قوله تعالى : { أمن خلق السموات والأرض } معناه آلهتكم خير أم الذي خلق السموات والأرض ، { وأنزل لكم من السماء ماءً } يعني المطر ، { فأنبتنا به حدائق } بساتين جمع حديقة ، قال الفراء : الحديقة البستان المحاط عليه ، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة ، { ذات بهجة } أي : منظر حسن ، والبهجة : الحسن يبتهج به من يراه ، { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } أي : ما ينبغي لكم ، لأنكم لا تقدرون عليها . { أإله مع الله } استفهام على طريق الإنكار ، أي : هل معه معبود سواه يعينه على صنعه بل ليس معه إله . { بل هم قوم } يعني كفار مكة ، { يعدلون } يشركون .
ثم ساق - سبحانه - خمس آيات ، وكل آية فيها ما يدل على كمال قدرته وعلمه ، وختم كل آية بقوله : { أإله مَّعَ الله } ؟ فقال - تعالى - { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض . . } و ( أم ) هنا منقطعة بمعنى بل الإضرابية والاستفهام للإنكار والتوبيخ .
أى : بل قالوا لنا - إن كنتم تعقلون أيها الضالون - من الذى خلق السموات والأرض ، وأوجدهما على هذا النحو البديع ، والتركيب المحكم .
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً } وهو المطر ، الذى لا غنى لكم عنه فى شئون حياتكم .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ } والحدائق : جمع حديقة ، وهى فى الأصل اسم البستان المحاط بالأسوار ، من أحدث بالشىء إذا أحاط به ، ثم توسع فيها فصارت تطلق على كل بستان سواء أكان مسورا بسور أم لا .
أى : وأنزل - سبحانه - بقدرته من السماء ماء مباركا ، فأنبتنا لكم بسبب هذا الماء حدائق وبساتين وجنات ذات منظر حسن ، يشرح الصدور ، ويدخل السرور على النفوس .
وقال - سبحانه - : { فَأَنبَتْنَا . . } بصيغة الالتفات من الغيبة إلى التكلم . لتأكيد أن القادر على هذا الإنبات هو الله - تعالى - وحده ، وللإيذان بأن إنبات هذه الحدائق مع اختلاف ألوانها ، وأشجارها ، وطعومها . لا يقدر عليه إلا هو - سبحانه - .
ولذا أتبع - عز وجل - هذه الجملة بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أى : ما كان فى إمكانكم - أيها الناس - بحال من الأحوال ، أن تنبتوا أشجار هذه الحدائق ، فضلا عن إيجاد ثمارها ، وإخراجها من العدم إلى الوجود .
قال الإمام الرازى : يقال : ما حكمة الالتفات فى قوله : { فَأَنبَتْنَا . . } والجواب : أنه لا شبهة فى أن خالق السموات والأرض ، ومنزل الماء من السماء ، ليس إلا الله - تعالى - .
ولكن ربما عرضت الشبهة فى أن منبت الشجرة هو الإنسان ، فإن الإنسان قد يقول : أنا الذى ألقى البذر فى الأرض ، وأسقيها الماء . . . وفاعل السبب ، فاعل للمسبب ، فأنا المنبت للشجرة .
فلما كان هذا الاحتمال قائما . لا جرم أزال - سبحانه - هذا الاحتمال . لأن الإنسان قد يأتى بالبذر والسقى . . . ولا يأتى الزرع على وفق مراده . . . فلهذه النكتة جاء الالتفات . . .
وقوله - تعالى - : { أإله مَّعَ الله } أى : أإله آخر كائن مع الله - تعالى - هو الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء . . . كلا . لا شريك مع الله - تعالى - فى خلقه وقدرته ، وإيجاده لهذه الكائنات { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } .
أى : بل إن هؤلاء المشركين قوم يعدلون عمدا عن الحق الواضح وهو التوحيد ، إلى الباطل البين وهو الشرك .
فقوله : { يَعْدِلُونَ } مأخوذ من العدول بمعنى الانحراف عن الحق إلى الباطل . أو من العدل والمساواة ، فيكون المعنى : بل هم قوم - لجهلهم - يساوون بالله - تعالى - غيره من آلهتهم .
والجملة الكريمة : انتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب ، إلى توبيخهم ، وتجهيلهم ، وبيان سوء تفكيرهم ، وانطماس بصائرهم .
