِه بالشرط . و " هم " في قوله : { هُمُ الْكَافِرُونَ } ونظائرهُ فصلٌ أو مبتدأٌ ، وكلُّه ظاهرٌ مِمَّا تقدَّم في نظائره .