الأولى : قوله تعالى : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " بين تعالى أنه سوى بين النفس والنفس في التوراة فخالفوا ذلك ، فضلوا ، فكانت دية النضيري أكثر ، وكان النضيري لا يقتل بالقرظي ، ويقتل به القرظي فلما جاء الإسلام راجع بنو قريظة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فحكم بالاستواء ، فقالت بنو النضير : قد حططت منا ، فنزلت هذه الآية . و " كتبنا " بمعنى فرضنا . وقد تقدم . وكان شرعهم القصاص أو العفو ، وما كان فيهم الدية ، كما تقدم في " البقرة " {[5629]} بيانه . وتعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية فقال : يقتل المسلم بالذمي ؛ لأنه نفس بنفس ، وقد تقدم في " البقرة " {[5630]} بيان هذا . وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : لا ، إلا ما في هذا ، وأخرج كتابا من قراب سيفه وإذا فيه ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ) وأيضا فإن الآية إنما جاءت للرد على اليهود في المفاضلة بين القبائل ، وأخذهم من قبيلة رجلا برجل ، ومن قبيلة أخرى رجلا برجلين . وقالت الشافعية : هذا خبر عن شرع من قبلنا ، وشرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، وقد مضى في " البقرة " {[5631]} في الرد عليهم ما يكفي فتأمله هناك . ووجه رابع : وهو أنه تعالى قال : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " وكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة وهم ملة واحدة ، ولم يكن لهم أهل ذمة كما للمسلمين أهل ذمة ؛ لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين ، ولم يجعل الفيء لأحد قبل هذه الأمة ، ولم يكن نبي فيما مضى مبعوثا إلا إلى قومه ، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل إذ كانت دماؤهم تتكافأ ، فهو مثل قول الواحد منا في دماء سوى المسلمين النفس بالنفس ، إذ يشير إلى قوم معينين ، ويقول : إن الحكم في هؤلاء أن النفس منهم{[5632]} بالنفس ، فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال لهم فيما بينهم على - هذا الوجه - : النفس بالنفس ، وليس في كتاب الله ما يدل على أن النفس بالنفس مع اختلاف الملة .
الثانية : قال أصحاب الشافعي وأبو حنيفة : إذا جرح أو قطع الأذن أو اليد ثم قتل فعل ذلك به ؛ لأن الله تعالى قال : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " فيؤخذ منه ما أخذ ، ويفعل به كما فعل . وقال علماؤنا : إن قصد به المثلة فعل به مثله ، وإن كان ذلك في أثناء مضاربته ومدافعته قتل بالسيف ، وإنما قالوا ذلك في المثلة يجب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعين العرنيين ، حسبما تقدم بيانه في هذه السورة{[5633]} .
الثالثة : قوله تعالى : " والعين بالعين " قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف ، ويجوز تخفيف " أن " ورفع الكل بالابتداء والعطف . وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح . وكان الكسائي وأبو عبيد يقرآن " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن والجروح " بالرفع فيها كلها . قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عن أنس النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وكتبنا عليهم فيها أن{[5634]} النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " . والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر ، وعلى المعنى على موضع " أن النفس " ؛ لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس . والوجه الثالث : قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس ؛ لأن الضمير في النفس في موضع رفع ؛ لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس ، فالأسماء معطوفة على هي . قال ابن المنذر : ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام ، حكم في المسلمين{[5635]} ؛ وهذا أصح القولين ، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " والعين بالعين " وكذا ما بعده . والخطاب للمسلمين أمروا بهذا . ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستئناف بها ، كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة وما قبله لم يواجهوا به .
الرابعة : هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله : " والعين بالعين " على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس ، وأجر ذلك في اليد اليمنى واليسرى ، وقال : تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية ؛ لعموم قوله تعالى : " والسن بالسن " . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا : العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها ، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى{[5636]} مع الرضا ، وذلك يبين لنا أن المراد بقوله : " والعين بالعين " استيفاء ما يماثله من الجاني ، فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها ، وهذا لا ريب فيه .
الخامسة : وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية ، وفي العين الواحدة نصف الدية . وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة . روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال عبدالملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق . وقيل : نصف الدية . روي ذلك{[5637]} عن عبدالله بن المغفل ومسروق والنخعي ، وبه قال الثوري والشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : وبه نقول ؛ لأن في الحديث ( في العينين الدية ) ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية . قال ابن العربي : وهو القياس الظاهر ، ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته .
السادسة : واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح ، فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه ، وعليه الدية كاملة ، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل . وقال مالك : إن شاء اقتص فتركه أعمى ، وإن شاء أخذ الدية كاملة ( دية عين الأعور ){[5638]} . وقال النخعي : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية . وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : عليه القصاص . وروي ذلك عن علي أيضا ، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ؛ لأن الله تعالى قال : " والعين بالعين " وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ؛ ففي العين نصف الدية ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس . ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر بضمه وذلك ليس بمساواة ، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك ، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه . قال ابن العربي : والأخذ بعموم القرآن أولى ، فإنه أسلم عند الله تعالى .
السابعة : واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها ، فروي عن زيد بن ثابت أنه قال : فيها مائة دينار . وعن عمر بن الخطاب أنه قال : فيها ثلث ديتها ، وبه قال إسحاق . وقال مجاهد : فيها نصف ديتها . وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان : فيها حكومة ، قال ابن المنذر : وبه نقول لأنه الأقل مما قيل .
الثامنة : وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية ، ويستوي فيه الأعمش{[5639]} والأخفش{[5640]} . وفي إبطال من إحداهما مع بقائها النصف . قال ابن المنذر : وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب : أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ، ثم أمر بخط عند ذلك ، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة ، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك ، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء ، فأعطي ما نقص من بصره مال الآخر ، وهذا على مذهب الشافعي ، وهو قول علمائنا .
التاسعة : ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر ، إذ غير ممكن الوصول إليه . وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة ، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها . روي عن علي رضي الله عنه ؛ ذكره المهدوي وابن العربي . واختلف في جفن العين ، فقال زيد بن ثابت : فيه ربع الدية ، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي ، هاشم{[5641]} والثوري والشافعي وأصحاب الرأي . وروي عن الشعبي أنه قال : في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية ، وبه قال مالك .
العاشرة : قوله تعالى : " والأنف بالأنف " جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وفي الأنف إذا أوعب{[5642]} جدعا الدية ) . قال ابن المنذر : وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به ، والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعاق . واختلفوا في كسر الأنف . فكان مالك يرى في العمد منه القود ، وفي الخطأ الاجتهاد . وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله . قال أبو إسحاق التونسي : وهذا شاذ ، والمعروف الأول . وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحساب من المارن . قال ابن المنذر : وما قطع من الأنف فبحسابه ، روي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي . قال أبو عمر : واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف ، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة ، ثم إن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة . قال مالك : الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن ، وهو دون العظم . قال ابن القاسم : وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية ، كالحشفة فيها الدية : وفي استئصال الذكر الدية .
الحادية عشرة : قال ابن القاسم : وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم{[5643]} ففيه الاجتهاد ، وليس فيه دية معلومة . وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه . قال : وليس الأنف إذا خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة{[5644]} تبرأ على غير ثم فيكون فيها ديتها ؛ لأن تلك جاءت بها السنة ، وليس في خرم الأنف أثر . قال : والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة . واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه ، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف ، والمارن ما لان من الأنف ، وكذلك قال الخليل وغيره . قال أبو عمر : وأظن روثته مارنه ، وأرنبته طرفه . وقد قيل : الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف . والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم ، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة .
الثانية عشرة : قوله تعالى : " والأذن بالأذن " قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل : عليه حكومة ، وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر . وفي إبطاله من إحداهما نص الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها ، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة ، على ما تقدم . وقال أشهب : إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر ، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة ، يقاس ذلك ، فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك . قال أشهب : ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجل مثله ، فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء . وقال عيسى بن دينار : إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : " والسن بالسن " قال ابن المنذر : وثبت عن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال : ( كتاب الله القصاص ) . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في السن خمس من الإبل ) . قال ابن المنذر : فبظاهر هذا الحديث نقول : لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات{[5645]} ؛ لدخولها كلها في ظاهر الحديث ، وبه يقول الأكثر من أهل العلم . وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية . وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض ، وذلك خمسون دينارا ، قيمة كل فريضة عشرة دنانير . وفي الأضراس ببعير بعير . وكان عطاء يقول : في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء ، والأضراس سواء ، قال أبو عمر : أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا ، والأسنان اثنا عشر سنا : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب ؛ فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا ، في الأسنان خمسة خمسة ، وفي الأضراس بعير بعير . وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة ؛ تصير الدية ستين ومائة بعير . وعلى قول سعيد بن المسيب ، بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا . يجب لها أربعون . وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون ، وهي تتمة لمائة بعير ، وهي الدية كاملة من الإبل . والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان . قال أبو عمر : واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا ، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري ، بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وفي السن خمس من الإبل ) والضرس سن من الأسنان . روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء ) وهذا نص أخرجه أبو داود . وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء . قال أبو عمر : على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء ، وأن الأسنان في الدية كلها سواء ، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء ، على ما في كتاب عمرو بن حزم . ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال : اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح : الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما . قال أبو عمر : على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار . والله أعلم .
