قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه } أي : مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { على أمر جامع } يجمعهم من حرب حضرت ، أو صلاة أو جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل { لم يذهبوا } لم يتفرقوا عنه ، لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، { حتى يستأذنوه } قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد ، لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام يستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم . قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده . قال أهل العلم : وكذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وإذا استأذن فللإمام إن شاء أذن له وإن شاء لم يأذن ، وهذا إذا لم يكن له سبب يمنعه من المقام ، فإن حدث سبب يمنعه من المقام بأن يكون في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض ، فلا يحتاج إلى الاستئذان{ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } أي : أمرهم ، { فأذن لمن شئت منهم } في الانصراف ، معناه : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن . { واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم* }
وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من أحكام وآداب منها ما يتعلق بالحدود ، ومنها ما يتعلق بالاستئذان ، ومنها ما يتعلق بالتستر والاحتشام ، ومنها ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء . . . بعد كل ذلك اختتمت ببيان ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أدب مع رسولهم صلى الله عليهم وسلم فقال - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ . . . } .
روى ابن إسحاق فى سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه : أنه لما كان تجمع قريش وغطفان فى غزوة الأحزاب ، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودابوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من النمافقين ، وجعلوا يُوَرُّون - أى يستترون - بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهمى بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن . وجعل الرجل من المسلمين إذا ناتبه النائبة من الحاجة التى لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن فى اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة فى الخير واحتسابا له . فأنزل الله هذه الآيات فى المؤمنين وفى المنافقين .
والمراد بالأمر الجامع فى قوله : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } : الأمر الهام الذى يستلزم اشتراك الجماعة فى شأنه ، كالجهاد فى سبيل الله ، وكالإعداد لعمل من الأعمال العامة التى تهم المسلمين جميعا .
والمعنى : إن من شأن المؤمنين الصادقين ، الذين آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر جامع من الأمور التى تقتضى اشتراكهم فيه ، لم يفارقوه ولم يذهبوا عنه ، حتى يستأذنوه فى المفارقة أو فى الذهاب ، لأن هذا الاستئذان دليل على قوة الإيمان ، وعلى حسن أدبهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قال الآلوسى : وقوله : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ . . . } معطوف على { آمَنُواْ } داخل معه فى حيز الصلة ، والحصر باعتبار الكمال . أى : إنما الكاملون فى الإيمان الذين آمنوا بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم من صميم قلوبهم ، وأطاعوا فى جميع الأحكام التى من جملتها ما فصل من قبل . وإذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر مهم يجب اجتماعهم فى شأنه كالجمعة والأعياد والحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع . . . لم يذهبوا عنه صلى الله عليه وسلم { حتى يَسْتَأْذِنُوهُ } فى الذهاب فيأذن لهم . . .
وخص - سبحانه - الأمر الجامع بالذكر ، للإشعار بأهميته ووجوب البقاء معه صلى الله عليه وسلم حتى يعطيهم الإذن بالانصراف ، إذ وجودهم معه يؤدى إلى مظاهرته صلى الله عليه وسلم ومعاونته فى الوصول إلى أفضل الحلول لهذا الأمر الهام .
ثم مدح - سبحانه - الذين لا يغادرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا معه على أمر جامع حتى يستأذنوه فقال : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } .
أى : إن الذين يستأذنونك فى تلك الأحوال الهامة ، والتى تستلزم وجودهم معك ، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حق الإيمان ، لأن هذا الاستئذان فى تلك الأوقات دليل على طهارة نفوسهم ، وصدق يقينهم ، وصفاء قلوبهم .
ثم بين - سبحانه - وظيفته - صلى الله عليه وسلم فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
أى : فإذا استأذنك هؤلاء المؤمنون فى الانصراف ، لقضاء بعض الأمور والشئون التى هم فى حاجة إليها ، فأنت مفوض ومخير فى إعطاء الإذن لبعضهم وفى منعه عن البعض الآخر ، إذ الأمر فى هذه المسألة متروك لتقديرك - أيها الرسول الكريم - .
