معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

قوله { الحمد لله } لفظه خبر كأنه ، يخبر عن المستحق للحمد هو الله عز وجل ، وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله . والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة ، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة ، يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من نعمة ، وحمدته على علمه وشجاعته ، والشكر لا يكون إلا على النعمة ، والحمد أعم من الشكر ، إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه ، فكل حامد شاكر ، وليس كل شاكر حامدا . وقيل الحمد باللسان قولاً والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ) ( اعملوا آل داود شكراً ) . يعني اعملوا الأعمال لأجل الشكر ، فشكرا مفعول به وانتصب باعملوا . قوله : { لله } اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد . قوله { رب العالمين الرحمن الرحيم } فالرب يكون بمعنى المالك ، كما يقول لمالك الدار رب الدار ، ويقال رب الشيء إذا ملكه ، ويكون بمعنى التربية والإصلاح ، يقال : رب فلان الضيعة يربها إذا أتمها وأصلحها فهو رب ، مثل طب وبر ، فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم ولا يقال للمخلوق وهو الرب معرفاً ، إنما يقال رب كذا مضافاً لأن الألف واللام للتعميم ، وهو لا يملك الكل ، والعالمين جمع عالم والعالم ، جمع لا واحد له من لفظه ، واختلفوا في العالمين ، قال ابن عباس : هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب ، قال الله تعالى : { ليكون للعالمين نذيراً } وقال قتادة و مجاهد و الحسن : جميع المخلوقين . قال الله تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السماوات والأرض وما بينهما ) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم . قال أبو عبيد : أربع أمم الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين ، مشتق من العلم ولا يقال للبهائم عالم ، لأنها لا تعقل ، واختلفوا في مبلغهم . قال سعيد بن المسيب : لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفاً في البحر ، وأربعون ألفاً في البر ، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء ، وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين أحد إلا الله قال ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

{ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم }

{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .

{ رب العالمين } أي : مالكهم ، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئًا فشيئا درجة الكمال . وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيدًا فيقال : رب الدار ، ورب الضيعة أى : صاحبها ومالكها .

والعالمين : جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله - تعالى- . قال القرطبي : " وهو مأخوذ من العلم والعلامة ؛ لأنه يدل على موجده " . وقيل : المراد بالعالمين أولوا العلم من الإِنس والجن والملائكة .

وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ ، ولكي يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه ، حتى نبدأ ونحن في صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها ، وتجلو عن القلوب أصداءها . والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصًا لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه مما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد . ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، عن غير استحقاق لهم عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرًا .

فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذي لا يحد لله - تعالى - وأنه ليس لأحد أن ينازعه إياه - سبحانه - هو رب العالمين .

وجملة { الحمد للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم : " الكرم في العرب " . كما أن أل في الحمد " للاستغراق . أي : أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين .

وإنما كان الحمد مقصورًا في الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو في الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم علي .

ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال : احمدوا الله ، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { الحمد للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف : والتكليف قد تنفر منه النفوس أحيانًا ، فأراد - سبحانه – وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهد وها ، أن يؤنس نفوسهم ، ويؤلف قلوبهم ، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر ، ترفقا بهم ، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف .

وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة في ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { الحمد للَّهِ } ، دون قوله - تعالى - : المدح لله ، أو : الشكر لله . فقال : اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر . أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله ، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله .

أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان ، فثبت أن المدح أعم من الحمد . وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر ، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام . سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك . وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك ، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد ، وأن الحمد أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل : المدح لله ، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار . فكان قوله : " الحمد لله " تصريحًا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . . . وإنما لم يقل : الشكر لله ، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلي له وصول النعمة إليه . وهذه درجة حقيرة . فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإِخلاص أكمل ، واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت . وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبية للعالمين ، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده ، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم ، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم ، أما إذا كان موجهًا ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم ، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم . فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اجعلوا حمدكم وثناءكم لي وحدي . لأني أنا رب العالمين . وأنا الذي تعهدتكم برعايتي وتربيتي منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

القول في تأويل فاتحة الكتاب :

{ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ }

قال أبو جعفر : معنى : الحَمْدُ لِلّهِ : الشكر خالصا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعْبَد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الاَلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش من غير استحقاق منهم لذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرا .

وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه : الحَمْدُ لِلّهِ جاء الخبر عن ابن عباس وغيره :

حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «قل يا محمد : الحمد لله » .

قال ابن عباس : الحمد لله : هو الشكر ، والاستخذاء لله ، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه ، وغير ذلك .

وحدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حبيب ، عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذَا قُلْتَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ ، فَقَدْ شَكَرْتَ اللّهَ فَزَادَكَ » .

قال : وقد قيل إن قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى ، وقوله : «الشكر لله » ثناء عليه بنعمه وأياديه .

وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال : الحمد لله ثناء على الله . ولم يبين في الرواية عنه من أيّ معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثني عمر ابن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : أخبرني السلولي ، عن كعب قال : من قال : «الحمد لله » فذلك ثناء على الله .

وحدثني عليّ بن الحسن الخراز ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي ، قال : حدثنا محمد بن مصعب القرقساني ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ الحَمْدُ مِنَ اللّهِ تَعالى ، ولِذَلِكَ أَثْنَى على نَفْسِهِ فَقالَ : الحَمْدُ لِلّهِ » .

قال أبو جعفر : ولا تَمَانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ شكرا بالصحة . فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحا ، أن الحمد لله قد يُنْطَق به في موضع الشكر ، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد ، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال الحمد لله شكرا ، فيخرج من قول القائل «الحمد لله » مصدر «أشكُر » ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه .

فإن قال لنا قائل : وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلاّ قيل : حمدا لله ربّ العالمين قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد معنى لا يؤديه قول القائل «حمدا » ، بإسقاط الألف واللام وذلك أن دخولهما في الحمد منبىءٌ على أن معناه : جميع المحامد والشكر الكامل لله . ولو أُسقطتا منه لما دلّ إلا على أن حَمْدَ قائلِ ذلك لله ، دون المحامد كلها . إذْ كان معنى قول القائل : «حمدا لله » أو «حمدٌ الله » : أحمد الله حمدا ، وليس التأويل في قول القائل : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ تاليا سورة أم القرآن أحمد الله ، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه ، بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كفء لها في الدين والدنيا والعاجل والاَجل .

ولذلك من المعنى ، تتابعت قراءة القراءة وعلماء الأمة على رفع الحمد من : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمينَ دون نصبها ، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك : أحمد الله حمدا . ولو قرأ قارىء ذلك بالنصب ، لكان عندي محيلاً معناه ومستحقّا العقوبة على قراءته إياه كذلك إذا تعمد قراءته كذلك وهو عالم بخطئه وفساد تأويله .

فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : الحمد لله ؟ أَحَمَد اللّهُ نفسَه جل ثناؤه فأثنى عليها ، ثم عَلّمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا : إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ وهو عز ذكره معبود لا عابد ؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما .

قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل ، ثم عَلّم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته ، اختبارا منه لهم وابتلاء ، فقال لهم : قولوا «الحمد لله ربّ العالمين » وقولوا : «إياك نعبد وإياك نستعين » فقوله : إياك نعبد ، مما عَلّمَهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه . وذلك موصول بقوله الحمد لله ربّ العالمين ، وكأنه قال : قولوا هذا وهذا .

فإن قال : وأين قوله : «قولوا » فيكون تأويل ذلك ما ادّعيت ؟ قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت ، حَذْفُ ما كفى منه الظاهر من منطقها ، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولاً أو تأويل قول ، كما قال الشاعر :

واعْلَمُ أنّني سأكُونُ رَمْسا *** إذَا سارَ النّوَاعجُ لا يَسيرُ

فَقالَ السّائلُونَ لِمَنْ حَفَرْتُمْ *** فَقالَ المُخْبرُونَ لَهُمْ وَزيرُ

قال أبو جعفر : يريد بذلك : فقال المخبرون لهم : الميت وزير ، فأسقط «الميت » ، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك . وكذلك قول الاَخر :

ورَأيْتِ زَوْجَكِ في الوَغَى *** مُتَقَلّدا سَيْفا وَرُمْحَا

وقد علم أن الرمح لا يتقلد ، وإنما أراد : وحاملاً رمحا . ولكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه . وقد يقولون للمسافر إذا ودّعوه : مُصَاحَبا مُعافى ، يحذفون سِرْ واخْرُجْ إذْ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره . فكذلك ما حُذِف من قول الله تعالى ذكره : ( الحمدُ لِلّهِ ربّ العَالمينَ ) لمّا عُلِم بقوله جل وعزّ : ( إياك نَعْبُد ) ما أراد بقوله : الحمد لله ربّ العالمين من معنى أمره عباده ، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حُذف .

وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تفسير قول الله : ( الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ ) عن ابن عباس ، وأنه كان يقول : إن جبريل قال لمحمد : قل يا محمد : الحمد لله ربّ العالمين . وبَيّنا أن جبريل إنما عَلّمَ محَمّدا صلى الله عليه وسلم ما أُمِر بتعليمه إياه . وهذا الخبر ينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك .

القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ } .

قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو «الله » في «بسم الله » ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع . وأما تأويل قوله «رَبّ » ، فإن الربّ في كلام العرب متصرف على معان : فالسيد المطاع فيها يدعى ربّا ، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة :

وأهْلَكْنَ يَوْما رَبّ كِنْدَةَ وابنَه *** *** وَرَبّ مَعَدّ بينَ خَبْتٍ وعَرْعَرِ

يعني بربّ كندة : سيدَ كندة . ومنه قول نابغة بني ذبيان :

تَخُبّ إلى النّعْمانِ حَتّى تَنالَهُ *** فِدًى لَكَ منْ رَبَ طَريفي وتالِدِي

والرجل المصلح للشيء يدعى رَبّا . ومنه قول الفرزدق بن غالب :

كانُوا كسَالِئَةٍ حَمْقاءَ إذْ حَقَنَت *** سِلأَها في أدِيمٍ غَيْرِ مَرْبُوبِ

يعني بذلك في أديم غير مصلح . ومن ذلك قيل : إن فلانا يَرُبّ صنيعته عند فلان ، إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها . ومن ذلك قول علقمة بن عبدة :

فكنْتَ امْرَأً أفْضَتْ إلَيْكَ رِبابَتي *** وقَبْلَكَ رَبّتْني فَضِعْتُ رُبُوبُ

يعني بقوله أفضت إليك : أي أوصلت إليك ربابتي ، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه لما خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ ، فضيعوا أمري وتركوا تفقده . وهم الرّبوب واحدهم رَبّ والمالك للشيء يدعى رَبّه . وقد يتصرّف أيضا معنى الرب في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة .

فربنا جل ثناؤه ، السيد الذي لا شِبْه له ، ولا مثل في سؤدده ، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر .

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه ( رَبّ العالَمِينَ ) جاءت الرواية عن ابن عباس .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : «يا محمد قل الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ » . قال ابن عباس : يقول قل الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات كلهن ومن فيهن ، والأرَضون كلهن ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ومما لا يُعلم . يقول : اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء .

القول في تأويل قوله تعالى : { العَالَمِينَ } .

قاله أبو جعفر : والعالمون جمع عالم ، والعالَم جمع لا واحد له من لفظه ، كالأنامِ والرهط والجيش ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه . والعالَم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالَم ، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالَم ذلك القرن وذلك الزمان ، فالإنس عالم وكل أهل زمان منهم عالَم ذلك الزمان . والجن عالَم ، وكذلك سائر أجناس الخلق ، كل جنس منها عالم زمانه . ولذلك جُمِع فقيل «عالَمون » ، وواحده جمع لكون عالَم كل زمان من ذلك عالَم ذلك الزمان . ومن ذلك قول العجاج :

*** *** فَخِنْدِفُ هامَةُ هَذَا العالَمِ

فجعلهم عالم زمانه . وهذا القول الذي قلناه قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير ، وهو معنى قول عامة المفسرين .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { الحمد لله ربّ العالمين } الحمد لله الذي له الخلق كله ، السموات والأرض ومن فيهن وما بينهن ، مما يُعلم ولا يُعلم .

وحدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ربّ العالمين : الجنّ والإنس .

وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله جل وعزّ : ربّ العالمين : قال : ربّ الجن والإنس .

وحدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { رب العالمين } قال : الجن والإنس .

وحدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : ابن آدم ، والجن والإنس كل أمة منهم عالَم على حِدَته .

وحدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ قال : الإنس والجنّ .

وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : بمثله .

وحدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : رَبّ العالَمِينَ قال : كل صنف : عالَم .

وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { رَبّ العالَمِينَ } قال : الإنس عالَم ، والجن عالَم ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعة عشر ألف عالم ( وهو يشك ) من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم ، خلقهم لعبادته .

وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا حجاح ، عن ابن جريج ، في قوله : رَبّ العالَمِينَ قال : الجن والإنس .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (2)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2 )

{ الحمد } معناه الثناء الكامل ، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد ، وهو أعم من الشكر ، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدى إلى الشاكر ، وشكره حمد ما ، والحمد المجرد( {[13]} ) هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يسدي شيئاً ، فالحامد من الناس قسمان : الشاكر والمثني بالصفات .

وذهب الطبري إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، وذلك غير مرضي . ( {[14]} )

وحكي عن بعض الناس أنه قال : «الشكر ثناء على الله بأفعاله وأنعامه ، والحمدُ ثناء بأوصافِه » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا أصح معنى من أنهما بمعنى واحد . واستدل الطبري على أنهما بمعنى ، بصحة قولك الحمد لله شكراً . وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه . لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد أنه على نعمة من النعم . وأجمع السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله » .

وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج «الحمدَ لله » بفتح الدال وهذا على إضمار فعل .

وروي عن الحسن بن الحسن وزيد بن علي : «الحمدِ لله » ، بكسر الدال على إتباع الأول الثاني .

وروي عن ابن أبي عبلة( {[15]} ) : «الحمدُ لُله » ، بضم الدال واللام ، على اتباع الثاني الأول .

قال الطبري : { الحمد لله } ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه ، فكأنه قال : «قولوا الحمد لله » وعلى هذا يجيء «قولوا إياك » قال : وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :

وأعلَمُ أنني سأكونُ رمساً . . . إذا سار النواعِجُ لا يسيرُ

فقالَ السائلونَ لِمَنْ حفرْتُمْ . . . فقال القائلونَ لهمْ وزيرُ( {[16]} )

المعنى المحفور له وزير ، فحذف لدلالةِ ظاهرِ الكلامِ عليه ، وهذا كثير .

وقرأت طائفة «ربَّ » بالنصب .

فقال بعضهم : «هو نصب على المدح » .

وقال بعضهم : «هو على النداء ، وعليه يجيء { إياك } » .

والرب في اللغة : المعبود ، والسيد المالك ، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد منها ، والملك ، - تأتي اللفظة لهذه المعاني- .

فمما جاء بمعنى المعبود قول الشاعر [ غاوي بن عبد العزى ] :

أربّ يبولُ الثعلبان برأسه . . . لقد هانَ من بالَتْ عليه الثَّعالبُ( {[17]} )

ومما جاء بمعنى السيد المالك قولهم : رب العبيد والمماليك .

ومما جاء بمعنى القائم بالأمور الرئيس فيها قول لبيد :

وأهلكن يوماً ربَّ كندة وابنَهُ . . . وربَّ معدٍّ بين خَبْتٍ وعَرْعَرٍ( {[18]} )

ومما جاء بمعنى الملك قوله النابغة :

تخبُّ إلى النعمان حتّى تنالَهُ . . . فدى لك من ربٍّ طريفي وتالدي( {[19]} )

ومن معنى الإصلاح قولهم : أديم مربوب ، أي مصلح ، قال الشاعر( {[20]} ) الفرزدق : [ البسيط ] .

كانوا كسالئةٍ حمقاء إذْ حقنتْ . . . سلاءَها في أديمٍ غيرِ مَرْبُوبِ

ومن معنى الملك قول صفوان بن أمية لأخيه يوم حنين : «لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن »( {[21]} ) .

ومنه قول ابن عباس في شأن عبد الله بن الزبير ، وعبد الملك بن مروان : «وإن كان لا بد لأن يربني رجل من بني عمي أحبّ إليّ من أن يربني غيرهم »( {[22]} ) . ذكره البخاري في تفسير سورة براءة . ومن ذلك قول الشاعر علقمة بن عبدة : [ الطويل ] .