الرابعة عشرة : فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد ، وبه قال أبو حنيفة ، وروي عن زيد بن ثابت ، وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها ، وبه قال أحمد وإسحاق . وقال الشافعي وأبو ثور : فيها حكومة . قال ابن العربي : وهذا عندي خلاف يؤول إلى وفاق ، فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها ، وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية ، ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعه لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة ، وما روي عن عمر رضي الله عنه{[5646]} فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها .
الخامسة عشرة : واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر{[5647]} ؛ فكان مالك والشافعي وأصحاب الرأي يقولون : إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع ، إلا أن مالكا والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها . وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ؛ وبه قال النعمان . قال ابن المنذر : يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت ، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما ، على ظاهر الحديث ، وإن نبتت رد الأرش . وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون : يستأنى بها سنة ، روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبدالعزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي . ولم يجعل الشافعي لهذا{[5648]} مدة معلومة .
السادسة عشرة : إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت ، فقال مالك لا يرد ما أخذ . وقال الكوفيون : يرد إذا نبتت . وللشافعي قولان : يرد ولا يرد ؛ لأن هذا نبات لم تجر به عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر ؛ هذا قول علمائنا .
تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد ، أصله سن الصغير . قال الشافعي : ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما . قال ابن المنذر : هذا أصح القولين ؛ لأن كل واحد منهما قالع سن ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن{[5649]} خمسا من الإبل .
السابعة عشرة : فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا . وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ، وقاله ابن المسيب وعطاء . ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة ، وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله . وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها . قال ابن العربي : وهذا غلط ، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها ؛ لأن النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها .
قلت : ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه . قال ابن المنذر : واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت ، فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح : لا بأس بذلك . وقال الثوري وأحمد وإسحاق : تقلع ؛ لأن القصاص للشين . وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ، ويجبره السلطان على القلع .
الثامنة عشرة : فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة ، وبه قال فقهاء الأمصار . وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية . قال ابن العربي : وليس في التقدير دليل ، فالحكومة أعدل . قال ابن المنذر : ولا يصح ما روي عن زيد ، وقد روي عن علي أنه قال : في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه ؛ وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما .
قلت : وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء ، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي :
التاسعة عشرة : قال الجمهور : وفي الشفتين الدية ، وفي كل واحدة منهما نص الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى . وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري : في الشفة العليا ثلث الدية ، وفي الشفة السفلى ثلثا الدية . وقال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ؛ للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وفي الشفتين الدية ) ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة . وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك . وأما اللسان فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في اللسان الدية ) . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به . قاله ابن المنذر .
الموفية عشرين : واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا ، ويذهب من الكلام بعضه ، فقال أكثر أهل العلم : ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه ، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية . هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي . وقال مالك : ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود . فإن أمكن فالقود هو الأصل .
الحادية والعشرون : واختلفوا في لسان الأخرس يقطع . فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه : فيه حكومة . قال ابن المنذر : وفيه قولان شاذان : أحدهما : قول النخعي أن فيه الدية . والآخر : قول قتادة أن فيه ثلث الدية . قال ابن المنذر : والقول الأول أصح ؛ لأنه الأقل مما قيل . قال ابن العربي : نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ، فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كل عضو بطلت{[5650]} منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .
الثانية والعشرون : قوله تعالى : " والجروح قصاص " أي مقاصة ، وقد تقدم في " البقرة " {[5651]} . ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص . ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه . وهذا كله في العمد ، فأما الخطأ فالدية ، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح . وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( القصاص القصاص ) ، فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله ) قالت : لا{[5652]} والله لا يقتص منها أبدا ؛ قال{[5653]} فما زالت حتى قبلوا الدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . قلت : المجروح في هذا الحديث جارية ، والجرح كسر ثنيتها . أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ، فقال أخوها أنس بن النضر : أتكسر ثنية فلانة ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . قال : وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش ، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) . وخرجه أبو داود أيضا ، وقال : سمعت أحمد بن حنبل قيل له : كيف يقتص من السن ؟ قال : تبرد . قلت : ولا تعارض بين الحديثين ، فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما . وفى هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر{[5654]} إن الله تعالى . فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة{[5655]} .
الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على أن قوله تعالى : " والسن بالسن " أنه في العمد ، فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس . واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا . فقال مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة ، ففي ذلك الدية . وقال الكوفيون : لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن ؛ لقوله تعالى : " والسن بالسن " وهو قول الليث والشافعي . قال الشافعي : لا يكون كسر ككسر أبدا ، فهو ممنوع . قال الطحاوي : اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس ، فكذلك في سائر العظام . والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم ، فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه ؛ لخوف ذهاب النفس منه . قال ابن المنذر : ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث ، والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر .
قلت : ويدل على هذا أيضا قوله تعالى : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم{[5656]} " [ البقرة : 194 ] ، وقوله : " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به{[5657]} " [ النحل : 126 ] وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآي . والله أعلم{[5658]} وبالله التوفيق .
الرابعة والعشرون : قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، وما جاء عن غيره في الشجاج . قال الأصمعي وغيره : دخل كلام بعضهم في بعض ، أول الشجاج - الخاصة وهي : التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه قليلا - ومنه قيل : حرص القصار الثوب إذا شقه ، وقد يقال لها : الحرصة أيضا . ثم الباضعة - وهي : التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد . ثم المتلاحمة - وهي : التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق . والسمحاق : جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم . وقال الواقدي : هي عندنا الملطى . وقال غيره : هي الملطاة ، قال : وهي التي جاء فيها الحديث ( يقضى في الملطاة بدمها ) . ثم الموضحة - وهي : التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح{[5659]} العظم ، فتلك الموضحة . قال أبو عبيد : وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الوضحة خاصة ؛ لأنه ليس منها شيء له حد ينتهي إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها . ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم . ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء . ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس ، يعني الدماغ . قال أبو عبيد ويقال في قوله : ( ويقضى في الملطاة بدمها ) أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها . قال : وسائر الشجاج عندنا{[5660]} يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ . قال أبو عبيد : والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها ، حدثنا هشيم عن حصين قال : قال عمر بن عبدالعزيز : ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح . وقال الحسن البصري : ليس فيما دون الموضحة قصاص . وقال مالك : القصاص فيما دون الموضحة الملطى والدامية والباضعة وما أشبه ذلك ، وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق ، حكاه ابن المنذر . وقال أبو عبيد : الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم . والدامعة : أن يسيل منها دم . وليس فيها دون الموضحة قصاص . وقال الجوهري : والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل . وقال علماؤنا : الدامية هي التي تسيل الدم . ولا قصاص فيما بعد الموضحة ، من الهاشمة للعظم ، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس ، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ . وفي هاشمة الجسد القصاص ، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه . وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم : لا قود فيها ؛ لأنها لا بد تعود منقلة . وقال أشهب : فيها القصاص ، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها . وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها . وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين ؛ لأنها تقبل التقدير . وفي اللسان روايتان . والقصاص في كسر العظام ، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه . وفي كسر عظام العضد القصاص . وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه ، وفعل ذلك عبدالعزيز بن عبدالله بن خالد بن أسيد بمكة . وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه فعله ، وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا ، وقال : إنه الأمر المجمع عليه عندهم{[5661]} ، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فكسرها يقاد منه .
الخامسة والعشرون : قال العلماء : الشجاج في الرأس ، والجراح في البدن . وأجمع أهل العلم على أن فيما دون الموضحة أرش فيا ذكر ابن المنذر ، واختلفوا في ذلك الأرش وما دون الموضحة شجاج خمس : الدامية والدامعة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق ، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق{[5662]} وأصحاب الرأي في الدامية حكومة ، وفي الباضعة حكومة ، وفي المتلاحمة حكومة . وذكر عبدالرزاق عن زيد بن ثابت قال : في الدامية بعير ، وفي الباضعة بعيران ، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة من الإبل ، وفي السمحاق أربع ، وفي الموضحة خمس ، وفي الهاشمة عشر ، وفي المنقلة خمس عشرة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الرجل يضرب حتى يذهب عقله الدية كاملة ، أو يضرب حتى يغن{[5663]} ولا يفهم الدية كاملة ، أو حتى يبح ولا يفهم الدية كاملة ، وفي جفن العين ربع الدية . وفي حلمة الثدي ربع{[5664]} الدية . قال ابن المنذر : وروي عن علي في السمحاق مثل قول زيد . وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا : فيها نصف الموضحة . وقال الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز والنخعي فيها حكومة ، وكذلك قال مالك والشافعي وأحمد . ولا يختلف العلماء أن الموضحة فيها خمس من الإبل ؛ على ما في حديث عمرو بن حزم ، وفيه : وفي الموضحة خمس .
وأجمع أهل العلم على أن الموضحة تكون في الرأس والوجه . واختلفوا في تفضيل موضحة الوجه على موضحة الرأس ، فروي عن أبي بكر وعمر أنهما سواء . وقال بقولهما جماعة من التابعين ، وبه يقول الشافعي وإسحاق . وروي عن سعيد بن المسيب تضعيف موضحة الوجه على موضحة الرأس . وقال أحمد : موضحة الوجه أحرى أن يزاد فيها . وقال مالك : المأمومة والمنقلة والموضحة لا تكون إلا في الرأس والوجه ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس خاصة إذا وصل إلى الدماغ ، قال : والموضحة ما تكون في جمجمة الرأس ، وما دونها فهو من العنق ليس فيه موضحة . قال مالك : والأنف ليس من الرأس وليس فيه موضحة ، وكذلك اللحي الأسفل ليس فيه موضحة . وقد اختلفوا في الموضحة في غير الرأس وليس فيه والوجه ، فقال أشهب وابن القاسم : ليس في موضحة الجسد ومنقلته ومأمومته إلا الاجتهاد ، وليس فيها أرش معلوم . قال ابن المنذر : هذا قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ، وبه نقول . وروي عن عطاء الخراساني أن الموضحة إذا كانت في جسد الإنسان فيها خمس وعشرون دينارا . قال أبو عمر : واتفق مالك والشافعي وأصحابهما أن من شج رجلا مأمومتين أو موضحتين أو ثلاث مأمومات أو موضحات أو أكثر في ضربة واحدة أن فيهن كلهن - وإن انخرقت فصارت واحدة - دية كاملة . وأما الهاشمة فلا دية فيها عندنا بل حكومة . قال ابن المنذر : ولم أجد في كتب المدنيين ذكر الهاشمة ، بل قد قال مالك فيمن كسر أنف رجل إن كان خطأ ففيه الاجتهاد . وكان الحسن البصري لا يوقت في الهاشمة شيئا . وقال أبو ثور : إن اختلفوا فيه ففيها حكومة . قال ابن المنذر : النظر يدل على هذا ؛ إذ لا سنة فيها ولا إجماع . وقال القاضي أبو الوليد الباجي : فيها ما في الموضحة ؛ فإن صارت منقلة فخمسة عشر ، وإن صارت مأمومة فثلث الدية . قال ابن المنذر : ووجدنا أكثر من لقيناه وبلغنا عنه من أهل العلم يجعلون في الهاشمة عشرا من الإبل . وروينا هذا القول عن زيد بن ثابت ، وبه قال قتادة وعبيدالله بن الحسن والشافعي . وقال الثوري وأصحاب الرأي : فيها ألف درهم ، ومرادهم عشر الدية . وأما المنقلة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في المنقلة خمس عشرة من الإبل ) وأجمع أهل العلم على القول به . قال ابن المنذر : وقال كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المنقلة هي التي تنقل منها العظام . وقال مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي - وهو قول قتادة وابن شبرمة - أن المنقلة لا قود فيها ، وروينا عن ابن الزبير - وليس بثابت عنه - أنه أقاد من المنقلة . قال ابن المنذر : والأول أولى ؛ لأني لا أعلم أحدا خالف في ذلك وأما المأمومة فقال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( في المأمومة ثلث الدية ) . وأجمع عوام{[5665]} أهل العلم على القول به ، ولا نعلم أحدا خالف ذلك إلا مكحولا فإنه قال : إذا كانت المأمومة عمدا ، ففيها ثلثا الدية ، وإذا كانت خطأ ففي ثلث الدية ، وهذا قول شاذ ، وبالقول الأول أقول . واختلفوا في القود من المأمومة ، فقال كثير من أهل العلم : لا قود فيها ، وروي عن ابن الزبير أنه أقص من المأمومة ، فأنكر ذلك الناس . وقال عطاء : ما علمنا أحدا أقاد منا قبل ابن الزبير . وأما الجائفة ففيها ثلث الدية على حديث عمرو بن حزم ، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مكحول أنه قال : إذا كانت عمدا ففي ثلثا الدية ، وإن كانت خطأ ففيها ثلث الدبة . والجائفة كل ما خرق إلى الجوف ولو مدخل إبرة ، فإن نفذت من جهتين عندهم جائفتان ، وفيها من الدية الثلثان . قال أشهب : وقد قضى أبو بكر الصديق رضي الله عنه في جائفة نافذة من الجنب الآخر بدية جائفتين . وقال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي كلهم يقولون : لا قصاص في الجائفة . قال ابن المنذر : وبه نقول .
