معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

قوله عز وجل : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } ، القرآن ، والإسلام ، والبيان من الله عز وجل ، وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم { ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين } ، يعني : سنتنا في إهلاكهم إن لم يؤمنوا . وقيل : إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين من معاينة العذاب ، كما قالوا : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) [ الأنفال – 32 ] . { أو يأتيهم العذاب قبلاً } ، قال ابن عباس : أي : عياناً من المقابلة . وقال مجاهد : فجأة ، وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : { قبلاً } بضم القاف والياء ، جمع قبيل أي : أصناف العذاب نوعاً نوعاً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

ثم حكى - سبحانه - الأسباب التى منعت بعض الناس من الإِيمان فقال : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } .

والمراد بالناس : كفار مكة ومن حذا حذوهم فى الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين : ما أنزله - سبحانه - بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود .

والمعنى : وما منع الكفار من الإِيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم ، إلا ما سبق فى علمنا ، من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين ، أى : سنتنا فى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم .

ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف ، و " أن " وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } فى تأويل فاعل الفعل { منع } .

والمعنى : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجئ الهدى إليهم ، إلا طلب إتيان سنة الأولين ، كأن يقولوا - كما حكى الله - تعالى - عن بعضهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .

وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } بيان لعذاب آخر ينتظرونه .

وكلمة { قُبُلا } قرأها عاصم والكسائى وحمزة - بضم القاف والباء - على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى : أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة ، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا .

وقرأها الباقون : { قِبَلا } - بكسر القاف وفتح الباء - بمعنى عيانا ومواجهة .

والمعنى : أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا ، وأصله من المقابلة ، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر .

وهى على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب .

فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوى بهم وهو ما اقتضته سنة الله - تعالى - فى أمثالهم ، أو حين نزول أصناف العذاب بهم فى الآخرة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنّةُ الأوّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } .

يقول عزّ ذكره : وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله ، وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته ، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم ، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم ، أو إتيانهم العذاب قُبُلا .

واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أو يأتيهم العذاب فجأة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال فجأة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : معناه : أو يأتيهم العذاب عيانا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً قال : قبلاً معاينة ذلك القبل .

وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة ذات عدد أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قُبُلاً بضمّ القاف والباء ، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب ، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل ، كما يُجمع القتيل القُتُل ، والجديد الجُدُد . وقرأ جماعة أخرى : «أوْ يَأْتِيَهُمْ العَذَابُ قِبَلاً » بكسر القاف وفتح الباء ، بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم : كلمته قِبَلاً . وقد بيّنت

القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا} (55)

عطف على جملة { ولقد صرفنا في هذا القرآن } [ الكهف : 54 ] الخ . ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } [ الكهف : 54 ] معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته ، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس . ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله : وما منع الناس } وبقوله : { إذ جاءهم الهدى } دون أن يقول : وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها ، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها .

على أن عموم { الناس } هنا أشمل من عموم لفظ { الناس } في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } [ الكهف : 54 ] فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية ، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله .

وكذلك عموم لفظ { الهدى } يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها ، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم .

فالمعنى : ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه ، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير .

والمرد ب { الأولين } السابقون من الأمم في الضلال والعناد . ويجوز أن يراد بهم الآباء ، أي سنة آبائهم ، أي طريقتهم ودينهم ، ولكل أمة أمةٌ سبقتها .

و { أن تأتيهم } استثناء مفرغ هو فاعل { وما منع } . « ولن يؤمنوا » منصوب على نزع الخافض ، أي من أن يؤمنوا .

ومعنى { تأتيهم سنة الأولين } تحل فيهم وتعتريهم ، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم . والمعنى : أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم ، كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ الذاريات : 53 ] .

وسنة الأولين : طريقتهم في الكفر . وإضافة ( سنة ) إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله ، أي السنة التي سَنّها الأولون . وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة .

والمعنى : ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم .

وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته .

و ( أو ) هي التي بمعنى ( إلى ) ، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب } ( بأن ) مضمرة بعد ( أو ) . و ( أو ) متصلة المعنى بفعل { منع } ، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين .

هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها .

فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل } [ الكهف : 54 ] ، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله . وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن ، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين ، أي الأمم المكذبين الماضين ، أي فإضافة { سنة } إلى { الأولين } مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله ، وهي عادة الله فيهم ، أي يعذبهم عذاب الاستيصال .

وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين ، بتقدير مضاف ، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين ، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين ، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال ، أي على معنى قوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا } [ يونس : 102 ] .

وجعلوا قوله : { أو يأتيهم العذاب قبلاً } قسيماً لقوله : { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } ، فحرف ( أو ) للتقسيم ، وفعل { يأتيهم } منصوب بالعطف على فعل { أن تأتيهم سنة الأولين } بالاستيصال المفاجىء أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم . وجعلوا { قِبلاً } حالاً من { العذاب } ، أي مقابلاً . قال الكلبي : وهو عذاب السيف يوم بدر . ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه ، أي عذاب الجلاد بالسيوف . ومعناه : أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين ، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة . وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل ، وتُقصر على معنى التهديد .

والإتيان : مجاز في الحصول في المستقبل ، لوجود ( أن ) المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال ، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها .

والسنة : العادة المألوفة في حال من الأحوال .

وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي . والمراد : ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب . وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال ، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال . وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين .

وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر . وهو في معنى قوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ، 97 ] .

و{ قِبَلاً } حال من العذاب . وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { قبلاً } بضمتين وهو جمع قبيل ، أي يأتيهم العذاب أنواعاً .