وكنت أمرءاً أفضت إليك ربابتي . . . ومن قبل ربتني فضعت ربوبُ( {[23]} )

وهذه الاستعمالات قد تتداخل ، فالرب على الإطلاق الذي هو رب الأرباب على كل جهة هو الله تعالى .

و { العالمين } جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، يقال لجملته عالم ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم ، وبحسب ذلك يجمع على العالمين ، ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر حسن جمعها( {[24]} ) ، ولفظة العالم جمع لا واحد له من لفظه وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجاج .


[13]:- أي في غير مقابلة النعمة.
[14]:- أي لأن الدليل الذي استدل به لا يشهد له، كما قال المؤلف بعد: «وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه». إلخ.
[15]:- هو إبراهيم بن أبي عبلة، بن يقظان، بن المرتحل، أبو إسماعيل المقدسي، تابعي، له حروف في القراءات، واختيار خالف فيه العامة، أخذ القراءة عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، قال: قرأت القرآن عليه سبع مرات، ويقال: إنه قرأ على الزهري، وروى عنه وعن أبي أمامة، وروى عنه مالك بن أنس، وابن المبارك. توفي سنة 153هـ.
[16]:- جاء في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ الجزء الثالث صفحة166 ما نصه: وقال الوزيري: وأعلم أنـني سأصير مـيتا *** إذا سار النواعج لا أسير وقال السائلون: من المُسَجَّى؟ *** فقال المخبرون لهم: وزير والمسجى الملتف في أكفانه، والنواعج الإبل السراع، جمع ناعجة، والبيتان في (الجامع لأحكام القرآن)1/118 بلفظ (القائلون)، بدلا من (المخبرون).
[17]:- قال في القاموس: كان غاوي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينما هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه، فقال البيت، ثم قال: يا معشر سليم، لا والله لا يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وبان من هذا أن قائل البيت بن عبد العزى، وأن كلمة (الثعلبان) هي تثنية (ثعلب) وفي حياة الحيوان للدميري إثبات أنه ليس بتثنية، وإنما هو ذكر الثعالب فتكون بضم الثاء واللام.
[18]:- الخبت: المطمئن من الأرض فيه رمل،والخبت والعرعر هنا مكانان معينان.
[19]:- بعده: و كنت امرءا لا أمدح الدهر سوقة فلست على خير أتاك بحاسد امتن عليه بمدحه، وجعله خيرا سيق إليه لا يحسده عليه، وهذا مما أخذ عليه والخَبَبُ ضرب من السير.
[20]:- هو الفرزدق – من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان، وهو في البيت يذم قوما، ويشبههم ببدوية حمقاء، وضعت سمنها في زق غير صالح ففسد. وسلأت: معناها طبخت، يقال: سلأت السمن واستلأته، وذلك إذا طبخ وعولج. وحقنت معناه: صبت: من حقن اللبن في السقاء يحقنه حقنا: صبه فيه ليخرج زبده "والسلاء بالكسر ممدود": هو السمن.
[21]:- لما بلغ خبر هزيمة حنين إلى مكة سر بذلك قوم، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها. وقال آخر وهو أخ صفوان لأمه: «ألا قد بطل السحر اليوم»، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: «اسكت، فض الله فاك، والله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان». انظر السيرة الحلبية.
[22]:- بنو عمه "بنو أمية"، وغيرهم هم "بنو أسد"، فبنو أمية أقرب إلى ابن عباس نسبا من بني أسد، وإنما قال هذا لما كان بينه وبين ابن الزبير من سوء التفاهم.
[23]:- قائله علقمة بن عبدة، ويعني بقوله أفضت إليك، وصلت إليك ربابتي بكسر الراء، فصرت أنت الذي ترب أمري وتصلحه، لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك، فضيعوا أمري، وهم الربوب جمع رب، وفي رواية: "ومن قبل" وستأتي عند المؤلف، وفي اللسان: ربه يربه ربا: ملكه.
[24]:- فكل قرن وجيل منها يسمى عالما أيضا، ومن ثم حسن جميع الأجيال والقرون من كل شيء في العالمين.