وقوله - تعالى - { واستغفر لَهُمُ } فيه إشارة إلى أنه كان الأولى بهؤلاء المؤمنين ، أن يبقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينتهوا من حل هذا الأمر الجامع الذى اجتمعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله ، وحتى يأذن لهم صلى الله عليه وسلم فى الانصراف دون أن يطلبوا منه ذلك ، فإن الاستئذان قبل البت فى الأمر الهام الذى يتعلق بمصالح المسلمين جميعا ، غير مناسب للمؤمنين الصادقين ، ويجب أن يكون فى أضيق الحدود ، وأشد الظروف ، ومع كل ذلك ، فالله - تعالى - واسع المغفرة لعباده عظيم الرحمة بهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىَ أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّىَ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلََئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }
يقول تعالى ذكره : ما المؤمنون حقّ الإيمان ، إلا الذين صدّقوا الله ورسوله . وَإذَا كانُوا مَعَهُ يقول : وإذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عَلى أمِرٍ جامِعٍ يقول : على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت ، أو صلاة اجتمع لها ، أو تشاور في أمر نزل لَمْ يَذْهَبُوا يقول : لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر ، حَتّى يَسْتَأْذِنُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِين آمَنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حتى يَسْتأْذِنُوهُ يقول : إذا كان أمر طاعة لله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس ، قوله : وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ قال : أمر من طاعة الله عامّ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جُرَيج ، قال : سأل مكحولاً الشاميّ إنسانٌ وأنا أسمع ، ومكحول جالس مع عطاء ، عن قول الله في هذه الآية : وَإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حتّى يَسْتأذِنُوهُ فقال مكحول : في يوم الجمعة ، وفي زَحْف ، وفي كلّ أمر جامع ، قد أمر أن لا يذهب أحد في يوم جمعة حتى يستأذن الإمام ، وكذلك في كل جامع ، ألا ترى أنه يقول : وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ .
حدثني يعقوب ، قال : ثني ابن عُلَية ، قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : كان الرجل إذا كانت له حاجة والإمام يخطب ، قام فأمسك بأنفه ، فأشار إليه الإمام أن يخرُج . قال : فكان رجل قد أراد الرجوع إلى أهله ، فقام إلى هَرِم بن حِيان وهو يخطب ، فأخذ بأنفه ، فأشار إليه هرم أن يذهب . فخرج إلى أهله فأقام فيهم ، ثم قدم قال له هرم : أين كنت ؟ قال : في أهلي ؟ قال : أبإذن ذهبت ؟ قال : نعم ، قمت إليك وأنت تخطب ، فأخذت بأنفي ، فأشرت إليّ أن اذْهَب فذهبت . فقال : أفاتخذت هذا دَغَلاً ؟ أو كلمة نحوها . ثم قال : اللهمّ أخّر رجال السوء إلى زمان السوء .
حدثني الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، في قوله : وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ قال : هو الجمعة إذا كانوا معه ، لم يذهبوا حتى يستأذنوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حتى يَسْتَأذنُوهُ قال : الأمر الجامع حين يكونون معه في جماعة الحرب أو جمعة . قال : والجمعة من الأمر الجامع ، لا ينبغي لأحد أن يخرج إذا قعد الإمام على المنبر يوم الجمعة إلا بإذن سلطان إذا كان حيث يراه أو يقدر عليه ، ولا يخرج إلا بإذن . وإذا كان حيث لا يراه ولا يقدر عليه ولا يصل إليه ، فالله أولى بالعذر .
وقوله : إنّ الّذِينَ يَسْتأذنُوكَ أُولَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ يقول تعالى ذكره : إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع ، عنك إلا بإذنك لهم ، طاعة منهم لله ولك وتصديقا بما أتيتهم به من عندي أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقّا ، لا من خالف أمر الله وأمر رسوله فينصرف عنك بغير إذن منك له بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلاّ بإذنك . وقوله : فإذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبْعَضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره : فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لبعض شأنهم يعني لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأْذن لمن شِئت منهم في الانصراف عنك لقضائها . وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ يقول : وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم . إنّ اللّهَ غَفُورٌ لذنوب عباده التائبين ، رَحِيمٌ بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها . )
{ إنما } في هذه الآية للحصر اقتضى المعنى لأنه لا يتم إيمان إلا بأن يؤمن المرء { بالله ورسوله } وبأن يكون من الرسول سامعاً غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك ، و «الأمر الجامع » يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة ، فأدب الإسلام اللازم في ذلك إذا كان الأمر حاضراً أن لا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه ، فإذا ذهب بإذن ارتفع عنه الظن السيىء ، والإمام الذي يرتقب إذنه في هذه الآية هو إمام الإمرة ، وقال مكحول والزهري الجمعة من «الأمر الجامع » وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة ، إذا كان يرى المستأذن ، ومشى بعض الناس دهراً على استئذان إمام الصلاة وروي أن هرم بن حيان كان يخطب فقام رجل فوضع يده على أنفه وأشار إلى هرم بالاستئذان فأذن له فلما قضيت الصلاة كشف عن أمره أنه إنما ذهب لغير ضرورة .
فقال هرم اللهم أخر رجال السوء لزمان السوء .