ومن ثم يعدل عنه إلى سؤال آخر ، مستمد من واقع هذا الكون حولهم ، ومن مشاهده التي يرونها بأعينهم :
( أم من خلق السماوات والأرض ، وأنزل لكم من السماء ماء ، فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? أإله مع الله ? بل هم قوم يعدلون ) . .
والسماوات والأرض حقيقة قائمة لا يملك أحد إنكار وجودها ، ولا يملك كذلك أن يدعي أن هذه الآلهة المدعاة خلقتها . . وهي أصنام أو أوثان ، أو ملائكة وشياطين ، أو شمس أو قمر . . فالبداهة تصرخ في وجه هذا الادعاء . ولم يكن أحد من المشركين يزعم أن هذا الكون قائم بنفسه ، مخلوق بذاته ، كما وجد من يدعي مثل هذا الادعاء المتهافت في القرون الأخيرة ! فكان مجرد التذكير بوجود السماوات والأرض ، والتوجيه إلى التفكير فيمن خلقها ، كفيلا بإلزام الحجة ، ودحض الشرك ، وإفحام المشركين . وما يزال هذا السؤال قائما فإن خلق السماوات والأرض على هذا النحو الذي يبدو فيه القصد ، ويتضح فيه التدبير ، ويظهر فيه التناسق المطلق الذي لا يمكن أن يكون فلتة ولا مصادفة ، ملجئ بذاته إلى الإقرار بوجود الخالق الواحد ، الذي تتضح وحدانيته بآثاره . ناطق بأن هناك تصميما واحدا متناسقا لهذا الكون لا تعدد في طبيعته ولا تعدد في اتجاهه . فلا بد أنه صادر عن إرادة واحدة غير متعددة . إرادة قاصدة لا يفوتها القصد في الكبير ولا في الصغير .
( أم من خلق السماوات والأرض ) . . ( وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ? ) . .
والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل إنكارها ويتعذر تعليلها بغير الإقرار بخالق مدبر ، فطر السماوات والأرض وفق هذا الناموس الذي يسمح بنزول المطر ، بهذا القدر ، الذي توجد به الحياة ، على النحو الذي وجدت به ، فما يمكن أن يقع هذا كله مصادفة ، وأن تتوافق المصادفات بهذا الترتيب الدقيق ، وبهذا التقدير المضبوط . المنظور فيه إلى حاجة الأحياء وبخاصة الإنسان . هذا التخصيص الذي يعبر عنه القرآن الكريم بقوله : ( وأنزل لكم . . . )والقرآن يوجه القلوب والأبصار إلى الآثار المحيية لهذا الماء المنزل للناس وفق حاجة حياتهم ، منظورا فيه إلى وجودهم وحاجاتهم وضروراتهم . يوجه القلوب والأبصار إلى تلك الآثار الحية القائمة حيالهم وهم عنها غافلون :
( فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ) . .
حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة . . ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية . وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب . وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب . وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر . وان تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث . فضلا على معجزة الحياة النامية في الشجر - وهي السر الأكبر الذي يعجز عن فهمه البشر - : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها )وسر الحياة كان وما يزال مستغلقا على الناس . سواء أكان في النبات أم في الحيوان أم في الأنسان . فما يملك أحد حتى اللحظة أن يقول : كيف جاءت هذه الحياة ، ولا كيف تلبست بتلك الخلائق من نبات أو حيوان أو إنسان . ولا بد من الرجوع فيها إلى مصدر وراء هذا الكون المنظور .
وعندما يصل في هذه الوقفة أمام الحياة النامية في الحدائق البهيجة إلى إثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير ، يهجم عليهم بسؤال :
ولا مجال لمثل هذا الادعاء ؛ ولا مفر من الإقرار والإذعان . . وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا ، وهم يسوون آلهتهم المدعاة بالله ، فيعبدونها عبادة الله : ( بل هم قوم يعدلون ) . .
ويعدلون . إما أن يكون معناها يسوون . أي يسوون آلهتهم بالله في العبادة . وإما أن يكون معناها : يحيدون . أي يحيدون عن الحق الواضح المبين . بإشراك أحد مع الله في العبادة ؛ وهو وحده الخالق الذي لم يشاركه أحد في الخلق . وكلا الأمرين تصرف عجيب لا يليق !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.