قوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } .
أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن " الرجم " فغيَّروه وبدَّلوه ، وبيَّن أيضاً في التوراة : أن النفس بالنفس فغيَّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم ، ومعنى " كتبنا " أي : فرضنا ، وكان شر القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية والضمير في " عليهم " ل " الذين هادوا " . قوله تعالى : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } : " أن " واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب " كتبنا " ، والتقدير : وكتبنا عليهم أخْذَ النفس بالنفس .
وقرأ الكسائي{[11858]} " والعَيْنُ " وما عُطِفَ عليها بالرفع ، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع .
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر{[11859]} بالنصب فيما عدا " الجُرُوح " فإنهم يرفعونها .
فأما قراءة الكسائي فوجَّهَهَا أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون " الواو " عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية ، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات ، يعني أن قوله : " والعين " مبتدأ ، و " بالعين " خبره ، وكذا ما بعدها ، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله : " وَكَتَبْنَا " وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع ، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة .
قالوا : وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى .
وعَبَّرَ الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال : " أو " للاستئناف ، والمعنى : فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها ، إذا قتلها بغير حقٍّ ، وكذلك العين مَفْقُودة بالعين ، والأنف مَجْدُوع بالأنف ، والأذن مَصْلُومة أو مقطوعة بالأذن والسِّنّ مقلوعة بالسن ، والجُرُوح قصاص وهو المُقَاصَّة ، وتقديره : أن النفس مأخوذة بالنفس ، سبقه إليه الفارسي ، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات ، أي : والعين مأخوذة بالعين إلى آخره ، والذي قدَّرَه الزمخشري مناسب جداً ، فإنه قدر متعلَّق كل مجرور بما يناسبه ، فالفَقْء{[11860]} للعين ، والقَلْع للسن ، والصَّلْمُ للأذن ، والجَدْع للأنف ، إلا أن أبا حيّان [ كأنه ]{[11861]} غضَّ منه حيث قدَّر الخبر الذي تعلَّق به المجرور كوناً مقيداً ، والقاعدة في ذلك إنما يقدَّر كوناً مُطْلَقاً .
قال : " وقال الحوفي : " بالنفس " يتعلّق بفعل محذوف تقديره : يجب أو يستقر ، وكذا العين بالعين وما بعدها ، فقدَّر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس " ، إلا أنه قال قبل ذلك : " وينبغي أن يُحْمَلَ قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب " ثم قال : فقدَّر - يعني : الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق ، وهو : " مأخوذ " ، فإذا قلت : " بعت الشياه شاةً بدرهم " ، فالمعنى : مأخوذة بدرهم ، وكذلك الحر بالحر أي : مأخوذ .
والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ : أن تكون " الواو " عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله : { أن النفس بالنفس } . [ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، فإن معنى { كتبنا عليهم أن النفس بالنفس } قلنا لهم : إن النفس بالنفس ]{[11862]} فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ .
وقال ابن عطية{[11863]} : " ويحتمل أن تكون " الواو " عاطفة على المعنى " وذكر ما تقدم ، ثم قال : ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الصافات : 45 ] يُمْنَحُون{[11864]} عطف " وحوراً عيناً " عليه ، فنظَّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى ، دون اللفظ وهو حَسَنٌ .
قال أبو حيان{[11865]} : وهذا من العطف على التوهم ؛ إذ توهم في قوله : { أنَّ النفس بالنفس } : النفسُ بالنفسِ ، وضعَّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس .
والزمخشري نحا إلى هذا المعنى ، ولكنه عبَّر بعبارة أخرى فقال : [ الرفع للعطف ]{[11866]} على محلِّ " أن النفس " ؛ لأن المعنى : " وكتبنا عليهم النفسُ بالنفسِ " ، إما لإجراء " كتبنا " " مجرى " قلنا ، وإما أن معنى الجملة التي هي " النفس بالنفس " مما يقع عليه الكَتْبُ ، كما تقع عليه القراءة تقول : كتبتُ : الحمدُ لله وقرأت : سُورةٌ أنزلناها ، ولذلك قال الزَّجَّاج{[11867]} : " لو قرىء إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحاً " .
قال أبو حيان{[11868]} : هذا الوجْهُ الثاني من توجيه أبي عليٍّ ، إلا أنه خرج عن المصطلح ، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه ، لأن العطف على المحلِّ هو العطف على الموضعِ ، وهو محصور ليس هذا منه ، ألا ترى أنا لا نقول : { أن النفس بالنفس } في محل رفع ؛ لأن طالبه مفقود ، بل " أن " وما في حيِّزهَا بتأويل مصدر لفظه وموضعه نَصبٌ ؛ إذ التقدير : " كتبنا عليهم أخذ النفس " ، قال شهاب الدين{[11869]} : والزمخشري لم يَعْنِ أن{[11870]} " أن " وما في حيِّزهَا في محل رفع ، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلَّها نصب ، إنما عَنى أن اسمها محلُّه الرفع قبل دخولها ، فراعَى العطف عليه كما راعاه في اسم " إن " المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان ، بل سبقه إليه أبو البقاء ، فأخذه منه .
