تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (45)

وقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } إلى آخره . أخبر الله عز وجل أنه كان كتب على أهل التوراة { النفس بالنفس } وقد كتب علينا أيضا قتل النفس بالنفس بقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتل } [ البقرة : 178 ] كأنه قال : كتبت عليكم القصاص في القتل بالنفس كما كنت عليهم . وأما القصاص في ما دون النفس فإنه لم يبين في الآية التي أخبر عز وجل أنه كتب علينا القصاص في القتل .

ثم يحتمل أن يكون قوله تعالى : { والعين بالعين والأنف بالأنف } إلى ما ذكر وجهين :

يحتمل أن يكون إخبارا عما كان مكتوبا عليهم من القصاص في ما دون النفس كالنفس . ألا ترى أنه قرئ في بعض القراءات بالنصب نسقا على الأول ؟

ويحتمل على الابتداء على غير إخبار منه ، ولكن على الإيجاب ابتداء .

والذي يدل على ذلك قوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } لا يحتمل أن يكون هذا في الخبر لأن ذلك ترغيب في العفو في الحادث من الوقت . دل أنه ليس على الإخبار ، ولكن على الابتداء . ألا ترى أكثر القراء قرؤوا بالرفع غير قوله : { النفس بالنفس } فإنه بالنصب ؟

ثم ذكر { والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن } ولم يذكر اليد والرجل . وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : لم يحتمل أن يكون القصاص في اليد ظاهرا ، فيستدل بوجوبه في ما هو أظهر منه لأن المنتفع بالنصر والأنف والسمع ليس إلا صاحبه ، وقد ينتفع غيره بيد آخر وبرجله .

والثاني : أن يكون وجوب القصاص في اليد في قوله : { والجروح قصاص } .

ثم تخصيص الأسنان بوجوب القصاص دون غيرها من العظام لأن الأسنان بادية ظاهرة ، ويقع عليها البصر ، ويقدر على الاقتصاص .

وأما غيرها من العظام مما لا يقع عليها البصر ، ولا يقدر على الاقتصاص إلا بعد كسر آخر وقطع لحم ، لذلك خصت الأسنان بالاقتصاص دون سائر العظام ، والله أعلم .

ثم فيه دليل وجوب القصاص في العضو الذي لا منفعة فيه سوى البهاء بذهاب البهاء لأنه ذكر الأنف والأذن ، وليس في الأنف والأذن إلا ذهاب البهاء ، فأوجب ذهاب البهاء القصاص كما أوجبه في ذهاب المنفعة . وعلى هذا يخرج قولنا : وجوب الدية في ذهاب البهاء على الكمال كوجوبها في ذهاب المنفعة على الكمال . على [ أن ] أهل العلم مجمعون أن القصاص واجب بين الرجال الأحرار في العين والأنف والأذن والسن والجروح التي ليس فيها كسر عظم إذا جني على شيء من ذلك عمدا تحديده . وأما القصاص بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار في ما دون النفس فأهل العلم اختلفوا فيه ، وكان أصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، لا يرون القصاص بينهم في ذلك ، ويرون القصاص في الأنفس . فأهل العلم اختلفوا فيه . والفرق بينهم أن جماعة لو قتلوا به ، ولو قطع جماعة يد رجل لم تقطع أيديهم . فالتفاضل في النفس غير معتبر به ، ويعتبر في ما دون النفس ، وقد ذكرنا هذه المسألة في ما تقدم ذكرا كافيا .

وقوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } اختلف فيه : قال بعضهم : هو صاحب الدم ، كفارة لما كان ارتكب هو . وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : «من تصدق بدم فما دونه كان له كفارة من يوم ولد إلى يوم تصدق » [ أبو يعلى : 6869 ] وقال بعضهم : قوله تعالى : { فمن تصدق به فهو كفارة له } يعني كفارة للقاتل إذا عفا الولي ؛ وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وعن مجاهد هو كفارة للجارح وأجر للمتصدق على الله . والأول كأنه أقرب وأشبه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } هذا إذا ترك الحكم بما أنزل الله جحودا منه فهو كافر .