السادسة والعشرون : واختلفوا في القود من اللطمة وشبهها ، فذكر البخاري عن أبي بكر وعلي وابن الزبير وسويد بن مقرن رضي الله عنهم{[5666]} أنهم أقادوا من اللطمة وشبهها . وروي عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك ، وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث . وقال الليث : إن كانت اللطمة في العين فلا قود{[5667]} فيها ؛ للخوف{[5668]} على العين ويعاقبه السلطان . وإن كانت على الخد ففيها القود . وقالت طائفة : لا قصاص في اللطمة ، روي هذا عن الحسن وقتادة ، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي ، واحتج مالك في ذلك فقال : ليس لطمة المريض الضعيف مثل لطمة القوي ، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل ذي الحالة والهيئة ، وإنما في ذلك كله الاجتهاد لجهلنا بمقدار اللطمة .
السابعة والعشرون : واختلفوا في القود من ضرب السوط ، فقال الليث والحسن{[5669]} : يقاد منه ، ويزاد عليه للتعدي{[5670]} . وقال ابن القاسم : يقاد منه . ولا يقاد منه عند الكوفيين والشافعي إلا أن يجرح ، قال الشافعي إن جرح السوط ففيه حكومة . وقال ابن المنذر : وما أصيب{[5671]} به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد ، وفيه القود . وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث . وفي البخاري وأقاد عمر من ضربة بالدرة{[5672]} ، وأقاد علي بن أبي طالب من ثلاثة أسواط . واقتص شريح من سوط وخموش . وقال ابن بطال : وحديث لد{[5673]} النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم وإن لم يكن جرح .
الثامنة والعشرون : واختلفوا في عقل جراحات النساء ؛ ففي " الموطأ " عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث دية الرجل{[5674]} ، إصبعها كإصبعه وسنها كسنه ، وموضحتها كموضحته ، ومنقلتها كمنقلته . قال ابن بكير ، قال مالك : فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت على النصف من دية الرجل . قال ابن المنذر : روينا هذا القول عن عمر وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وعروة بن الزبير والزهري{[5675]} وقتادة وابن هرمز ومالك وأحمد بن حنبل وعبدالملك بن الماجشون . وقالت طائفة : دية المرأة على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر ، روينا هذا القول عن علي بن أبي طالب ، وبه قال الثوري والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه ، واحتجوا بأنهم لما أجمعوا على الكثير وهو الدية كان القليل مثله ، وبه نقول .
التاسعة والعشرون : قال القاضي عبدالوهاب : وكل ما فيه جمال منفرد عن منفعة أصلا ففيه حكومة ، كالحاجبين وذهاب شعر اللحية وشعر الرأس وثديي الرجل وأليته{[5676]} . وصفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدا سليما ، ثم يقوم مع الجناية ، فما نقص من ثمنه جعل جزءا من ديته بالغا ما بلغ ، وحكاه ابن المنذر عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم ، قال : ويقبل فيه قول رجلين ثقتين من أهل المعرفة . وقيل : بل يقبل قول عدل واحد . والله سبحانه أعلم . فهذه جمل من أحكام الجراحات والأعضاء تضمنها معنى هذه الآية ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية بمنه وكرمه{[5677]} .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : " فمن تصدق به فهو كفارة له " شرط وجوابه ، أي تصدق بالقصاص فعفا فهو كفارة له ، أي لذلك المتصدق . وقيل : هو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة ؛ لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وأجر المتصدق عليه . وقد ذكر ابن عباس القولين ، وعلى الأول أكثر الصحابة ومن بعدهم ، وروي الثاني عن ابن عباس ومجاهد ، وعن إبراهيم النخعي والشعبي بخلاف عنهما ، والأول أظهر لأن العائد فيه يرجع إلى مذكور ، وهو " من " . وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة ) . قال ابن العربي : والذي يقول إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ، فلا معنى له .