قال أبو البقاء{[11871]} : " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " أنّ " وما عملت فيه في موضع نصب " انتهى .
قال أبو شامة : فمعنى الحديث : قلنا لهم : النَّفْسُ بالنفسُ ، فحمل " العين بالعين " على هذا ، لأنَّ " أنَّ " لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها ، وتكون " النفس " مرفوعة ، فصارت " أن " هنا ك " إن " المكسورة في أن حذفها لا يُخلُّ بالجملة ، فجاز العَطْفُ على محل اسمها ، كما يجوز على محلِّ اسم المكسورة ، وقد حُمِلَ على ذلك : أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 3 ] .
قال ابن الحاجب : " ورسوله " بالرفع معطوف على اسم " أنَّ " وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة ، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون .
قال شهاب الدين{[11872]} : بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك ، واختلفوا فيه ، فجوَّزه بعضهم ، وهو الصحيحُ ، وأكثر ما يكون ذلك بعد " علم " أو ما في معناه كقوله : [ الوافر ]
وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ *** بُغَاةٌ ما بَقِينَا فِي شِقَاقِ{[11873]}
وقوله تعالى : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ } [ التوبة : 3 ] الآية ؛ لأن " الأذان " بمعنى الإعلام .
الوجه الثالث : أن " العين " عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً ؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ ، وكذا ما بعدها ، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى ؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضُعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة ، والأصل أن تكون منتقلةً ، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين ، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ ب " لا " بعد حرف العطف كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً .
قال أبو البقاء{[11874]} : وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] قال شهاب الدين{[11875]} : قام الفصْل ب " لا " بين حرف العطف ، والمعطوف مقام التوكيد ، فليس نظيره .
وللفارسي بحث في قوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] مع سيبويه ، فإن سيبويه{[11876]} يجعل طول الكلام ب " لا " عوضاً عن التوكيد بالمنفصل ، كما طال الكلام في قولهم : " حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ " .
قال الفارسي : " هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير ، ألا ترى أنك لو قلت : " حضر امرأة القاضي اليوم " لم يُغْنِ{[11877]} طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه " .
قال ابن عطية{[11878]} : " وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي ، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر ، لا سيما في هذه الآية ، لأن " لا " ربطت المعنى ؛ إذ قد تقدمها نفي ، ونفت{[11879]} هي أيضاً عن " الآباء " فيمكن العطف .
واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع ، وهي رواية الكسائي ؛ لأن أنَساً - رضي الله عنه - رواها قراءة للنبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أنس عنه - عليه الصلاة والسلام - أيضاً " أن النَّفسُ بالنَّفسِ " بتخفيف " أنْ " ورفع " النفس " ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أن تكون " أنْ " مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، و " النفس بالنفس " مبتدأ وخبر ، في محل رفع خبراً ل " أن " المخففة ، كقوله : { أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة .
والثاني : أنها " أنْ " المفسرة ؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو " كتبنا " ، والتقدير : أي النفسُ بالنفس ، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم ، وهو قليل أو ممنوع ، وقد يقال : إن " كتبنا " لمّا كان بمعنى " قضينا " قَرُبَ من أفعال اليَقينِ .
وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم " أنَّ " لفظاً ، وهي النفس ، والجار بعده خبرُه .
و " قصاصٌ " خبر " الجروح " ، أي : وأن الجروح قصاص ، وهذا من عطف الجُمَلِ ، عطفت الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر ، كقولك " إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق " عطفت " عمراً " على " زيداً " ، و " منطلق " على " قائم " ، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع ، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون " قصاص " خبراً على المنصوبات أجمع ، فإنه قال : وقرأ نافع وحمزة وعاصم{[11880]} بنصب ذلك كلِّه ، و " قصاص " خبرُ " أنَّ " ، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص ، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح ، وهو محل نظر .
وأما قراءة أبي عمرو ومن معه ، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع ، لكنهم لم ينصبوا " الجروح " قطعاً له عما قبله ، وفيه أربعة أوجه : الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي ، وقد تقدم إيضاحه .
والرابع : أنه مبتدأ وخبره " قصاص " ، يعني : أنه ابتداء تشريعٍ ، وتعريف حكم جديد .
قال أبو علي : " فأمّا " والجروح قصاص " [ فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله ، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع " والعين بالعين " ، ويجوز أن يستأنف " والجروح قصاص " ]{[11881]} ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة ، ولكنه على الاستئناف ، وابتداء تشريع " انتهى .
إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام - : " ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث ، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر " النفس " وإن جاز فيما قبلها ، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك : مأخوذة هي بالنفس ، والعين هي مأخوذة بالعين ، ولا يستقيم ، والجروحُ مأخوذة قصاص ، وهذا معنى قولي{[11882]} : لما خلا قوله : " الجروح قصاص " عن " الباء " في الخبر خالف الأسماءَ التي قبلها ، فخولف بينهما في الإعراب " .