قال الفقيه الإمام القاضي : وظاهر الآية إنما يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين ، فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة ، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يأذن لمن عرف منه صحة العذر وهم الذين يشاء ، وروي أن هذه الآية نزلت في وقت حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندق المدينة وذلك أن بعض المؤمنين كان يستأذن لضرورة ، وكان المنافقون يذهبون دون استئذان فأخرج الله تعالى الذين لا يستأذنون عن صنيفة المؤمنين وأمر النبي عليه السلام أن يأذن للمؤمن الذي لا تدعوه ضرورة إلى حبسه وهو الذي يشاء ثم أمره بالاستغفار لصنفي المؤمنين من أذن له ومن لم يؤذن له وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم .
عن مالك: أن هذه الآية، إنما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما المؤمنون حقّ الإيمان، إلا الذين صدّقوا الله ورسوله. "وَإذَا كانُوا مَعَهُ "يقول: وإذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، "عَلى أمِرٍ جامِعٍ" يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر نزل، "لَمْ يَذْهَبُوا" يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، "حَتّى يَسْتَأْذِنُوا" رسول الله صلى الله عليه وسلم...
قال ابن عباس، قوله: "وَإذَا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ" قال: أمر من طاعة الله عامّ...
وقوله: "إنّ الّذِينَ يَسْتأذنُوكَ أُولَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَرَسُولِهِ"، يقول تعالى ذكره: إن الذين لا ينصرفون يا محمد إذا كانوا معك في أمر جامع، عنك إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك وتصديقا بما أتيتهم به من عندي، أولئك الذين يصدقون الله ورسوله حقّا، لا من خالف أمر الله وأمر رسوله فينصرف عنك بغير إذن منك له بعد تقدّمك إليه أن لا ينصرف عنك إلاّ بإذنك.
وقوله: "فإذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبْعَضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ" يقول تعالى ذكره: فإذا استأذنك يا محمد الذين لا يذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن "لبعض شأنهم" يعني: لبعض حاجاتهم التي تعرض لهم، فأْذن لمن شِئت منهم في الانصراف عنك لقضائها، "وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ" يقول: وادع الله لهم بأن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم.
"إنّ اللّهَ غَفُورٌ" لذنوب عباده التائبين، "رَحِيمٌ" بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} يعني لمن أذن له من المؤمنين ليزول عنهم باستغفاره ملامة الانصراف.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أراد عزّ وجلّ أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله بغير إذنه {وإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله: {إِنَّ الذين يَسْتَأذنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} وضمنه شيئاً آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً.
{لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَئذِنُوهُ} لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم، ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له. والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهمّ، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه...
{وإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} أنه خطب جليل لا بدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه من ذوي رأي وقوّة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، ومع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ}. وذكر الاستغفار للمستأذنين: دليل على أنّ الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه.
وقيل: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إنما} في هذه الآية للحصر اقتضى المعنى لأنه لا يتم إيمان إلا بأن يؤمن المرء {بالله ورسوله} وبأن يكون من الرسول سامعاً غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع ونحو ذلك، و «الأمر الجامع» يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، فأدب الإسلام اللازم في ذلك إذا كان الأمر حاضراً أن لا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذن ارتفع عنه الظن السيئ...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذا أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف -لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام، وتلاه بما رأيت أن نظمه أحسن نظام، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل، وكرر في هذه السورة ذكر البيان، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان، وبين من حاز وصف الإيمان، بحسن الاستئذان، وكان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله، محظوراً سلوكها مِن جرّاه، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً للسلب {وما أولئك بالمؤمنين} [المائدة: 43] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم المقتضي للجمع من غير إذن: {إنما المؤمنون} أي الكاملون الذين لهم الفلاح {الذين آمنوا بالله} أي الملك الأعلى {ورسوله} ظاهراً وباطناً.
ولما كان الكلام في الراسخين، كان الموضع لأداة التحقيق فقال: {وإذا} أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا {كانوا معه} أي الرسول صلى الله عليه السلام {على أمر جامع} أي لهم على الله، كالجهاد لأعداء الله، والتشاور في مهم، وصلاة الجمعة، ونحو ذلك {لم يذهبوا} عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره {حتى يستأذنوه} فيأذن لهم، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم، لا حظ لهم فيه، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه، وهذا من عظيم التنبيه على عليّ أمره، وشريف قدره، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صلى الله عليه وسلم، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له.
ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان، فأفهم أن المستأذن مؤمن، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد، فقال تشديداً في الإخلال بالأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان: {إن الذين يستأذنونك} أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها {أولئك} العالو الرتبة خاصة {الذين يؤمنون} أي يوجدون الإيمان في كل وقت {بالله} الذي له الأمر كله فلا كفوء له {ورسوله} وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان.
ولما قصرهم على الاستئذان، تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك فقال: {فإذا استأذنوك} أي هؤلاء الذين صحت دعواهم؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صلى الله عليه وسلم بقوله: {لبعض شأنهم} وهو ما تشتد الحاجة إليه {فأذن لمن شئت منهم} قيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، وقيل: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل.
ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت، فقال: {واستغفر لهم الله} أي الذي له الغنى المطلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار، بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {غفور} أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه {رحيم} أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وينتقل من تنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء، إلى تنظيمها بين الأسرة الكبيرة.. أسرة المسلمين.. ورئيسها وقائدها محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وإلى آداب المسلمين في مجلس الرسول:
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله. وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه؛ إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله. فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله. إن الله غفور رحيم. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا. قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه؛ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا، والله بكل شيء عليم..
روى ابن اسحاق في سبب نزول هذه الآيات أنه لما كان تجمع قريش والأحزاب في غزوة الخندق. فلما سمع بهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فيه، فدأب ودأبوا، وأبطأ عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولا إذنه؛ وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له. فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير واحتسابا له. فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين: إنما المؤمنون... الآية ثم قال تعالى:يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، ويذهبون بغير إذن من النبي [صلى الله عليه وسلم]: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم... الآية..
وأيا ما كان سبب نزول هذه الآيات فهي تتضمن الآداب النفسية التنظيمية بين الجماعة وقائدها. هذه الآداب التي لا يستقيم أمر الجماعة إلا حين تنبع من مشاعرها وعواطفها وأعماق ضميرها. ثم تستقر في حياتها فتصبح تقليدا متبعا وقانونا نافذا. وإلا فهي الفوضى التي لا حدود لها:
(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله).. لا الذين يقولون بأفواههم ثم لا يحققون مدلول قولهم؛ ولا يطيعون الله ورسوله.
(وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه).. والأمر الجامع الأمر الهام الذي يقتضي اشتراك الجماعة فيه، لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة. فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم. كي لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام.
وهؤلاء الذين يؤمنون هذا الإيمان، ويلتزمون هذا الأدب، لا يستأذنون إلا وهم مضطرون؛ فلهم من إيمانهم ومن أدبهم عاصم ألا يتخلوا عن الأمر الجامع الذي يشغل بال الجماعة، ويستدعي تجمعها له.. ومع هذا فالقرآن يدع الرأي في الإذن أو عدمه للرسول [صلى الله عليه وسلم] رئيس الجماعة. بعد أن يبيح له حرية الإذن: (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم).. [وكان قد عاتبه على الإذن للمنافقين من قبل فقال: (عفا الله عنك! لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)].. يدع له الرأي فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن، فيرفع الحرج عن عدم الإذن، وقد تكون هناك ضرورة ملحة. ويستبقي حرية التقدير لقائد الجماعة ليوازن بين المصلحة في البقاء والمصلحة في الانصراف. ويترك له الكلمة الأخيرة في هذه المسألة التنظيمية يدبرها بما يراه.
ومع هذا يشير إلى أن مغالبة الضرورة، وعدم الانصراف هو الأولى؛ وأن الاستئذان والذهاب فيهما تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي [صلى الله عليه وسلم] للمعتذرين: (واستغفر لهم الله. إن الله غفور رحيم).. وبذلك يقيد ضمير المؤمن. فلا يستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به إلى الاستئذان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واستغفر لهم الله} مؤذن بأن ذلك الانصراف خلاف ما ينبغي، لأنه لترجيح حاجته على الإعانة على حاجة الأمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه). والمراد من «أمر جامع» كلّ عمل يقتضي اجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم، سواء كان عملا استشارياً، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو، أو صلاة جمعة في الظروف الاستثنائية وأمثالها...
كما يجب الانتباه إلى أنّ الإذن لا يعني الاستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصّة والتفرغ لتجارته. وإنّما أن يكون صادقاً في الاستئذان، فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضرراً، فمن حقه أن لا يأذن له، وعليه أن يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى. لهذا تضيف الآية: (إنّ الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم)...
و هنا يطرح سؤال: ما الغرض من هذا الاستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الإذن من الرّسول بالمغادرة، كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟ و للجواب على هذا السؤال هناك وجهان:
أحدهما: أن يستغفر لهم تنبيهاً على أنّ الأوْلى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لهم، لأن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصّة على مصلحة المسلمين، ولا يخلو هذا الأمر من «ترك الأولى» ولذا يحتاج الى الاستغفار كالاستغفار على عمل مكروه. كما تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الاستئذان بالقدر الممكن. واتباع التضحية و الإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أوْلى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.
و الوجه الثاني: يحتمل أنّه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتمسّكهم بآداب اللّه تعالى في الاستئذان. ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين، كما أنّه من الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقط. وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كلّ قائد إلهي... حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة. كما يحتمه إضافة إلى القرآن العقل والمنطق، لأنّ استمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادئ، ولا يمكن إدارة المجتمع بدونها.