قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين : بيت المقدس قبلتنا ، وهو أفضل من الكعبة وأقدم ، وهو مهاجر الأنبياء ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل ، فانزل الله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا } . وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس . واختلف العلماء في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي } . فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته ، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي . وقال بعضهم : هو أول بيت بني في الأرض .
روي عن علي بن الحسين : أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور ، وأمر الملائكة أن يطوفوا به ، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدرة ، فبنوه واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام ، فكانوا يحجونه ، فلما حجه آدم قالت له الملائكة : بر حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام ، ويروى عن ابن عباس أنه قال : أراد به ، أنه أول بيت بناه آدم في الأرض وقيل : هو أول بيت مبارك وضع هدى للناس ، يعبد الله فيه ، ويحج إليه ، وقيل : أول بيت جعل قبلة للناس . وقال الحسن والكلبي : معناه أنه أول مسجد ومتعبد وضع للناس ، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب . قال الضحاك : أول بيت وضع فيه البركة ، وقيل : أول بيت وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى : ( في بيوت أذن الله أن ترفع ) يعني المساجد .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الواحد ، أنا الأعمش ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا ذر يقول : " قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم كان بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : أينما أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه " . قوله تعالى ( للذي ببكة ) . قال جماعة : هي مكة نفسها ، وهو قول الضحاك ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سيد رأسه وسمده ، وضربه لازب ولازم ، وقال الآخرون بكة موضع البيت في مكة ، ومكة اسم البلد كله . وقيل : بكة موضع البيت والمطاف ، سميت بكة لأن الناس يتباكون فيها ، أي يزدحمون يبك بعضهم بعضا ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، . وقال عبد الله بن الزبير : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة ، أي تدقها فل يقصدها جبار بسور إلا قصمه الله . وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها ، من قول العرب : " مك الفصيل ضرع أمه وأمتكه " إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها { مباركاً } نصب على الحال ، أي : ذا بركة { وهدى للعالمين } لأنه قبلة المؤمنين { فيه آيات بينات } قرأ ابن عباس( آية بينة ) على الواحد ، وأراد مقام إبراهيم وحده ، وقرأ الآخرون { آيات بينات } بالجمع ، فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم ، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، ومن تلك الآيات في البيت الحجر السود ، والحطيم ، وزمزم والمشاعر كلها ، وقيل : مقام إبراهيم جميع الحرم ، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه ، وأن الجارحة إذا قصدت صيداً فإذا دخل الصيد الحرم كفت عنه ، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيها تضاعف بمائة ألف .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو محمد بن الحسن بن احمد المخلدي ، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، أخبرنا أبو مصعب احمد بن أبي بكر الزهري ، أنا مالك بن أنس ، عن زيد بن رباح ، أخبرنا عبد الله بن عبد الله الأغر ، عن أبي عبد الله الأعمش عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ، فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . من أن يهاج فيه ، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال ( رب اجعل هذا بداً آمناً ) وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضاً ، ويغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة ، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم ) وقيل : المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمناً ، كما قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) وقيل : هو خبر بمعنى الأمر تقديره : ومن دخله فأمنوه ، كقوله تعالى( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصاً أو حدا ، ً فالتجأ إلى الحرم فلا يستوفى منه فيه ولكنه لا يطعم ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج منه فيقتل قاله ابن عباس ، وبه قال أبو حنيفة ، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يستوفى فيه ، أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم فيستوفي فيه عقوبته بالاتفاق . وقيل معناه : ومن دخله معظماً له ، متقرباً إلى الله عز وجل كان آمناً يوم القيامة من العذاب .
ثم أخبر القرآن عن مسألة أخرى جادل اليهود فيها النبى صلى الله عليه وسلم وهى مسألة أفضلية المسجد الحرام على غيره من المساجد ، وقد رد القرآن عليهم وعلى أمثالهم فى الكفر والعناد بما يثبت أن المسجد الحرام الذى نازعوا فى أفضليته هو أفضل المساجد على الإطلاق فقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : فى اتصال هاتين الآيتين بما قبلهما وجوه :
الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود فى نبوته وقالوا : إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ، وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض الحشر ، وقبلة جملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا ، فأجاب الله عنه بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فبين - سبحانه - أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى " .
والمراد بالأولية أنه أول بيت وضعه الله لعبادته فى الأرض ، وقيل المراد بها كونه أولا فى الوضع وفى البناء ، ورووا فى ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه .
وبكة : لغة فى مكة عند الأكثرين ، والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً ، ومنه النميط والنبيط فهما اسم لموضع . وقيل هما متغايران : فبكة موضع المسجد ومكة اسم البلد بأسرها . وأصل كلمة بكة من البك وهو الازدحام . يقال تباك القوم إذا تزاحموا ، وكأنها سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها . والبك أيضاً دق العنق ، وكأنها سميت بكة لأن الجبابرة تندق أعناقهم إذا أرادوها بسوء . وقيل إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها ، وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها .
والمعنى : إن أول بيت وضعه الله - تعالى - للناس فى الأرض ليكون متعبداً لهم ، هو البيت الحرام الذى بمكة ، حيث يزدحم الناس أثناء طوافهم حوله ، وقد أتوا إليه رجالا وعلى كل ضامر من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم .
روى الشيخان عن أبى ذر قال : " قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع فى الأرض أول ؟ قال : المسجد الحرام . قلت : ثم آي ؟ قال المسجد الأقصى . قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ، ثم قال : حيثما أدركتك الصلاة فصل . والأرض لك مسجد " .
قالوا : وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد منه فقال : معلوم أن سليمان بن داود هو الذى بنى المسجد الأقصى ، والذى بنى المسجد الحرام هو إبراهيم وابنه إسماعيل ، وبينهما وبين سليمان أكثر من ألف سنة فيكف قال صلى الله عليه وسلم : إن بين بناء المسجدين أربعين سنة !
والجواب أن الوضع غير البناء ، فالذى أسس المسجد الأقصى ووضعه فى الأرض بأمر الله سيدنا يعقوبن بن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب هذه المدة التى جاءت في الحديث ، أما سليمان فلم يكن مؤسساً للمسجد الأقصى أو واضعاً له وإنما كان مجددا فلا إشكال ولا منافاة .
وإذن فالبيت الحرام أسبق بناء من المسجد الأقصى ، وأجمع منه للديانات السماوية ، وهو - أى البيت الحرام - أول بيت جعل الله الحج إليه عبادة مفروضة على كل قادر على الحج ، وجعل الطوف حوله عبادة ، وتقبيل الحجر الأسود الذى هو ضمن بنائه عبادة .
. . ولا يوجد بيت سواه فى الأرض له من المزايا والخصائص ما لهذا البيت الحرام .
وبذلك ثبت كذب اليهود فى دعواهم أن المسجد الأقصى أفضل من المسجد الحرام ، وأن فى تحول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فى صلاته مخالفة للأنبياء قبله .
ثم مدح الله - تعالى - بيته بكونه { مُبَارَكاً } أى كثير الخير دائمه ، من البركة وهى النماء والزيادة والدوام .
أى أن هذا البيت كثير الخير والنفع لمن حجه أو اعتمره أو اعتكف فيه ، أو طاف حوله ، بسبب مضاعفة الأجر ، وإجابة الدعاء ، وتكفير الخطايا لمن قصده بإيمان وإخلاص وطاعة لله رب العالمين .
وإن هذا البيت فى الوقت ذاته وفير البركات المادية والمعنوية .
فمن بركاتع المادية : قدوم الناس إليه من مشارق الإرض ومغاربها ومعهم خيرات الأرض ، يقدمونها على سبيل تبادل المنفعة تارة وعلى سبيل الصدقة تارة أخرى لمن يسكنون حول هذا البيت الحرام ، إجابة لدعوة سيدنا إبراهيم حيث قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ومن بركاته المعنوية : أنه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهى فريضة الحج ، وإليه يتجه المسلمون فى صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .
وقوله { مُبَارَكاً } حال من الضمير فى " وضع " .
ثم مدحه بأنه { هُدًى لِّلْعَالَمِينَ } آي بذاته مصدر هداية للعالمين ، لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، وفى استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير وإلى ما يوصلهم إلى رضا الله وجنته .
{ إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : إن أوّل بيت وضع للناس يعبد الله فيه مباركا وهدى للعالمين ، الذي ببكة . قالوا : وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض ، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السرّي ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عُرعرة ، قال : قام رجل إلى عليّ ، فقال : ألا تخبرني عن البيت ، أهو أوّل بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ، ولكنه أوّل بيت وضع في البركة مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت خالد ابن عرعرة قال : سمعت عليا ، وقيل له : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ } هو أول بيت كان في الأرض ؟ قال : لا قال : فأين كان قوم نوح ؟ وأين كان قوم هود ؟ قال : ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا وهدى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سأل حفص الحسنَ وأنا أسمع ، عن قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } قال : هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض .
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي ، قال : حدثنا ضمرة ، عن ابن شوذب ، عن مطر في قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ } قال : قد كانت قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للعبادة .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن ، قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ } يعبد الله فيه { للّذِي بِبكّةَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } قال : وضع للعبادة .
وقال آخرون : بل هو أوّل بيت وضع للناس . ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل ، فقال بعضهم : خُلِق قبل جميع الأرضين ، ثم دْحِيَت الأرضون من تحته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذا كان عرشه على الماء ، زِبْدَةً بيضاء ، فَدُحيت الأرض من تحته .
حدثني محمد بن عبد الله بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سمعت مجاهدا يقول : إن أوّل ما خلق الله الكعبة ، ثم دَحَى الأرض من تحتها .
حدثني محمد بن عمرو : قال حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ } كقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ للنّاسِ } .
حدثني محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا وهُدًى للْعَالِمينَ } أمّا أوّل بيت ، فإنه يوم كانت الأرض ماء ، وكان زَبْدة على الأرض ، فلما خلق الله الأرض ، خلق البيت معها ، فهو أوّل بيت وضع في الأرض .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } قال : أوّل بيت وضعه الله عزّ وجلّ ، فطاف به آدم ومن بعده .
وقال آخرون موضع الكعبة ، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذُكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط ، قال : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي . فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمن الطوفان زمن أغرق الله قوم نوح رفعه الله وطهره من أن يصيبه عقوبة أهل الأرض ، فصار معمورا في السماء . ثم إن إبراهيم تتبع منه أثرا بعد ذلك ، فبناه على أساس قديم كان قبله .
والصواب من القول في ذلك : ما قال جلّ ثناؤه فيه : إن أوّل بيت مبارك وهدى وضع للناس ، للذي ببكة . ومعنى ذلك : إن أوّل بيت وضع للناس : أي لعبادة الله فيه مباركا وهدى ، يعني : بذلك ومآبا لنسك الناسكين وطواف الطائفين ، تعظيما لله وإجلالاً له¹ للّذي ببكة¹ لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما :
حدثنا به محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر ، قال : قلت يا رسول الله ، أيّ مسجد وضع أوّل ؟ قال : «المَسْجدُ الحَرامُ » قال : ثم أيّ ؟ قال : «المَسْجدُ الأقْصَى » قال : كم بينهما ؟ قال : أرْبَعُونَ سَنَةٌ » .
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض على ما قلنا ، فأما في وضعه بيتا بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة ، ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضه في هذا الموضع وبعض في سورة البقرة وغيرها من سور القرآن وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : { للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } فإنه يعني : للبيت الذي بمزدحم الناس لطوافهم في حجهم وعمرهم وأصل البكّ : الزحم ، يقال منه : بَكّ فلان فلانا : إذا زحمه وصدمه ، فهو يَبُكّه بَكّا ، وهم يَتَباكّون فيه : يعني به : يتزاحمون ويتصادمون فيه ، فكان بَكّة : «فَعْلَة » من بَكّ فلانٌ فلانا : زحمه ، سميت البقعة بفعل المزدحمين بها . فإذا كانت بكة ما وصفنا ، وكان موضع ازدحام الناس حول البيت ، وكان لا طواف يجوز خارج المسجد ، كان معلوما بذلك أن يكون ما حول الكعبة من داخل المسجد ، وأن ما كان خارج المسجد فمكة لا بكة¹ لأنه لا معنى خارجه يوجب على الناس التباكّ فيه . وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا بذلك فساد قول من قال بكة : اسم لبطن مكة ، ومكة : اسم للحرم .
ذكر من قال في ذلك ما قلنا ، من أن بكة في موضع مزدحم الناس للطواف :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك الغفاري في قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } قال : بكة : موضع البيت ، ومكة : ما سوى ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن أبي جعفر ، قال : مرّت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي ، وهي تطوف بالبيت ، فدفعها . قال أبو جعفر : إنها بكة يبكّ بعضها بعضا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا سلمة ، عن مجاهد ، قال : إنما سميت بكّة ، لأن الناس يتباكّون فيها ، الرجال والنساء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حماد ، عن سعيد ، قال : قلت أيّ شيء سميت بكة ؟ قال : لأنهم يتباكّون فيها ، قال : يعني يتزاحمون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، عن أخيه ، عن ابن الزبير ، قال : إنما سميت بكة لأنهم يأتونها حجاجا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ مُبارَكا } فإن الله بكّ به الناس جميعا ، فيصلي النساء قدّام الرجال ، ولا يصلح ببلد غيره .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : «بكة » : بكّ الناسُ بعضهم بعضا ، الرجال والنساء يصلي بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي ، قال : «بكة » : موضع البيت ، و «مكة » : ما حولها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أزهر ، عن غالب بن عبيد الله أنه سأل ابن شهاب عن بكة . قال : «بكة » البيت والمسجد . وسأله عن مكة . فقال ابن شهاب : «مكة » : الحرم كله .
حدثنا الحسين . قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج . عن عطاء ومجاهد ، قالا «بكة » : بكّ فيها الرجال والنساء .
حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي . قال : قال ضمرة بن ربيعة : «بكة » : المسجد . و«مكة » : البيوت . وقال بعضهم بما :
حدثني به يحيى بن أبي طالب . قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبكّةَ } قال : هي مكة .
وقيل : { مُبارَكا } لأن الطواف به مغفرة للذنوب ، فأما نصب قوله : { مُبَاركا } فإنه على الخروج من قوله : { وُضِعَ }¹ لأن في «وضع » ذكرا من البيت هو به مشغول وهو معرفة ، و «مبارك » نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب . وأما على قول من قال : هو أول بيت وضع للناس على ما ذكرنا في ذلك قول من ذكرنا قوله ، فإنه نصب على الحال من قوله : { للّذِي بِبكّةَ }¹ لأن معنى الكلام على قولهم : إن أوّل بيت وضع للناس ، البيت ببكة مباركا . فالبيت عندهم من صفته «الذي ببكة » ، و «الذي » بصلته معرفة ، و «المبارك » نكرة¹ فنصب على القطع منه في قول بعضهم . وعلى الحال في قول بعضهم . و «هدى » في موضع نصب على العطف على قوله «مباركا » .
وقرأ جمهور الناس : «وُضع » على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله ، فالآية على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول ، وقرأ عكرمة ، «وَضع » بفتح الواو والضاد ، فيحتمل أن يريد : وضع الله ، فيكون المعنى منقطعاً كما هو في قراءة الجمهور ، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام ، فيكون المعنى متصلاً بالذي قبله ، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته ، في الحج وغيره على ما روى عكرمة : أنه لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } الآية : قال اليهود : نحن على الإسلام فقرئت ، { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] قيل له : أحجهم يا محمد ، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام ، قلت ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما ؟ قال ( أربعون سنة ) {[3337]} ، فيظهر من هذا أنهما من وضع إبراهيم جميعاً ، ويضعف ما قال الزجّاج : من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن داود ، اللهم إلا أن يكون جدده ، وأين مدة سليمان ، من مدة إبراهيم ؟ ولا مرية في أن إبراهيم وضع بيت مكة ، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد ؟ واختلف المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله : { إن أول } فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : معنى الآية أن أول بيت وضع مباركاً وهدى هذا البيت الذي ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى ، وقال قوم : بل هو أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض{[3338]} .
قال الفقيه القاضي أبو محمد : ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض ، ونحو ما قال الزجّاج : من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف فلذلك تركتها ، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديداً ، قال قتادة : ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان{[3339]} ، واختلف الناس في { بكة } ، فقال الضحاك وجماعة من العلماء : «بكة » هي مكة ، فكأن هذا من إبدال الباء بالميم ، على لغة مازن وغيرهم ، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة من العلماء مكة الحرم كله ، و «بكة » مزدحم الناس حيث يتباكون ، وهو المسجد وما حول البيت ، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية : «بكة » موضع البيت ، ومكة غيره من المواضع ، قال ابن القاسم : يريد القرية ، قال الطبري : ما خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة ، وقال قوم : «بكة » ، ما بين الجبلين ومكة ، الحرم كله ، و { مباركاً } نصب على الحال ، والعامل فيه على قول علي بن أبي طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال ، قوله : { وضع } والعامل فيه على القول الآخر الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله { ببكة } تقديره : استقر ببكة مباركاً ، وفي وصف البيت ب { هدى } مجازية بليغة ، لأنه مقوم مصلح ، فهو مرشد ، وفيه إرشاد ، فجاء قوله ، { وهدى } بمعنى وذا هدى ، ويحتمل أن يكون { هدى } في هذه الآية ، بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعي العالمون إليه .