قال شهاب الدين{[11883]} : وهذا الذي قاله واضح ، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين .
وقال بعضهم : " إنما رُفِعَ " الجروح " ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لما قبله فَرْقاً بين المجمل والمفسر " . يعني أن قوله : " النَّفْسَ بالنفسِ ، والعينَ بالعينِ " مفسّر غير مجمل ، بخلاف " الجروح " ، فإنها مجملة ؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاصٌ ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة ، وأمكن ذلك فيه ، على تفصيل معروف في كتب الفقه .
وقال بعضهم : خُولِفَ في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها ، فإذن الاختلاف في ذلك كالخِلافِ المُشَارِ إليه ، وهذان الوجهان لا معنى لهما ، ولا ملازمة بين مُخَالَفَةِ الإعراب ، ومخالفةِ الأحكام المُشَارِ إليها بوجهٍ من الوُجُوهِ ، وإنما ذكرتها تنبيهاً على ضعفها .
وقرأ نافع{[11884]} : " والأذْن بالأذْن " سواء كان مفرداً أم مثنى ، كقوله : { كَأَنَّ فِي أُذْنَيْهِ وَقْراً } [ لقمان : 7 ] بسكون الذال ، وهو تخفيف للمضموم ك " عُنْق " في " عُنُق " والباقون بضمهما ، وهو الأصل ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : " والجروحُ قصاص " : إمَّا من الأول ، وإمَّا من الثاني ، وسواء قُرئ برفعه أو بنصبه ، تقديره : وحكم الجروح قصاص ، أو : والجروح ذات قصاص .
والقِصَاصُ : المقُاصَّةُ ، وقد تقدم الكلام عليه في " البقرة " [ الآية 178 ] .
وقرأ{[11885]} أبيّ بنصب " النفس " ، والأربعة بعدها و " أن الجُرُوحُ " بزيادة " أن " الخفيفة ، ورفع " الجُرُوح " ، وعلى هذه القراءة يَتعيَّنُ أن تكون المخففة ، ولا يجوز أن تكون المفسرة ، بخلاف ما تقدَّم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف " أن " ورفع " النفس " حيث جوزنا فيها الوجهين ، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [ وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن " كتبنا " يقتضي أن يكون عاملاً لأجل أنّ " أن " المشدّدة غير عامل لأجل " أنْ " التفسيرية ]{[11886]} . فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها ؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك ، فإذا جعلتها المُخَفَّفَةَ تسلَّطَ عمله عليها ، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكَتْبِ عليهما .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة ، وهو أن النفس بالنفس . الخ ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين ، ويفقأون بالعين العينين{[11887]} ، والمعنى أن من قتل نفساً بغير قود قتله ، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح ، إنما هو العفو أو القصاص ، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة ، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمَّ بعض التخصيص فقال : " والجروح قصاص " ، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والألْيتيْنِ والقدمَيْنِ واليدين وغيرهما ، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف ، ففيه أرش ؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته .
وقرأ أبيّ{[11888]} : " فهو كفارته له " ، أي : التصدق كفارة ، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله : { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] .
قوله تعالى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ } أي : بالقصاص المتعلق بالنفس ، أو بالعين أو بما بعدها ، فهو أي : فذلك التصدقُ ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه ، وهو كقوله تعالى : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] .
والضمير في " له " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الظاهر : أنه يعود على الجاني ، والمراد به وَلِيّ القصاص أي : فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه ، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى ]{[11889]} .
والثاني : أن الضمير [ يراد به ]{[11890]} الجاني ، [ والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص ، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني ]{[11891]} ، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به .
قال الزمخشري{[11892]} : " وقيل : فهو كفارة له أي : للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة " فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ " {[11893]} وإلى هذا ذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - في آخرين .
الثالث : أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً ، لكن المراد الجاني نفسه ، ومعنى كونه متصدقاً ، أنه إذا جنى جناية ، ولم يعرف به أحد ، فعرف هو بنفسه ، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد .
وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه ، فلم يعرف الرجل من أصابه ، فقال له عروة : " أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا " {[11894]} وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون " تصدَّق " من الصدقة ، وأن يكون من الصِّدْق .
قال شهاب الدين{[11895]} : فالأول واضح ، والثاني معناه أن يتكلف الصدق ؛ لأن ذلك مما يشق .
وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } يجوز في " مَنْ " أن تكون شرطية ، وهو الظاهر ، وأن تكون موصولةً ، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط .
و " هم " في قوله : " هم الكافرون " ونظائره فصل أو مبتدأ{[11896]} ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره .
فإن قيل : إنه ذكر أولاً قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44 ] وثانياً : " هم الظالمون " والكفر أعظم من الظلم . فلماذا ذكر أعظم التهديدات ، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك ؟ فالجواب : أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها ، فهو كفر ، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم .